دعاة الأمازيغية هم حراس اللغة العربية ودعاة العروبة لا يحسنون العربية

احتوت لهجة قريش على اللهجات الأخرى رويدا رويدا وكذلك الشأن بالنسبة للغة معاصرة كالفرنسية

TT

* نشرت «الشرق الأوسط» بتاريخ 27 أكتوبر (تشرين الاول) 2003 مقالاً للدكتور سالم بن حميش حول اللغة الأمازيغية. وقد جاءنا التعقيب التالي رداً على المقال المذكور:

* حينما يبادر كاتب «ذو باع طويل» وباحث مشهود له بسعة المعرفة بالإدلاء بدلوه في قضايا مصيرية مرتبطة بهويتنا الثقافية ومكوناتها فإن ذلك مما يهتم به ويحتفى... ذلك شأن بنسالم حميش في مقاله المعنون بـ«المكون البربري ولهجاته وشخصية المغرب القاعدية» والمنشور بصحيفة «الشرق الأوسط» في 27 أكتوبر (تشرين الاول) 2003 الماضي. وقد وظف الكاتب الباحث حمولة معرفية متنوعة واستشهادات غنية لينتهي لخلاصات كانت هي القاسم المشترك لمن يتوجسون حسيفة للأمازيغية: وهي أنها مجموعة لهجات لا ناظم بينها تختلف قاموسا وتركيبا، ثم ما بال حملتها يصرون على استعمال كلمة امازيغية وأمازيغ عوضا لمصطلح نشأ وذاع هو البربر والبربرية؟ واخيرا ما الحاجة الى تنوع يترصدنا بالفتنة ويتهددنا بالانقسام وقد يذهب بنا طرائق قددا لا ناظم لها ولا لحام. وظف الكاتب الباحث معرفته الغريزة ليزيح التنوع القائم ويشكك في جدواه فضلا عن تدبيره وترشيده.

ويعلم الاديب البحاثة، ان العلم ليس بريء وهو العارف بأدبيات الراحل إدوار سعيد، ويمكن ان نحمل «المعرفة» و«العلوم» ما شئنا من الافكار الجاهزة والتصورات القائمة والبناءات الآيديولوجية. يمكن ان نحجب ذواتنا تحت هالة من الموضوعية الصورية. وقديما قال الشاعر العربي:

وعين الرضى عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا

وملاحظتي تبدأ من حيث بدأ، ومن الشبح الذي رفعه من الانقسام والتشتت، وهو محق في ان يغار على ما يجمعنا ويدحض عنا ما يتهددنا، بل هو واجب كل مثقف ان يحدج الآفاق ويغوص في الاعماق ليلتمس لذويه هدى وهداية. وهو دور المثقف بامتياز ان يكون منارا يهدي، وان يبصر حيث لا يرى الآخرون أو يكتفون بالمشاهدة. ولكن هل الامازيغية ومتكلموها خطر على وحدة البلاد، ولِمَ لَم تكن كذلك وقد كانت نسبة الناطقين بها أكبر فيما سلف؟!

أوليس فيما يدعو له الدكتور الاديب بحثا لمشروع خبا هو محو التعدد؟ آمن رجال من الرعيل الاول من الوطنيين، عن صدق في غالب الاحيان، وقد كانوا قريبي العهد بمؤامرات المستعمر وألاعيبه، انه ينبغي تحصين الدولة الفتية بلغة وطنية وحيدة. وقد تبدى على محك التجربة ان الامازيغية لم تندثر ـ رغم التعتيم والتهميش ـ وان بنيها غير مستعدين ليروها تلفظ انفاسها، وانهم عملوا ويعملون على إحيائها. تبدى على محك التجربة ان «متزوجي» العروبة كانوا يتخذون الفرنسية خليلة، وانهم وهو الادهى فصلوا العروبة عن الاسلام في ارض لا تفرق بينهما. وتبدى على محك الواقع ان كثيرا من دعاة العروبة لا يحسنون العربية، ويكتبون حين يكتبون لغة متعتعة سمجة لا مذاق ولا طعم لها. وتبدى بالمقابل ان دعاة الامازيغية هم حراس اللغة العربية، حين ينافحون ويساجلون وحين يبدعون.

والعرق، واللغة هو المستوى الادنى ان لم يكن الدنى لكن الدني لكل انتماء. لم يكن العرق ولا اللغة اللحام الذي يربط بين الشعوب. ما يربطهم هو قيم مشتركة بغض النظر عن العرق او اللغة. بل لا يمنع العرق الواحد ولا اللغة الواحدة ببني الجلدة واللسان من التطاحن. وأنا شخصيا أرى من شأن الاعتراف بالاختلاف وحسن تدبيره ضمانة لتمتين عرانا، وان القفز على اختلافنا قد يسفر عما لا تحمد عقباه، وبخاصة في عالم مفتوح، انتفت فيه كل الحواجز وانزاحت. ما لا أفعل انا سيفعله الآخر، وفق تصوره وتوجهاته. وليت كثيرا من اصحاب الفكر عندنا يغادرون أبراجهم ويضربون في الارض ليسمعوا وينظروا حقيقة الامازيغية وحقيقة الامازيغيين في الريف وفي الاطلس وفي سوس وفي الواحات. ليقفوا على هذا «الخطر» الثوي الذي يحذرنا منه مثقفون «ملتزمون».

أما حديث اللهجات فالذين يثيرونه يفعلون عن جهل، وحبذا لو انهم جشموا انفسهم عناء تعلم الامازيغية، عوض ان يصدروا عن افكار عامة. فلو ارادوا الدقة لجاز ان نميز بداخل المجال اللهجي ذاته. فهناك فروقات واضحة في النطق ما بين كلام قبيلة «كلاعة» بالناضور (شمال المغرب)، وقبيلة «آيت ورياغل» بالحسيمة (شمال المغرب)، رغم انهما يدخلان في مجال «تاريفيت». وهناك اختلافات ما بين «تاشلحيت» بمنطقة «حاحة» (على الساحل الاطلسي) و«تاشلحيت» بمنطقة تزنيت و«تاشلحيت» بمنطقة تافراوت وكلاهما توجدان بالجنوب المغربي. ولهجة «دمنات» (في جبال الاطلس) هي عوان بين «تاشلحين» و«تامزيغت». ولهجة قبائل «آيت سغروشن» هي مزيج من «تاريفيت» و«تامزيغت». وهناك مناطق امازيغية تتخللها بؤر عربية كبني حذيفة وبني الخطاب في الريف، ونفس الشيء في سوس حيث يتكلم اولاد تايمة وأولاد جرار العربية، وكذلك الامر بتافيلالت حيث يتكلم ساكنة مدغرة وعرب الصباح العربية، وسط غالبية امازيغية، والعكس صحيح، حيث نجد مناطق عربية كأولاد حرار تتخللها بؤر امازيغية كما هو الامر بواحة فكيك. هذا التداخل لم ينف التعايش والتداخل، ولم ينتظر تعريف Erest Renan الذي نعرف أي منزل ينزل العرب والمسلمين، لكي يتعايش ويتمازج. هناك اختلافات كتلك التي كانت في جزيرة العرب بين عدنان وقحطان، بل بين طي وهذيل وقريش. هناك اختلافات كتلك التي توحد بين شامي ويمني ويستعصي على غير المتعلمين منهما ان يتفاهما. هناك اختلافات بين حلبي ودمشقي. لكن السدى واحد. وكذلك الامر بالنسبة للامازيغية. ويمكن ان نعطي امثلة حية من شباب يتكلمون لغة فصيحة. بل زارني قبل شهور فتى ليبي مقيم بالولايات المتحدة يتكلم سهوا ورهوا لغة امازيغية وسطى لم أجد أي عنت لفهمها. بل هناك انزياح تدريجي لفائدة لغة وسطى يستعملها المتعلمون ولا تنغلق على غيرهم. وكذلك كان شأن اللغة العربية، حينما احتوت لهجة قريش اللهجات الاخرى رويدا رويدا، وكذلك الشأن بالنسبة للغة الفرنسية اذ اغتنى لسان «جزيرة فرنسا» باللهجات الاخرى.

وليس من شك انه في سياق تبني الدولة للبعد الامازيغي وإقرارها بالثقافة الامازيغية وبالارتقاء بهما يتوجب التفكير مليا في تدبير العلاقة بين «اللهجات» وبين اللغة الفصحى، في أفق تذويب الاختلافات مع الزمن.

فاللهجات آيلة الى الاندثار كما حدث لدى مجتمعات اخرى، لفائدة لغة موحدة.

هذا واقع لا يرتفع رغم الارتجال والتسرع الذي يطبع تنفيذ خيارات تم إقرارها.

ولست أشك ان حصافة الدكتور الاديب ستسعفه ليميز الخبيث من الطيب، أو بتعبير اكثر «حداثة» يميز الحبة الجيدة عن سواها.