أخبار السريان والأرمن والروم في مفكرة المعلم نعوم

مدرس مولع بالطعام والتفاصيل يروي وقائع فتنة حلب عام 1850 بين المسلمين والمسيحيين إلى جانب صلح «العصملي والمسكوب»

TT

التظاهر بالشجاعة لحظة الخوف الحقيقي موقف غير انساني، فكلنا نخاف بدرجات متفاوتة، والاشجع، كما اظن هو الذي يعترف بمخاوفه، لذا قرأت باعجاب يوميات المعلم نعوم بخاش الحلبي عن فتنة عام 1850 التي اشتعلت في حلب من جراء فئة من الاشرار ارادوا نهب الاحياء المسيحية بالمدينة، فأشعلوا فتنة طائفية استمرت زمنا، وكان المعلم نعوم بخاش من شهودها ومسجلي وقائعها، فها هو يحكي كيف اختبأ في ذلك الخريف الدامي قبل قرن ونصف القرن من الزمان، وفي المخبأ لم يفارقه الخوف فهو يخبرنا في وقائع يوم السادس عشر من تشرين الاول ـ (اكتوبر) من عام الفتنة كيف صارت حالته بأدق تفاصيلها الداخلية: «... راحت مصاريني من قلبي وبديت أرجف وأنظر ماذا يصنع انطون حتى اصير مثله وقاربت الموت من الرعب وبديت اقول فعل الندامة تطلع: أبانا الذي، والسلام لك، وأرجع اعيد حتى أقول فعل الندامة ولزمت مكاني بالليوان وانا من الرعب عمال أرجف».

وحارات النصارى في حلب تختلف عن احياء هذه الايام فقد كان المعلم نعوم مختبئا في حارة الحصرم وبقية ربعه في حارة برغل (بلغور) والصليبة وزقاق الجديدة وقسطل البشير، وجزء منهم في كلاسة التدريبة كما يخبرنا في موضع آخر، بل كانت هناك عائلات مسيحية في الجلوم والمشارقة وباب النصر وربما كانت تلك الفتنة التي حركت «مصارين المعلم» من موضعها بداية انتقال نصارى حلب الى الميدان والسليمانية والعزيزية وجزء من الجابرية وكلها مواقع حديثة تم اعمارها بعد رحيل المعلم التقي الذي كان يبدأ يومه بالاعتراف عند قس طائفته دون ان يتعصب لها، فأخبار الروم والسريان والارمن كثيرة في مفكرته.

ونعوم بخاش الذي ينقل بدقة لافتة حادثا تاريخيا بهذه الاهمية معلم مدرسة بسيط مولع بالطعام والتنزه في البساتين وعاشق حقيقي للتفاصيل فقد كان يسجل يومياته على دفتر الجمعية التعليمية ويخلط الاحداث الكبرى مع اجرة التلاميذ ليعرف المدفوع من المتبقي، ولا تستغرب اذا رأيته يحكي لك كيف تعشى لحما بعجين ومشوي طنجرة عند بيت فلان، ثم يسارع ليسجل بعدها ما سمعه عن القيصر الروسي نيقولا، فالحدود في مفكرة المعلم عائمة بين السياسي والشخصي وهو من نوعية ترى ما يجري في محيطها الضيق بأهمية ما يجري في ساحات القتال في المعارك الكبرى ويجب تسجيله جنبا، الى جنب فما يجري عند جيران المعلم ليس اقل اثارة ـ من وجهة نظره ـ من محاولة اغتيال الامبراطور الفرنسي، ففي 8 حزيران (يونيو) 1855 وبعد ان يحضر جبنة ويسيحها ويسجل كم كانت لذيذة، نراه يقفز الى القول: «نابليون وحدة مرة قوسته بكتفه والمذكورة لها اولاد ثلاثة أخذ الاثنين للعسكرية وقتلوا وبقي لها واحد طلعت قرعته ترجت فيه ما رجوها، قدمت عرضحال لنابليون ما عدل عن ابنها فسحبت الفرد وقوسته...».

* قويق والبرطيل

والمعلم الحلبي لا يكتب وعينه على التاريخ بل ليملأ فراغ يومه ولو كان يظن ان هناك من سيعود لمفكرته كمادة تاريخية لما اعتبر جبر دواة المقلمة حدثا تاريخيا فذاً يجب تسجيله، ففي السادس من تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 1847 نراه يترك الاحداث الجسام ليخبرنا هذا النبأ العظيم: «والجمعة انكسرت عقب دواية المقلمة بعثت لحمتها وما لحموها مليح قمت فكيتها انا ولحمتها بالبيت».

والحق الحق اقول لكم انني احببت هذا المعلم البسيط الذي يرى اخبار جيرانه بأهمية خبر اغتيال نابليون، فنصف ما يسجله أو ثلاثة ارباعه عن ولادات جيرانه وافراحهم واحزانهم وطبعا عزوماتهم له، فنادرا ما يمر يوم دون ان نراه معزوما عند بيت كوبا أو بيت طباخ أو بيت جرجي ضاهر وهو في الاغلب الاعم لا ينسى ان يخبرنا عن نوعية الطعام ـ مقادم عند الياس بطال ـ وكبة عند بيت العجوري ومرة، وبعد مروره على باب جنين يأكل سمك عند بيت الريحاوي اصطادوه من نهر قويق.

وهكذا خبر لا بد ان يبعث الحزن في قلوب الحلبيين الذين كان عندهم نهر مليء بالسمك قبل قرن ونصف القرن وها هو يتحول الى طريق «مسفلت» لا تجري فيه نقطة ماء بعد جفاف الطبيعة وقطع الاتراك لمعظم انهار سورية من منابعها في هضبة الأناضول.

ان رجلا يكتب بهذه الطريقة يفيد المؤرخين اكثر مما يفيدهم الذين يسجلون وقائع المعارك، فنحن من خلاله نعرف ـ مثلا ـ ان الفرمانات كانت تتم قراءتها من بوابة السهروردي في قلعة حلب ونحس ضمناً بانتصار الضحية على الجلاد، فقد قتل ابن صلاح الدين الايوبي المتصوف السهروردي في القلعة وغابت اخباره ليصير للسهروردي بوابة باسمه يقرأون منها الفرمانات السلطانية.

ومن خلال واحد من هذه الفرمانات نعرف ان الرشوة كانت سائدة في زمن المعلم الحلبي كما هي في زماننا، الامر الذي اضطر السلطان الى ان يصدر امرا يحرم فيه تقديم «البرطيل» وهو الاسم القديم للرشوة التي لا تسود الا حين يغيب القانون ويبدأ الناس تسيير أعمالهم التي تخالف القوانين من خلال «تزييت الضمائر»، لذا اضطر السلطان بجلالة قدره ان يتدخل لمنع الرشاوى، ففي التاسع من تشرين الاول (اكتوبر) 1854 «قريو فرمان، لا أحد يبرطل لا في الصرايا ـ السرايا ـ ولا بالمحكمة ولا اي موضع كان...».

ومن خلال مفكرة المعلم نعرف اليوم كيف تم اجراء أول احصاء رسمي في تاريخ سورية عام 1849: «والخميس اجا الدفتردار وكتبة 2 وبيكاوات 2 وباشاوات 2 وسرب عسكر وباشة حلب لقلاية الروم الكاثوليكية وبديو يكتبوا كل بيت ببيته لحد الاولاد الصغار الذين يحملون على الكتف ويسألون الكبار عن كارهم وعمرهم وصناعتهم ويعرفوهم». وهي فرصة لم يفوتها نعوم صاحب الاخطاء الكثيرة والحذر الذي يخاف الله والحكومة معا فيعترف عند القس ويسجل تفاصيله عند الحكومة، لكن كثرة اعترافاته دعته لكتابة الكلمة بالمقلوب تمويهاً.

كذلك نعرف من تلك المفكرة الفائقة الاهمية للتاريخ الاجتماعي موعد افتتاح اول مدرسة للبنات في حلب في الرابع والعشرين من اكتوبر (تشرين الاول) عام 1854 وربما كانت الرائدة ماريانا مراش من ثمار تلك المدرسة المبكرة «يوم الثلاثاء فتحوا مدرسة بنات من روم وأرمن وسريان فوق كنيسة الموارنة «الصالا» واستكروها بسعر 1800 غرش بسعر السنة من الروم 1200 ومن بقية الطوائف كل منهم 200 ويعلموا قراءة وكتابة وضم لولو وخياطة وطاره وتزركش وارسلوا الناس بناتهم».

* ثورة الساخطين

والأهم من ذلك ان مدرسة صاحب المفكرة شهدت تعليما مختلطاً اولياً فقد كان طلابه من الذكور لكن فجأة ظهرت في لائحة قبض الاجور طالبة اسمها مريم.

وبما اننا فتحنا سيرة التعليم والتثقيف فإن اظرف اسم للمثقفين يستخدمه المعلم نعوم هو «السُخَطْ» وهو اسم لائق بهم فهم أكثر الناس سخطا وتعبيرا عن السخط ومناسبة الحديث عنهم هي ثورتهم ضد السلطان عبد المجيد، ففي اخبار السابع من كانون الثاني (يناير) لعام 1854 بعد ثلاثة اشهر على افتتاح اول مدرسة بنات بحلب يخبرنا المعلم الحلبي اولا عن صلح بين العصملي والمسكوب ـ يقصد العثمانيين والروس ـ ثم ينتقل الى ثورة «السُخَطْ» اي المثقفين: «وسمعنا صار صلح وختموا الملوك وسمعنا ان اذا ما صالح احدهم اي المسكوب والعصملي فيكونوا اخصامه الاربعة دول فرضي عبد المجيد وصالح فتسلحوا اهالي اسلامبول والسخط والمشايخ وقاموا ضد عبد المجيد وانهزم وتخبا بمراكب الفرنساوي والانجليز ونفضوا المراكب بعض عسكر ومسكوا السخط وقالوا الآن نخرب اسلامبول وركنوهم..».

وبذات البراءة التي يذكر فيها اخبار العسكر والمثقفين والقياصرة والسلاطين يحرص المعلم نعوم في مفكرته على تسجيل اخبار بنات الهوى، واماكن وجودهن، والظاهر ان مقهى السيسي وما يجاوره كان مرتعا لبنات الهوى اللواتي يطلق عليهن المعلم الاسم الحلبي «الشلكات» ويسمي زبائنهن لتكمل الفضيحة، وهذا خبر يسبق الفتنة بسنتين اي في عام 1848 «يوم الاحد (نيسان) شافوا اهل الصايح اربع شباب عمال يحكوا مع شلكات فصيروا لهم بهدلة وهم قرألي وشامي وكركور وسابغ وصار قرقعة كبيرة وبديوا بالليل يدوروا ان لا أحد يطلع ورا العمارة ونهوا عن عمارة المسبغة لبيت الدلال بالقيسرية التي جنب السيسي..».

لقد عدت الى كتاب «أخبار حلب» كما كتبها نعوم بخاش في دفاتر الجمعية التي نشرها مشكوراً الأب يوسف قوشاقجي لأستزيد من اخبار فتنة عام 1850 بين المسيحيين والمسلمين بالمدينة فوجدت نفسي امام سيل من الاخبار الخفيفة الظريفة التي تعطي اوضح صورة عن الحياة الاجتماعية في حلب القرن التاسع عشر. ولعل اهمية السنوات التي تغطيها مفكرة المعلم نعوم 1846 الى 1855 تكمن في انها السنوات التي تساعدنا على فهم المناخ الذي تربى فيه الثائر الحلبي الاشهر عبد الرحمن الكواكبي قبل ان يصدر في تلك المدينة صحيفتيه الهامتين «الشهباء» و«الاعتدال». فنحن لا ننسى ان نديم الكواكبي وابرز تلاميذه هو عبد المسيح الانطاكي الذي رافقه الى القاهرة ونقل اخباره، فلما اغتيل الكواكبي بدأ عبد المسيح يوقع مقالاته باسم «نديم الكواكبي». والشخصيتان تقدمان نموذجاً حياً للتكامل الاسلامي ـ المسيحي في وجه الاستبداد، فحلب التي دخلتها اول مطابع الشرق منذ القرن السابع عشر انتجت نخبة من «السُخَطْ» المسلمين والمسيحيين بينهم عائلة مراش وقسطاكي حمصي والدلال والكواكبي، وهؤلاء كانوا قبل عبد الرحمن كما يخبرنا محمد خليل المرادي في كتاب «سلك الدرر في اعيان القرن الثاني عشر» اهل فضل ورياسة واصلهم من اردبيل لكنهم سكنوا حلب وصارت اليهم نقابة الاشراف.

لقد قال الكواكبي الصارم الصارخ في «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»: «لو كان الاستبداد رجلا واراد ان يحتسب وينتسب لقال انا الشر وابي الظلم وامي الاساءة واخي الغدر واختي المسكنة وعمي الضرر وخالي الذل وابني الفقر وبنتي البطالة ووطني الخراب وعشيرتي الجهالة».

وهي لهجة لا نشاهد مثلها ابدا عند المعلم نعوم بخاش المدرس البسيط الذي يسير دوما جانب الحيط ويغضب بصمت ليلا ثم يستعير الحمير ليتنزه في البساتين نهارا تنفيثا لغضبه لأنهم منعوا العرق عن السكارى وهو يجد لزاما عليه ان يسجل نوعية الطعام الذي يتناوله ومع من؟ وأين..؟ فأهمية هذا المعلم تنبع من بساطته وقصارى تدخله في السياسة في عشر سنوات ـ هي زمن المفكرة ـ لا يتعدى بضعة اسطر عن السياسة الخارجية. اما السياسة الداخلية فلم يقترب منها الا حين قرقرت مصارينه من الخوف فحكى عما حصل له ولطائفته وللروم الارثوذكس والسريان والارمن، وحرص على ان يختم تلك الاحداث الجسام برسالة تسامح من الباشا في يوم ترحيل اشقياء الفتنة من حلب «والخميس سافروا الاشقياء وتفرجت من السطوح وكانوا مقدار 600 ومخشبين وابو عراج وولاد حميدة وغيرهم وطلعوا ناس من البرية وتفرجوا وكان جهل منهم والباشا محمد قبرصلي وصا لابن الركبي ان يوصي الاسلام ان النصاره ـ هكذا كتبها ـ واليهود والمسلمين سوا ما في بينهم فرق ابدا..».

رحم الله المعلم نعوم بخاش الحلبي فكم افادنا بحياده وخوفه وتفاصيله المملة في فهم تلك الحقبة القلقة التي اراد الجهلة خلالها ان يضربوا الوحدة الوطنية، فنجحوا الى حين ثم عادت حلب سيف الدولة لتصبح عنواناً للتسامح ومدينة مثالية لتعايش الاديان بسلام ووئام.