آيديولوجيا العبوس

سوسن الأبطح

TT

الانفجار ضحكاً خير من التشظي غضباً. والذين يشتكون من سطحية الكوميديا التلفزيونية يفضّل ان يوجهوا سهامهم للتراجيديا التي تبكينا ضجراً ولا تقدّم نفعاً. ورغم ان الفكرة الواحدة بإمكانك ان تدثرها بألف ثوب إلا ان الميل كاسح لإجلال المبكي والاستخفاف بالمضحك، على اعتباره هذراً ومزاحاً وتقطيع وقت.

ويوم الجمعة الماضي افتتح غسان الرحباني مسرحيته الفكاهية الغنائية «كما على الأرض كذلك.. من فوق»، وعرف كيف ينتزع الضحكات من قلوب اللبنانيين ويرفّه عنهم وهو يحرضهم على واقعهم المرّ. ولمزيد من الحرية والتفلّت من وطأة البصاصين والمتربصين فقد جرت أحداث المسرحية في العالم الآخر حيث لا حسيب إلا الله ولا رقيب إلا هو، من دون منافسين او متنطحين مدّعين. وكان بمقدور غسان الرحباني، كما فعلت المخرجة المسرحية اللبنانية سهام ناصر منذ سنوات، أن ينقلنا إلى جهنم ويحبسنا مثلها في ظلام مقيم، ويفلت علينا الجن والعفاريت بحجة اننا موجودون في دنيا الحساب. أما وان الرحباني قد اختار لنا الجنة، ووفر علينا ليلة جحيمية، فكان لا بد هناك من أنس الملائكة وخفة ظلهم، والاستغناء عن مستلزمات السوداوية والاكتئاب. ومن المحال ان تملي على فنان أو كاتب ان كان عليه ان يتبع طريقة الحكيم هيراقليط حين يشاهد أمور الناس فيبكي ويتحسر أم يتبع أسلوب ديموقريط فيتأمل البشر ويضحك ويسخر. لكن المثبت علمياً لغاية الآن، ان الضحك شفاء والدموع شقاء. وأحد أحدث الكتب الفرنسية، يروي فيه صاحبه كيف داوى مرض السرطان الذي ابتلي به بالتفتيش عن كل مضحك ومرفه ونجا بنفسه. ولا بد ان نضيف هنا ان الرجل لم يشف فقط بفضل الضحك بل عبأ جيوبه أيضاً بعد ان راجت سيرته الطريفة هذه في الأسواق، وضربت أرقاماً قياسية.

ولأسباب يجب بحثها فإن شر البلية ما عاد يضحك العرب أو يفتق قرائحهم عن فنون وآداب هزلية وساخرة، وظنوا ان الخلاص في التجهم وتقطيب الجبين. حتى ان الكاتب السوري المعروف بوعلي ياسين اضطر لأن يدافع عن خياره حين قرر تأليف كتاب عن فن النكتة كي لا تلوكه الألسن بالابتذال، وقال لمنتقديه: «هل أنا أكبر من الجاحظ». وبالمناسبة فكتابه «الهزل والجد» له من القيمة البحثية والعلمية ما يجعله يفوق بأهميته بعض مصنفات الفلسفة أو التاريخ في المكتبة العربية. ومن حق هذا الكاتب الجاد والجريء ان يصرخ غاضباً ويعترض: «وماذا أفعل للأمة العربية إذا كانت أحوالها بهذا السوء منذ مئات السنين؟ أنتفرغ جميعاً للثقافة السياسية ونهمل ما عداها؟ هل إنقاذ الأمة العربية متوقف على كتابتي أنا العبد الفقير إلى الله». وبما ان الاحتقار طال الأدب الشعبي والطرفة والألعاب والمهن اليدوية ليشمل الهوية والانتماء ويصبح ابتذال الذات جزءاً من آيديولوجيا العبوس، فقد أصبح بالتالي الفرح مستغرباً وبواعثه ومحركاته غير مرغوبة أو مطلوبة. ولا يفهم إن كان دعاة التراث هم الذين أساؤوا فهم أجدادهم حين أهملوا طرائف أبي الفرج الأصفهاني، ولطائف ابن عبد ربه، ونكات الخطيب البغدادي وخفة روح شهاب الدين الأبشيهي وابن قيم الجوزية والأسماء أكثر من ان تعد، أم ان دعاة التأورب هم الذين يتحملون مسؤولية الكشرة والتأفف والتبرم من الموجود والوجود؟ وما هو واضح وصريح ان إبراهيم المازني واحمد فارس الشدياق وتوفيق الحكيم وتوفيق يوسف عواد وإسحق موسى الحسيني ومارون عبود، كانوا جميعهم من أزمنة هي في مجملها أقل تقطيباً للجبين واقرب إلى بحبوحة تعبيرية وطرافة أسلوبية، تبقى مبتسمة مهما ثقلت أحمالها بأليم المعاني. وانت إذ تقارن بين هؤلاء وجيلنا الطالع، وما تنطوي عليه إبداعاتهم من أبطال ذوي نفوس متقوقعة، حاقدة على الدنيا، ومصائب لا مخارج لها ومستقبل شرس لا فكاك من أنيابه، لأدركت الفارق الهائل بين رؤيتين متجسدتين في أسلوبين أحدهما مسكون بالأمل والآخر مهووس بالشؤم والنكد، على اعتبار ان للسوداوية هيبة وهالة ليست للسخرية والمزاح.

وقد يقول قائل: «وما مدعاة الانشراح والسماء تكاد تطبق علينا متناسياً ان الفكاهة تولد، غالباً، من رحم المآساة، وأن التنكيت كثيراً ما يكون بمثابة مقاومة شعبية جماعية للمصيبة. ومعلوم ان ردود فعل المجتمعات تتباين أمام الكارثة الواحدة اكتئاباً أو سخرية. وفي كتب التاريخ ما لا يحصى من القصص حول اختلاف أمزجة الشعوب في مواجهة المصاعب. إذ يروى ان القاهرة ابتليت بمجاعات وأوبئة حصدت مئات الآلاف، وخلال وباء سنة 853 هجرية «شوهد الناس في شوارع القاهرة وهم يضحكون ويهزلون على حين كان الوباء في اليوم الواحد يحصد منهم في اليوم عشرة آلاف نفس على الأقل». وكي تتأكد من ان الضحك ليس مرتبطاً بالرخاء أو راحة الجيب والبال، فإن ثمة دراسة تقول بأن معدل الضحك للفرد الغربي الواحد كان عشرين دقيقة في اليوم بداية القرن العشرين، في ما تقلّص هذا المعدّل إلى خمس دقائق مطلع القرن الحالي. وهو ما يفسر، ربما ارتفاع معدلات التوتر والاكتئاب وحالات الانتحار. ونحن نجهل تماماً إن كان العربي يتفوق على الأوروبي بالضحك قليلاً أو كثيراً، لكننا نعرف بالملاحظة ان جذوة التهكم في النفوس تذوي في الوقت الذي يتنامي فيه الميل إلى العنف والعدوانية. «فنحن لا نقدر ان نكره ساعة نضحك» كما يقول جيري لويس. وهو رأي يتناسب مع ما رواه الجاحظ عن أحد بخلائه حين عوتب هذا الأخير في قلة الضحك وشدة القطوب فقال: «ان الإنسان أقرب ما يكون من البذل، إذا ضحك وطابت نفسه». فاضحك أخي العبوس ولا تخشى زوال هيبة، ففكاهة مع صدق أفضل ألف مرّة من جدٍ منافق، مكابر، وروّض النفس على المحبة والسلاسة كي لا يقال فيك:

وفظ غليظ الطبع لا ود عنده

وليس لديه للأخلاء تأنيس

تواضعه كبر، وتقريبه جفا

وترحيبه مقت، وبشراه تعبيس