سيرة عائلية لأربعة أجيال متعاقبة

إبراهيم أصلان يقدم معجما شديد الغنى في رواية «عصافير النيل»

TT

كتابات ابراهيم اصلان هي كنز امام الباحثين يستخرجون منه اسرار تقنيات الكاتب التي وصلت الى درجة النضج، وهي تدهشك ببساطتها وقدرتها على رصد الانساق العقلية والاجتماعية للإنسان المصري، وتصوير حياته بشكل شديد التأثير.

«عصافير النيل» هي صيحة من اجل الانسان المصري البسيط ووقفه الى جوار الطبقات الفقيرة التي تستشعر المعاناة من فرط الاحباطات المتوالية على مقدراتها وحياتها ووجودها الانساني والرواية تطرح هذه الدرجة العالية من الايمان بالانسان وتصيغ موقفها من خلال التغلغل داخل الانسان نفسه وداخل واقعه في شفافية حساسة تحتوي على كل هذا القدر من الرومانسية والشوق لخلاص البشر.

انها رواية قديمة جديدة، تغزو الظروف الواقعية وتستخدم التقنيات التقليدية لكنها تترفع نحو رؤية تجديدية شديدة الرهافة تسعى للكشف عن الجذور الاجتماعية والثقافية للبشر وتبحث عن عواطفهم ومشاعرهم المشتركة والعلاقات الدائرة في محيطهم الواقعي.

لقد طرحت الرواية نبض الحياة الحزينة للبشر المقهورين في دوامة الواقع الذي لا يرحم وسعت لتحديد علاقة الفرد بالجماعة وهي العلاقة نفسها التي تطرح علاقة الانسان بالكون وعلاقة الجزء بالكل.

ونحن نحس بالتجربة الاجتماعية من خلال كل حدث فردي يمر بهؤلاء الذين مثلوا اربعة اجيال متتالية تمثل «عزيزة» الجيل الاول فهي الجدة الكبرى للعائلة كلها ثم ابناها هانم وعبد العزيز ثم تنجب هانم ـ نرجس وعبد الرحيم ونتعرف اخيرا على اولاد نرجس الذين يمثلون الجيل الاخير، ولا نريد هنا ان نطرح توازيات مقصودة أو غير مقصودة بين المراحل السياسية الاربع التي عاشتها مصر اخيرا من ناحية والاجيال الاربعة التي خلقت احداث الرواية لان الاهم بالفعل هو قدرة هذه الرواية على التقاط تفاصيل الواقع التي تعبر عن الجوهري فيه بالدرجة الاولى.

الحضور السياسي أو الآيديولوجي ظاهر في العمل، كما ستحاول هذه الدراسة ان توضح في قسم تال، على الرغم من الانعزال السياسي الذي يعيش فيه جميع شخوص الرواية، ولكن الرواية تطرح بعض المشكلات الاقتصادية ومنها ازمة البطالة والكساد أو الفقر الذي يعيش فيه البسطاء.

ويمكن ان تندرج هذه الرواية تحت مفهوم رواية «الاجيال» وهو مصطلح يعرفه النقد الاوروبي الكلاسيكي جيدا فقد خلق هذا المصطلح تصورا طرح من خلاله عدد من الروايات الاوروبية المهمة من مثل «الحرب والسلام» للكاتب الروسي تولستوي وكذلك ثلاثية نجيب محفوظ المشهورة وفيها تتبع اجتماعي عميق، يبدأ من الجذور الاولى لكل ظاهرة، ولكن هذا التتبع يقدم للقارئ من خلال منطق فني شديد الخصوصية، يتميز بكل هذا القدر من الشاعرية والبراءة التي تجسدهما صفة التوتر والقدرات الخاصة على الكشف عن الجوهري في المجتمع والتقاط الصلات بين مختلف الظواهر الآدمية والواقعية.

بين الموت والحنين الموت في الرواية معنى اساسي تدور حوله معطيات كثيرة، والجدة هانم هي احد رموز الصمود في وجه الموت، لقد بقيت في اثناء دورة حياة العائلة واستمرت حتى النهاية، ابناؤها اخذهم الموت، وهي ما زالت حتى الصفحة الاخيرة مصرة على البقاء، تدور مع الازقة، وتغيب في الحارات، تلج البيوت المفتوحة، وتغادرها، تتفرج على الدكاكين، وتلمس فترينات العرض الزجاجية بأصابعها الدقيقة الجافة، انها تندمح بالحي الفقير في المدينة وتندمج بالطبيعة كلها، تنام جالسة بجرمها الصغير تحت شجيرات الخروع بأوراقها العريضة المائلة على حافة النهر الساكن: (تغفو، وتقوم على ارتجافة الفجر الفضي عبر الكوبري الحديدي القاتم، تبلل وجهها، وتمضغ قبضة من الاعشاب الرطبة، وتحبو، تطلع اعلى الشاطئ المنحدر وتقف هناك تحت الكافورة الكبيرة العالية، الجدة هانم تنظف ثوبها من قش المكان، وترهف اذنيها صوب موكب عربات الكارو القادمة من سكة القناطر وهي تقترب محملة بالخضر الطازجة، تتابع خبب الخيل التي يقودها الرجال النائمون في ضباب الصباح، تسمع رنين الاجراس النحيلة، وهي تتأرجح وتغيب واحدة تلو الاخرى عند انحناء النهر، وتنادي لعلَّ احدا يسمعها: «مش رايح البلد يا بني؟» ـ ص 225) إنها مصرة على البقاء وعلى تحدي كل اشكال القهر لتبقى بنتا للبشرية جميعها وللطبيعة المتفجرة بالحيوية والجمال.

لقد ظل الموت يهدد البشر بمعناه الفيزيقي وبمعناه المعنوي والرمزي الذي نتتبعه في خمود الحواس والافكار والرغبات، الموت الذي يعني انواعا من الغياب وافتقاد الفعالية.

ولكن الرواية كانت تحافظ دائما على حدى الوجود: الموت والحياة بشكل مترافق ومتداخل، وعلى سبيل المثال فبعد ان نظل نتابع موت البهي عثمان على امتداد صفحة كاملة حيث نرجس تبكي وحولها بناتها والنائمات في جلاليبهن المعفرة نفاجأ في بداية الصفحة التالية بأن الدنيا صيف، والبلح الاحمر يملأ الاسواق، وتعود بنا الرواية الى مرحلة سابقة قبل موت البهي عثمان كأن الرواية تتعمد احياءه مرة اخرى حيث يتفجر المشهد بالحياة، حيث تجري العيال فوق السطوح، ونرجس تسرح شعرها الطويل المفروق ووجهها الخمري تشوبه الحمرة والدفء وتضيق عينيها كلما تعثرت «الفلاية» الخشبية في خصلاته الكثيفة الدكناء.

الاحساس بالحنين للطفولة وللماضي وللأماكن الاثيرة يمثل توجها جماليا ينتمي الى منطقة ما بعد حداثية في موجات الكتابة الجديدة بشكل عام سواء عند كبار الكتاب أو الناشئة لان النوستالجيا تمثل حاجة انسانية وليدة في مرحلة تشهد التغيرات الكبرى على مستوى الواقع ورواية «عصافير النيل» كلها هي ضرب من ضروب هذا البعد الجديد علاوة على المعاني التفصيلية التي تتوزع داخلها.

البطل يمعن في التذكر، يتذكر ايام زمان عندما يصلون من السفر على رصيف المحطة ويتجهون الى الدار، يذكر المشهد الحميم حيث تقف جدته هانم وأمها عزيزة في ركن البوابة الكبيرة، وقبل ان يصل سوف يرى شونة القمح في الناحية اليمنى، والطاحونة في اليسرى تلك التي كان صوت صفارتها المتقطع يظل يتردد في أذنيه طوال ايام الاجازة وهكذا، وهناك ذكريات زراعة «نخلة» يوم مولد احد الاشخاص كعادة القرويين، وذكريات الاقارب والخال الكبير عبد العزيز يصنع له أرجوحة من حبال يربطها في عروق السطح العالية.

وتعرض الرواية بصورة مذهلة لخصوصية البيوت المصرية في الاحياء الشعبية، وفي كثير من الاحيان لا تأتي المسألة في صورة وصف محايد، بل يمتزج هذا الوصف بالحالة النفسية للشخص، وعلى سبيل المثال فهذه نرجس التي ترتعب من الظلام وعندما تنقطع الكهرباء ويتعطل النور ويعمل زوجها على اشعال المصباح الكيروسيني نتتبع هذا الوصف للمكان المرتبط بشعورها الشخصي في هذه اللحظة:( نرجس وقفت حتى سمعت يده وهي تنكس في علبة الكبريت، ورأت النور الخفيفي وهو يأتي من الطرقة، وراقبت خيال الفوطة المعلقة في المسمار وهو يكبر على الحصيرة ثم ينسحب الى الجدار ويصغر، امام لمبة الجاز التي جاء يحملها بين يديه الاثنتين-23).

ان الاهتمام بالبيوت المصرية من الداخل لهو اهتمام بالمكان في الدرجة الاولى. فالمكان هو احد أبطال الرواية ولانه يمثل شهادة حسية على تجربة في فترة زمنية محددة.

التفاصيل والأبعاد الآيديولوجية تحكي الرواية عن أدق تفاصيل الحياة اليومية: كيفية الجلسة على الكنبة بواسطة المساند، جلوس النساء في فتحة الابواب أو على عتبات البيوت، البهي يشعل وابور السبرتو ويضع عليه البراد الازرق الصغير وهو اناء اعداد الشاي الذي تعرفه البيئات الشعبية جيدا، وهنا تتجلى الواقعية داخل سردي مرتبط بالحياة من خلال تفصيلاتها الدقيقة ومن خلال المفردات البشرية التي تساهم في خلق معنى الحياة، ومعنى استمرارها.

كما ينقل الكاتب اللحظات النفسية الدقيقة واصغر لقطات تمر على العقل في اثناء تفكيره فالولد يقول نكتة على ناظر مدرسته ثم تتابع اللحظات القليلة التي مرت على الاستاذ عبد الله بعدها: (الاستاذ عبد الله ايضا ضحك، واطفأ سيجارته. فكر ان يقوم ويخبر امينة بما قاله الولد، لكن صوت الكناري، ارتفع مدويا داخل الصالة ـ ص 12). وتتضح المعاني النفسية دائما عندما تتحدث الشخصية الروائية الى نفسها مما يمثل ملمحا شديد الوضوح في هذا النص الذي يثبت اهمية الذات باعتبارها المركز الذي تحيط به كل المعطيات.

وتهتم الرواية بالجانب الحسي بشكل عام باعتباره جانبا يجسد شكل مادي شهادة على تجربة بعينها في الحياة وقراءة أي مقطع في العمل سيفضي الى مجموعة من الصفات الحسية من حيث الملمس والرائحة والرؤية والتذوق والسمع معا:( مجاري المياه المحفورة جنب الجدران تلتقي كلها في مجرى واحد يصب في البالوعة المدورة في ركن الدار، توقف الاستاذ عند حجرة الجدة التي في الناحية اليمنى، كانت خالية ومعتمة، مشبعة برائحة خبزها المبلول، فراشها الصغير مرتب، وكليمها المفروش قديم وباهت، وصندوق عرسها الخشبي باحزمته النحاسية الصدئة المنقوشة في ركنها الداخلي المعتم ـ ص119).

ويكون للجسد وللعاطفة الجسدية دور كبير في تأكيد هذه الحسية، والمسألة يعيشها الانسان المصري عميقا في صحوه ونومه وخيالاته ليتضح لنا الى أي قدر تنعقد قضية الجنس، وتتحكم بقوة في حياة البشر وتبدو المرأة مقدسة وغير مقدسة في احيان اخرى وتؤثر العلاقة معها على المشاعر الباطنية بقوة ويتدخل النظام الحيوي للجسد الانساني في الاخلاقيات بشكل عام.

الرواية تفيض بالابعاد الآيديولوجية ولكنها مختفية في ثناياها الداخلية، ويظل البعد الآيديولوجي يمثل المستوى الثاني من المعنى لكل حدث ولكل موقف أو سلوك، ولكل ظاهرة ستطرحها الرواية، ولكن هناك لحظات يحدث فيها تقاطع مباشر مع السياسة ومع الساسة، فالبهي عثمان يتعرض لمشكلة وظيفية المت به فأرسل عشرات من رسائل الاستغاثة الى الوزارة والنقابة والنائب العام والاتحاد الاشتراكي، واخيرا ارسل الى الرئيس جمال عبد الناصر، وقد اراد ان يحوز اعجابه.

ان اشخاص ابراهيم اصلان البسطاء يحلمون بدور وطني يقومون به، وهم يصارعون بالرغم من وطأة التخلف لكي يتمكنوا من الاستمرار في الحياة، وليس المقصود هنا المعنى المادي للاستمرار فقط ولكن الاهم هو التحقق انسانيا ووجوديا ونفسيا، ومن هنا نحس هذه النكهة الخاصة التي تعبر عن رغبة داخلية دفينة داخل البشر تجعلهم دائما يسعون نحو الحرية ونحو التغير: (كانوا يجلسون امام الراديو الالماني الذي اشتراه أبوه من حسن السوداني، وراء هذا الشباك المقفل، عندما دوت طلقات الرصاص وساد هرج. وسمه صوتا يقول «أيوه هو اللي هناك ده» ثم علت الاصوات وتداخلت ليهيمن صوت عبد الناصر صائحا: «أيها الاخوة المواطنون، ايها الرجال، ليبق كل منكم في مكانه. اذا مات جمال عبد الناصر فكلكم جمال عبد الناصر» ـ ص 144).

كما تكشف الرواية عن سر الصراع العائلي والاختلافات الحادة بين افراد العائلة الواحدة الذي هو صراع رمزي يوحي بمستويات اعلى دائما، عندما يتضح الصراع على توزيع الارض الزراعية فهي كانت كلها ملكا للجدة الكبيرة عزيزة.

لقد سعت الرواية باحثة وراء وضعية الوجود الانساني في زمان ومكان محددين في الواقع المصري، بحثت المكان المهين الذي يصل له الانسان وحللت ظروفه، وطرحت احلامه المتواضعة ورغبته في التحقق في قلب هذا القدر العظيم من الاحباط والمعوقات، ومن هنا فمن الطبيعي ان تنتقل الرواية الى اعماق الحس الشعبي، فتنقل لنا هذا الكم الكبير من تفاصيل السلوكيات الشعبية، حيث هذا الحرص المبالغ فيه على اناقة العريس والعروس، وعندما خطب عبد الرحيم ذهب مع البهي عثمان الى (شركة بيع المصنوعات المصرية، واشترى بدله صوفية لونها زيتي وبها خطوط رفيعة بيضاء وقميصا ابيض وكرافته. راح يراقب البهي عثمان وهو قاعد على الكنبة يعقدها حول ركبته المثنية ـ ص76).

لقد رصدت الرواية هذا اليأس الشعبي والحزن بأنواعه المختلفة مما يمثل معان ثابتة يعرفها بسطاء الشعب المصري ان فشل البهي في تعديل وضعه الوظيفي قد بعث على اليأس فتحولت صفاته وانتهى اهتمامه بنفسه وبمظهره وصار يسخر من حرص زوجته نرجس على مشاعر الناس، وتوقف عن الذهاب الى الجامع. وهناك اشكال اخرى من اليأس ناتجة عن المعاناة الاقتصادية بسبب الفقر، وعلى سبيل المثال فقد قدمت الرواية صورا هزلية لكشوف صرف المرتبات الهزيلة تتكدس امامها طوابير الارامل والعجائز واليتامى والمرض: «جموع حزينة تقف في صبر منذ طلوع الشمس وحتى نهاية اليوم، يوما وراء الآخر في ازدحام يائس اليم.

ويرتبط بهذا القهر الشعبي تحايل المصريين الدائم حتى يصلوا الى اهدافهم، مثلما كان يفعل البهي عثمان حتى يوصل شكواه الى المسؤولين لقد (صرف الليالي حتى استطاع ان يعرض موضوعه بوضوح بحيث يمكن لأي مسؤول ان يفهمه الامر الذي ملأه اعتزازا بقدرته التي تجلت وقت الحاجة، وقد اغلق الباب، وجلس امام نرجس على الكنبة الاخرى وقرأ لها الشكوى متمهلا، بصوت سمعته غريبا في اذنيها، وعندما اعاد القراءة مرة اخرى وهو واقف، تغير شكله اكثر- ص 48).

ولا يكتفي النص بايراد هذه الجوانب السلبية في حياة المصريين بل تقدم الوجه الاخر لروح الحياة الشعبية المليئة بالتفاؤل والعطاء والجمال وكثيرا ما تكون الغيبيات وسيلة للتعبير عن القدرة على تحقيق المستحيل وقهر حائط الاخفاق.

يتتبع العمل اصغر تفاصيل سلوكيات المصريين فالبهي عثمان عندما ينوي الخروج الى العمل يتجه الى الحجرة الداخلية ويقلع الجلباب، ويرميه على السرير ويقترب من سترته الحكومية المعلقة في مقبض الباب، وهذه نرجس اعتادت ان تجلس الى جوار الشباك تتفرج ويدها على خدها، وهذا الحاج محمود الفحام يجلس على الدكة في شارع فضل الله عثمان، والعم مجاهد وهو نعسان جنب قدرة الفول الكبيرة على عتبة الدكان وهكذا.

وهناك خفة الظل المصرية التي لا حدود لها، وقد عرضتها الرواية ليس في مجرد السرد العادي فقط، بل هناك احداث معينة قيمتها ترجع لمضمونها واسلوب حكيها، وتقدم الرواية الامثلة الشعبية الحية المتداولة بين البسطاء وقد يتكرر اكثر من مثل شعبي.

لقد قدم الكاتب دورة حياة عائلة تبدأ من الجدة الكبرى عزيزة مرورا بولديها هانم وعبد العزيز ثم هانم نفسها تصبح الجدة التي ستنجب نرجس وعبد الرحيم ثم نتعرف على اولاد نرجس انها دورة حياة كاملة لعائلة مصرية بسيطة عاشت فترة محددة في تاريخ مصر وجسدت طبيعة الواقع وروحه واحلام البشر الذين يعيشونه وطبيعة العوائق التي تعرقل حياتهم.

ان حكايات الاسر والعائلات لتمثل بعدا مصريا حميما ويمثل ظاهرة شعبية، كما يمثل رؤية جديدة في الابداع الادبي الجديد وان كانت جذورها تعود الى ما سمي في النقد الاوروبي في القرن الماضي بـ«رواية الاجيال» وهي الرواية التي تهتم بسيرة عائلة على امتداد زمني معين لتتبع جيلين أو ثلاثة منها وهو سياق قدمه عدد من كبار أدبائنا مثلما فعل نجيب محفوظ في الثلاثية على سبيل المثال.

وهذا النوع من الكتابة شديد الاهمية لانه يقدم رؤية فنية شديدة الترابط والتكامل بين اجزائها من ناحية وتطرح التغيرات الدقيقة التي تطرأ على بنية المجتمع وشكل العلاقات فيه من ناحية اخرى.

ترفض هذه الرواية معنى الزمان من خلال المنطق الكرونولوجي لان الكاتب يتحرك جيئة وذهابا في الزمن بما يخدم الرؤية الجمالية بالدرجة الاولى والكثير من الشخصيات يسقط ميتا، في احد الفصول، وفي فصل تال نجده حيا يسعى ويشارك في الاحداث بفعالية شديدة.

كما يمتلك الكاتب قدرة تعبيرية هائلة يجسدها هذا الكاريكاتير شديد السخرية في النص، ولقد صورت الرواية المرشح الحكومي في الانتخابات، بداية من حضوره وما سببه هذا الحضور من هياج صنعه مرافقو المرشح الذي وصل محمولا من طريق النيل وهو جالس بين ذراعي اثنين من الرجال حتى وضعوه على المقعد بعناية!! العمل الفني على المستوى اللغوي في هذه الرواية قضية في غاية الاهمية بسبب قدرة الكاتب المبهرة على الاستخدام اللغوي الدقيق القادر على «تتبع أدق المعاني التي تتولد في اعماق الشخصيات وادق المعاني التي تصف مشهدا ما أو تعالج موقفا ما.

يعرف الكاتب اسرار لغته معرفة دقيقة وهو يبدأ نص الرواية بلغة اقرب الى الشعر في رقته وطاقته الكنائيه وشكل السطور نفسه يأخذ شكل الكتابة الشعرية، كأن كان الكاتب يريد ان يحملنا الى عالمه من خلال مدخل جذاب مؤثر، ثم يبدأ بعد ذلك الاستخدام اللغوي الرهيف الذي تتفاعل فيه قيم الحوار والسرد بصورة مدهشة، فالسرد يقوم على دقة الالتقاط والحوار يعبر عن فلسفة المصريين واسلوبهم في الاختصار والتلميح والاستنتاج ويعطينا التفاعل بين السرد والحوار نكهة ابراهيم اصلان الواقعية شديدة الخصوصية في كتابته التي تفيض بالحيوية والبراءة.

ان دراسة لغة الكاتب فنيا يمكن ان يصل بنا الى ما يشبه معجم يعبر عن لغة المصريين واساليبهم التعبيرية.

=