نماذج إنسانية فاقعة من الألم والجنون والهروب

عالية ممدوح في رواية «المحبوبات» تمزق الخرائط وتلغي ألوان البشرات والخصائص المميزة للأعراق

TT

لا يشي عنوان رواية عالية ممدوح «المحبوبات» الصادرة مؤخراً عن «دار الساقي» في بيروت بمضمونها، كما لا يكشف الغلاف الزهري الشبيه بغلافات روايات الحب الرومنطقية عن محتواها.

الكتاب، غير ما هو عليه في الشكل والعنوان، يحكي بجرأة وعمق عن تغريبة العراق والعراقيين : تغريبة الداخل، كل الجماهير التي صادر النظام وطنها وتركها تعيش شقاءها وتغريبة الخارج، كل الذين لم تكتمل ثوريتهم بعد فخانوا الوطن قصداً او جهلاً، وفروا لاجئين في ارجاء الارض يحملون غربتهم المضاعفة.

تقدم الرواية نموذجاً فاقعاً عن الحالتين، وتضيف اليهما امثلة عن المنتظمين بالنظام، المنتفعين والمؤمنين والهامشيين وصيادي الفرص وغيرهم من المطبلين والمصفقين. كما تتعرض لتداخل الحالات في العائلة الواحدة، وكيف أثر النظام في تكوين العائلة الخلية امتداداً حتى العائلة الوطن.

تدور احداث الرواية حول شخصية مركزية، يحوم في فلكها عدد وفير من الشخصيات التي لا يمكن وصفها بالثانوية نظراً للدور المهم لكل منها في صياغة الرواية. سهيلة سيدة عراقية ابنة مخرج مسرحي طليعي، تحول من مخرج تفاهات ينحدر بعد زواجه من ممثلة لا تملك من المواهب سوى جسدها. تقيس الزمن ما بين الاحياء والاموات، ولا تجد فاصلاً بين الاثنين، عندما تموت لن تجد نفسها تموت للمرة الاولى. شغفت بالرقص الشعبي فدرست المسرح والتمثيل في اكاديمية الفنون الجميلة، وتركتها من اجل زوج ضابط مندفع في عشق النظام العسكري، يمارس عليها شتى انواع التعذيب. اطلق عليها لقب الرصاصة القاتلة، وجميع مفردات الحب بينهما كانت تغرف من القاموس العسكري.

الزوج ـ الوالد رجل عسكري بامتياز، يتصاعد بخار النصر القادم من خياشيمه. ثوري عالي النبرات يتكلم عن الثورة وكأن في فمه حصى، حول منزله الى ثكنة عسكرية سيجها بالاسلاك الشائكة، وجعل من ابنه الوحيد وزوجته جوقة تردد خلفه اغاني النصر القادم. وفي الليل كان يحوم كالطائر المذبوح حول زوجته، ويتحول نصره الى نحيب، وفي الساعات المتأخرة كانت المعارك تبدأ بين الزوجين فيضربها، ويمارس عليها التعذيب والاهانات.

اصبحت الزوجة خانعة تخفي سرها عن ولدها وعائلتها، حتى اصبحت بطريقة ما مولعة بالضرب، وكأنها الطريقة الوحيدة لكسب قوت يومها.

اصبحت سهيلة لا ترغب بصبي كما العادة بل بفتاة كي لا يتمكن احد من سلبها منها واخذها الى الثكنة. لكنها رزقت بولد اسمته نادر ولقبته الثريا. لم يشكل نادر لوالدته ثروة بل اكمل الحرمان.

نادر- الابن كان يعلم بكل ما يجري بين والديه، تعلم ضبط الاعصاب امامهما. فقد ادرك ان حروبهما ستنشر السلام عليه وعلى الجيران والاصدقاء. كان يعلم بأنه عاجز وان حرب ابيه في الداخل وليس كما يتوهم ويوهم الآخرين في الخارج. ورغم انه لم يذهب الى الحرب يوماً، لكن الحرب طعنته في الصدر والظهر، حربه كانت تترصده ولم تأخذ غفوة فقط.

احب آلة الغيتار فوجد فيها ابوة آلة قذرة تفسد الادراك الثوري وتضعف المشاعر الوطنية، ومنعه من سماع الاغاني غير الثورية لانها تملأ الرأس بالقاذورات، فانتمى الى نفسه سراً والى عائلته المعلنة علناً.

كانت امه تدفعه الى الخارج، وكان رغم عجزه يفضل ان يكون عصاها، فرائحة الأمومة تمسك برأسه، ويشعر بألمها كضرب العصي. يخترع لها الكلمات والطرائف، وكانت تزداد ابتعاداً فيـقترب، فتعاود دفعه الى الخارج.

اكمل نادر دراسته الثانوية، فارسل الى باريس لاكمال تعليمه، حيث خاله كان قد سبقه هارباً من العراق لعدم اكتمال ثوريته. وعاد الى العراق ليخرج متسللاً مع والدته.

في المهجر الفرنسي اصبحت علاقة الام بولدها مشوبة بالرشوة المتبادلة، هي توسع له غرفته على حساب غرفتها، وهو يحضر لها اشرطة الافلام الاميركية كي لا تخرج الى السينما. ظلت تعيش العراق كما تراه، وتصارع نفسها كي لا تشعر بضغط الامن الغذائي وهي تفتح ثلاجتها، وبهطول الثلج في صدرها كلما قرع باب منزلها. قررت العودة الى الرقص الفولكلوري، اللغة التي يمكنها التعبير بواسطتها عما تريد قوله في عذاباتها، رصدت نفسها لحلم بأن تتفجر بابلية الألسن، ويصبح المكان مليئاً بالغناء المدوي،ويختل مكان النخيل ويغطي الكون، فيصبح عيد الميلاد ليس وقفاً على السيد الناصري فقط، وانما على المكان ايضاً، فالصلب لم يحدث في بيت لحم فقط، الصلب في كل العالم.

تعلمت ان المأساة ليست عراقية فحسب، فمأساة «كن» الفيتنامي الذي ملأت رائحة شقائه صفحات من النص، تتقاطع مع مأساتها، ولا تنفصل عن حالات لا تعبر عن نفسها فقط بل تمثل نموذجاً لانسانية معذبة مقهورة يقودها ويهيمن عليها أباطرة دمويون، من صدام حسين مروراً بـ«وول ستريت» حيث تملك الشركات سلطة تسويق وبيع كل شيء، بدءاً من السلع مروراً بالافكار وانتهاء بالاشخاص. سلطة بيع الحقائق الاوهام، بيع ارقام وأوهام في دفاتر البنوك مقابل ساعات العمل والنفط والمعادن. «وول ستريت» آخر الاباطرة وحده يقرر من الذي يعيش ومن سيموت. حتى انه حول انتماء الاميركيين انفسهم وهويتهم الى الانتماء المهني فحسب، اي حولهم الى سلعة.

الأباطرة الجدد، تقول، أخطر الاباطرة، فبريطانيا العظمى سيطرت على البحار في الماضي، اما هؤلاء فيسيطرون على بحار المعلومات والموجات والافكار، موجات الاعلام العالمي بأسره، اي العالم بأسره.

يعلو الصوت ويخفت، لكنه لا يروض، يدمج القامة بالظل، ويملأ مساحة الكون. يتعرج بنكهة تستطيع ان تكون عالية وهي تحن الى العراق المنبوذ والمقتول، وان تكون خافتة وهي تغضب له. صوت يأخذ ألوانه الطيفية من ذات تنظف روحها من الشظايا، ودمها من البغض، وصوتها من الرتابة. صوت يعجن الدعوات والتهاليل بالطحين والزبيب والسكر والزبدة ويخبزها على تنور عراقي صنعته في عمق جرح ما زال ينزف اغاني «الابوذية» العراقية المحمولة على وتر من الشجن، الممتدة لبابل وسومر وأقاصي الامكنة في اقاصي الازمنة. صوت يرفض نبذ العراق فيتحول الجسد الى صرخة ووجع يهز الأرض.

رواية تمزق الخرائط، وتلغي فصائل الدعم، وألوان البشرات، والخصائص المميزة للأعراق، وكل ما يميز مكاناً عن مكان، وانساناً عن انسان. وتزاوج العناصر بكيفية وتناقض وجنون. الجنون؟ أليس الواقع العراقي هو الجنون، وهل له تسمية اخرى.

رواية تعلمنا ان الصفر ـ العراقي، او الفلسطيني، او غيره من شعوب الشقاء ـ رقم مطلق اذا ما اختلط بالجموع سترتفع جلبة تصل الى عنان السماء، سيصبح علامة الحقد وسوء التفاهم، سيصبح ارهاباً بنظرهم وسيظل بنظرنا مقاومة.