امرأة بشعر شمشون ورجل يسند عمارة بكفه

اختتام «مهرجان بيروت لعروض الشارع» بعد شهر من النشاطات

TT

كان الختام مسكاً. وبعد ما يتجاوز الشهر من النشاطات، اختتم «مهرجان بيروت لعروض الشارع» نهاية الأسبوع الماضي، مع فنانين ألمانيين قدم كل منهما عرضاً منفرداً لكنه يمتّ بصلة قرابة فنية حميمة للآخر. فالألمانية ماري ستراك ولمدة ثلاثة أيام متوالية جلبت الفوضى لشوارع بيروت لأنها عرقلت المارة والسائقين بعد ان ظهرت معلقة من شعرها بخطاف حديدي متحرك كبير، وهي تتأرجح في الهواء.

توقّف الناس بذهول أمام امرأة مشدودة من شعرها الأشقر يحركها الخطاف الطالع من سيارة شحن ضخمة ويتراقص بها في الفضاء، مرتدية فستانها النيلوني الأحمر المنفوخ من أسفل، ووجهها مرتاحة تقاسيمه، لا تبدو معذبة ولا متألمة بل على العكس، تحرك ذراعيها بتناغم مع الموسيقى الإيقاعية ثم تخرج حذاء مطاطياً من فتحة الثوب وتأخذ تخبط به بما ينسجم والموسيقى في حوض ماء جهز خصيصاً لهذا الغرض، قبل ان ينتشلها الخطاف مرة أخرى من مقربة الحوض ويعود بها سالمة إلى مؤخرة سيارة الشحن.

أكثر من نصف ساعة، والمتفرجون المشدوهون أمام هذا العرض المحير حاولوا الاجتهاد تفسيراً لقوة المرأة العجيبة المتمركزة على الطريقة الشمشونية في شعرها. لكن أحداً لا يبدو انه استطاع حل اللغز قبل ان تنتهي اللعبة وتعمد المرأة إلى خلع فستانها الناري التمويهي الذي خبأ تحته السر. فقد تبين ان المرأة كانت جالسة على ما يشبه الكرسي المعدني المختزل الصاعدة أجزاء منه وصولاً إلى الخطّاف . وان الشعر المشدود كان خدعة صرفت النظر أو حتى تصور وتخيل ما أخفته المرأة تحت فستانها.

وبينما كانت ستراك تؤدي عرضها هذا، وسط بيروت، كان مواطنها جوهان لوربيير محاطاً بطلابٍ خرجوا من الجامعة الأميركية في شارع بليس وتحلقوا حوله يستفهمون عن سره.

وجوهان هذا بدا أكثر إثارة من ماري لأنه وقف مرتفعاً عن الأرض ما يقارب المتر ورجلاه تتأرجحان في الهواء سانداً كفه اليسرى إلى الحائط، وهو يبتسم للذهول في العيون التي تحدق به، فهذا يحاول ان يلمسه، وذاك يسأله عن سره، وآخر يمرر يده تحت قدميه ليتأكد من انه طائر في الهواء. وزيادة في الاثارة يطلب جوهان فنجان قهوة ثم يبدأ بتدخين سيجارة مؤكداً انه يستطيع ان يبقى طائراً هكذا لساعات. سيدة متفرجة قالت: «ان الرجل لبسه الجن»، وآخرون بحلقوا رعباً، وهربوا جرياً، وهناك من أخذ يسأل كيف بإمكانه ان يتعرف على خفايا اللعبة الغريبة، فجاء تأكيد من الرجل الألماني الذي لم يتوقف عن الإجابة على الأسئلة الكثيرة التي تطرح عليه انه سينزل من مكانه بعد وقت ليس بالطويل، وسيرى الجميع الأمور على حقيقتها، وإلى حينها رفض ان ينزع يده عن الجدار من مكانها لأنه يسند بها حائط المبنى كما قال كي لا ينهار.

وبعد ان دبت الحيرة والتململ جاء أحدهم بسلم صغير وصعد إلى مستوى موازٍ لجوهان الذي نزع كفه أخيراً عن الجدار فإذا هي لابسة لكف بلاستيكية معلقة على الحائط ثم أخذ الرجل يخلع عنه بدلته: الجاكيت أولاً ثم القميص والشبان والشابات يصفقون ويصفرون وازداد الهرج والمرج وهو يخلع بنطاله ويتبين ان تقنيته مشابهة تماماً لتلك التي استخدمتها مواطنته. فمن تلك اليد البلاستيكية وصولاً إلى القدمين الطائرتين ثمة آلة معدنية مدروسة بإتقان يستطيع ان يجلس بها الرجل ومن ثم يلبس بدلته لتخفي كل شيء ويظهر وكأنه يحلق عالياً بأعجوبة غير مفسرة بأي منطق قد يخطر على البال.

كلا العرضين حصد حماسة المتفرجين ورغبتهم في الوصول إلى تفسير. عروض الشارع من مسرحية وترفيهية مألوفة في أوروبا لكنها في لبنان ليست كذلك. وقد أحسن «زيكو هاوس» في تنظيم مهرجان عروض الشارع للسنة الثانية على التوالي، فبعد ان خفت وهج المسرح حد الهمود، وتقاعس الناس عن الذهاب لرؤية الفني والإبداعي، لم يبق من حل غير الذهاب إليهم حيث هم، وإثارة فضولهم بالقوة، وانتزاع اهتمامهم من دون اسئذانهم. وقد تزامن هذا المهرجان مع آخر لعروض الشارع في باريس، المدينة التي لها تقليد قديم في هذا الميدان بينما ما تزال هكذا نشاطات في بلادنا تحبو بخجل . فغالبية العروض الناجحة التي شهدتها بيروت خلال هذا الشهر كانت غربية وبقيت اللبنانية منها بحاجة إلى تدجين لتتناسب وطبيعة المكان والمناسبة. فالشارع غير المسرح، والمارة خليط ينتمي إلى كل الفئات والطبقات، والوصول إلى قلوب البشر كلهم يتطلب إثارة من درجة عالية كالتي مارسها عليهم الألمانيان اللذان استضافتهما العاصمة اللبنانية، واستطاعا ان يؤخرا العابرين عن ارتباطاتهم المسبقة، وان يدخلوا عنوة إلى أجندتهما، وان يجعلا الشارع الروتيني الباهت موضعاً للسؤال والاستفسار والحوار، وهذا يتطلب تقنيات خاصة ومعرفة دقيقة بسيكولوجية العموم. يبقى سؤال صغير لكنه عميق الدلالة: هل يعقل ان يطبع المنظمون برنامج المهرجان باللغة الإنجليزية ويوزعونه على المارة، من دون أي ترجمة إلى العربية، أوليس غريباً ان يخاطب الشارع اللبناني العربي الذي يقال انه فرانكوفوني، خلال مهرجان من المفترض انه شعبي، بلغة لا يفقهها.