أساليب تعامل الرواية النسوية مع الذاكرة التاريخية العربية

روائيات يوغلن في التاريخ البعيد ويبحثن دوما عن نساء حكمن ومارسن السلطة وأخريات يرسمن بأقلام معاصرة تفاصيل المدن الشهرزادية

TT

ويختلف الموقف من التاريخ عند الروائيات العربيات حتى حدود التناقض الفاضح، ففي حين تراه وثيقة لا تقبل النقض عند احلام مستغانمي في (ذاكرة الجسد) باقرار صريح من بطلتها ـ الحقيقة اختصاص المؤرخين ـ تجده عند نجوى شعبان كما اوحت في (نوة الكرم) مستعينة بديورانت صاحب موسوعة «سقوط الحضارة» مجموعة خرافات واوهام واباطيل وبين هذين الموقفين هناك اللواتي يصفين حسابات قديمة مع التاريخ كما في (البشموري) لسلوى بكر التي تعيد كتابة تاريخ الفتح الاسلامي لمصر بأسلوب روائي مدهش تجده مثيرا مهما اختلفت مع الرؤية التاريخية للروائية.

لقد قال ميلان كونديرا مرة عن تاريخ بلده (ثمة مراحل في التاريخ الحديث تشبه فيها الحياة روايات كافكا)، وزاد على ذلك بالتأكيد على ان الناس كان يطلقون على مقر المخابرات في براغ اسم القصر فلا شيء تغير من وجهة نظرهم رغم حداثة الاسماء. ولنعترف بأن الحياة العربية تشبه الموجود في الروايات اكثر مما تشبه التاريخ بكل اشكاله المتعارف عليها. فالرواية هي بطانة التاريخ العربي الحديث ومعطفه الخارجي معا، ففي المدن التي لا تنشأ الروايات بدونها يجري من خلال الروايات النسوية تدوين تاريخ جديد لا يشبه ما سبقه، وسواء ربطت مقتديا بالنقد الغربي هذه الروايات بالتاريخ مباشرة على مذهب سارتر او بالاسطورة حسب تفضيل كريستيفا، فإن النتيجة لن تتغير كثيرا لتقارب ما بين الفن والتاريخ، حيث يشترك الاثنان رغم اختلاف آليات التدوين والسرد بالدعامات الثلاث التي تنهض عليها الحياة، الزمان والمكان والانسان الذي يتطور دون ان يفقد وسواسه التاريخي.

انه يرغب بالرقص بين الفن والتاريخ فهو ـ والتعبير لفوكو ـ حيوان اعتراف، الجنس مادة اعترافه وخامة صنع خطابه. واين المؤرخ الرصين المسكين على هذا الصعيد من المادة المتاحة للروائية والروائي؟ ففي بيروت الحرب الاهلية التي لا يجد فيها المؤرخ غير ازيز الرصاص وبيانات الاحزاب، وجدت هدى بركات في رواية (حجر الضحك) مخنثا على خط التماس لا يوجد ما هو ادق من شخصيته لفهم تلك الحرب الشاذة والخارجة عن اي نسق باستثناء نسق تدوير العنف الذي لا تختاره المرأة الا اذا قررت ان تسترجل وتصير زعيمة، وعندها تنطبق عليها قوانين التاريخ الذكوري وتخرج مطرودة دون رحمة من ملكوت الانوثة لتنال حظوة مجتمع لا يعترف بها وبابداعها ان لم تسترجل.

* تواريخ معاصرة

* لقد كانت المدن على الدوام مفسدة النساء من وجهة النظر الذكورية، فالعظماء ـ على حد علم الكواكبي ـ لا يخرجون الا من الارحام القروية، فقد قال في ام القرى: (وهذا هو سر اعاظم الرجال لا يوجدون غالبا الا من ابناء وبعول نسوة شريفات او بيوت قروية). لكن المدن هذه الايام لا تعترف بعظماء وعظيمات القرى فهذه روائية بحجم اميلي نصر الله مهملة تماما لأن معظم اعمالها الروائية تدور في القرى التي لا يدخلها التاريخ الرسمي ولا اسقاطاته الروائية مع ان نصف التاريخ العربي الحديث تاريخ زحف الريف الى المدينة، فأين الخطأ في هذا المفصل التاريخي؟ ومن المسؤول عن هذا الاهمال الخطير، الروائيات ام المؤرخون؟

ولا بد قبل ان نلج في تفاصيل وطرق التناول التاريخي عند كل روائية ان نقر بأن العودة للماضي ليست هي الظاهرة، بل وفرة وتنوع اساليب تلك العودة هي التي تدعو الى التأمل بحيث ما عادت تخلو رواية نسوية من ذلك المكر الدليلي الذي يعيد الاستيلاء على التاريخ الذي فقده منذ العهود الطوطمية بحذر ومثابرة وذكاء لا تنقصه شجاعة المواجهة حين تقتضي الضرورة تصفية حسابات عالقة مع حراس التاريخ الذين تكال لهم هذه الايام اللكمات بغزارة تحت الحزام في معارك تصفية الحسابات النسوية مع الذاكرة التاريخية وهي معارك غريبة نوعا ما، فكيف تستعيد المرأة نظريا تاريخا لم يكن لها فيه وجود؟

ان نظرة بانورامية سريعة على حصاد المطابع من الروايات النسوية خلال حقبتين تكشف شيوع ذلك الهم التاريخي الذي تلبس الروائيات العربيات من المحيط للخليج، وفي المهجر، فقد قدمت احلام مستغانمي في (ذاكرة الجسد) رؤية انثوية لتاريخ الثورة الجزائرية حضر فيه الجانب الاجتماعي الذي يغيب دوما عند المؤرخين العرب، وخلطت غادة السمان في (الرواية المستحيلة) تاريخ سورية الحديث بالحراك الاجتماعي، حيث اشتبك كبت النساء بكبت الشعوب وتجاورت مشاكل البطلة زنوبيا الشخصية مع انشطة الحزب القومي السوري الاجتماعي وحركة مقاومة الاحلاف الاستعمارية كحلف بغداد ومشروع جونسون، ومن المغرب اقتحمت فاطمة المرنيسي المشهد الصاخب المزدحم بسيرتها الذاتية في (احلام النساء) لتقدم في تلك الرواية الواقعية تاريخا مختلفا للمجتمع المغربي، وكذلك الحال مع هدى بركات التي كتبت من زاوية تختلف عن حنان الشيخ رؤيتها لتاريخ الحرب الاهلية اللبنانية في (حارث المياه) وخلطته بتاريخ طرق الحرير وزادت في الطنبور نغما فأنصفت الاكراد وقدمت عنهم صورة ايجابية تختلف عن صورة جدهم في الف ليلة وليلة (جوان الكردي) أحد تلاميذ احمد الدنف في حكاية دليلة التي تناكف المخيلة الاصلية التي اخترعتها وتغري النساء بدلا من الشذوذ ونكاح الدببة والقرود مللا من الرجال بالمزيد من السيطرة على سلطات الذكور وتواريخهم.

ومن الخليج العربي الذي لم تحن فيه بعد مرحلة الكتابة الصريحة للتاريخ الحديث، استخدمت فوزية رشيد اسلوب الاسقاط التاريخي الذي كاد يهترئ بين ايدي الذكور لتقفز في رواية (تحولات الفارس الغريب في البلاد العاربة) الى العصر العباسي الثاني زمن العياق والعيارين والفتيان، زمن دليلة وعلي الزيبق ومقارعة المكر الانثوي للخداع الذكوري. ونظرا لمعرفتها بالبحرين اسرفت تاريخيا في وصف البصرة ومينائها (منادون وعتالون يضج ميناء البصرة بهم بمارة يتوزعون بين جنبات النخيل وعلى حواف الشطآن يسرع الصفدي بين الاسلات البحرية الى الشاطئ ذاته. اسواق متناثرة ترتحل الأصوات فيها والوجوه) مع ان الشاطئ هو ذاته والبصرة هي البصرة، لكن تغيرت النظرة والعيون والمواقف والحساسية اللاقطة للحاضر معجونا بتاريخه الذي يرفض الافول. واحدث ما صدر في الخليج ايضا رواية (ريحانة) لميسون صقر القاسمي التي يتحول تاريخ منطقتها على يديها الى كائن متحرك يخترق الحدود والبلدان والازمنة. فتاريخ الخليج يرتبط بتاريخ مصر، وتاريخ القواسم يجد صداه عند احرار النوبة، ويمتد تاريخ ثورة ظفار عندها الى كل الجبال والبحار ـ مع اختلاف القراصنة والثوار ـ في اكثر من اتجاه. كما تأخذ الشخصيات ابعادا عميقة وتكاد تقترب حين يصل الامر الى مناقشة الفروق بين العبودية الداخلية والخارجية الى مستوى فلسفة التاريخ التي تتجاوز الحدث الى القوانين الناظمة للصيرورة التاريخية. ودوما تظهر الرغبة عند الروائيات في الزج بشخصيات نسوية تاريخية كانت لها سلطة ونفوذ دون ان يقتضيها السياق احيانا كما فعلت ميسون بسيرة السلطانة فاطمة (لم تكن المرأة غريبة عن دهاليز الحكم في العالم الاسلامي. وفي سياق الارض السواحيلية لم تكن الحاكمة فاطمة استثناء بأي شكل من الاشكال فهناك ملكات مشهورات في الساحل الشرقي منذ قديم الزمان وقد وصلتنا منهن اسماء منها السيدة عزيزة صاحبة زنجبار والسيدة مكيسي صاحبة ممباسا والسيدة...).

* فضاء المدن

* وفي مصر وغير رواية (سقوط الامام) لنوال السعداوي وهي مسربلة بالاسقاطات من اولها الى آخرها تسلمت الساردات الشابات مكر الجيل الاقدم واثبتن انهن اكثر قدرة على التعامل مع التاريخ الكامن، فأصدرت نجوى شعبان حديثا (نوة الكرم) عن اواخر ايام المماليك في مصر وهي رواية لو قارنتها بموضوع تاريخ مشابه كرواية نجيب الكيلاني عن لويس التاسع في المنصورة جارة دمياط لوجدت فرقا شاسعا في التناول وفهم التاريخ، والافضلية دون تردد للرواية الدمياطية التي اقتحمت بجسارة تاريخ البحر الذي كان يظنه حنا مينا الميدان الذي لا يلعب فيه أحد غيره. لكن نجوى شعبان اثبتت انها لاعبة ماهرة على اكثر من شاطئ بين رودس ودمياط ومرسيليا.

ومن النصوص التي اقتحمت هذا العالم بأسلوب اقل اقتدارا من نجوى شعبان نص فوزية شويش السالم (النواخذة) الذي تجرأ على كتابة تاريخ مجتمع الغوص في الخليج العربي ذلك المجتمع الذي كان يمنع النساء من استخدام اسمائهن التي اضيفت الى العورات الممنوعة، وقد كانت تجربة فوزية السالم اقل نجاحا لأن مجتمع العبودية يصعب التعصب له والدفاع عنه مهما حكى ادوار الخراط في معرض نقده لذلك النص عما يسميه ـ النخاسة الشاعرية. ومع الحفاوة بالزمن واحداثه تظهر الحفاوة الحقيقية بالمكان كما عند السعودية رجاء عالم التي تحتفي بفضاء مكة في (طريق الحرير) وتزج ابن خلدون في السياق لتعطي تاريخها المتخيل بعض الشرعية، و(سيدي وحدانه) ايضا من رواياتها الجميلة عن الفضاء المكي المتعدد. وكانت نجوى شعبان في روايتها الاخيرة قد احتفت بدمياط، وتحولت قسنطينة عند احلام مستغانمي الى حديقة سرية لا يعرفها غير اهلها فلكل مدينة ليل يشبهها ونساء على شاكلتها وظاهر نهاري وباطن ليلي وهذا ما يعيدنا بالضرورة الى مدن شهرزاد التي يختلف ليلها السري الصاخب عن نهارها الممل (وفجأة يحسم الرد الموقف ويزحف ليل قسنطينة نحوي من نافذة الوحشة فأعيد للقلم غطاءه وانزلق تحت غطاء الوحدة ما ادركت ان لكل مدينة الليل الذي تستحق الليل الذي يشبهها والذي وحده يفضحها ويعري في العتمة ما تخفيه بالنهار)، وهذا عين ما توحي به فاطمة المرنيسي عن فاس وغادة السمان عن دمشق وهدى بركات وحنان الشيخ عن بيروت، والقائمة تطول والنساء يثبتن بهذه المعرفة المدينية انهن اكثر اخلاصا لتقاليد شهرزاد ولا ينكرن ان دليلة اقرب اليهن.

لقد كان التاريخ وسيظل ـ كما قال العروي محقا ـ الوسواس الفكري والسياسي للنخب المستنيرة بغض النظر عن جنسها، لكن هذا لا يعني ان نحاكم الماضي بأسئلة الحاضر وشروطه كما فعلت كما اسلفنا سلوى بكر في رواية (البشموري) التي تحكي عن ايام الفتح الاسلامي لمصر، فالمؤرخ كالمترجم يخون مضطرا ومختارا، ومن يعيد تركيب الاحداث التي لا تعجبه بعد عمل المؤرخين عليه ان يشير الى خياناتهم لا ان يضيف اليها، وإلا صارت الروائيات العربية كزينب في رواية فتحي غانم (زينب والعرش) التي تزوجت مؤرخا وخانته مع عشرات العشاق فأصبحت كاذبة كائنة متلاعبة مثل جميع المؤرخين الذين يزعمون الاخلاص للحقيقة.

ان تلازم التاريخ والاسطورة يقتضي ان تحضر دوما معه لتقدم الملذات التعويضية التي يتحاشاها التاريخ حرصا على الرصانة، فدليلة المعاصرة تدرك ان البعد الاسطوري للعمل الفني اغنى من بعده التاريخي، لذا تلعب على هذين الحبلين الذهبيين وتنتج دررا روائية سترضى عنها شهرزاد لمعرفتها المسبقة بأن الفن صراع مع القديم والسائد بأدوات جديدة. ومع كل تجديد لا بد من مراحل طويلة من الشك والمكر السردي والمناكفة.

لقد قالت جوليا كريستيفا مرة في معرض حديثها عن البطل عند ستندال: «خلافا لما نعتقد، الجنس الضعيف هو الجنس المذكر على الاقل لسبب بسيط هو ان الرجال يشعرون شعورا حادا انهم مهددون بالخصاء).

واليوم وكلما اقتربت النساء من امتلاك التاريخ اكثر، يشعر الرجال بعمق بمحنة الاخصاء والاقصاء، فالتحكم بالتاريخ او خلخلة سياقاته وانساقه على الاقل سلطة احتفظ بها الرجال وتركوا الفتيات مشغولات بالحفاظ على غشاء البكارة، فرغم كل ما فعلته ابنة دليلة ظلت تلك قضيتها، فزينب النصابة بنت دليلة المحتالة لم تتمكن من كل دهائها ان تستعيد ميراث الاب كاملا انما تحولت حسب شرطها التاريخي الى زوجة اخرى تضاف الى مليارات الزوجات اللواتي لا يعني التاريخ لهن شيئا، فالحكاية تنتهي بأن يتزوج ثلاثا اخريات معها في ذات الليلة على الشكل التالي: (ودخل عليها فوجدها درة ما ثقبت ومهرة لغيره ما ركبت وبعدها دخل على الثلاث بنات فوجدهن كاملات الحسن والجمال).

لقد احتاط الرجال لاحتمالات الاقصاء والاخصاء بخلط التاريخ بالفقه والعقائد. وعلى هذه الجبهة ما يزال الطريق شاقا على دليلة وحفيداتها اللواتي لن يربحن معركة التاريخ والعقائد الا بعد تنظيف الذاكرة الجماعية من حكايات مكر النساء.