صعود وأفول نجم البدو في رواية مصرية

ميرال الطحاوي تقلب زمنهم وخبايا حياتهم في «نقرات الظباء»

TT

ترسم ميرال الطحاوي بورتريهاً شديد الاناقة والحساسية على مستوى المخيلة واللغة والأسلوب لمن تسميهم «العرب البدو» في روايتها «نقرات الظباء» والتي صدرت طبعة جديدة لها هذه الايام عن مكتبة الأسرة بالقاهرة. يتحرك هذا البورتريه في فضاء بنية مقطوعة، تشبه الى حد كبير لقطات البروجيكتور، حيث تتقاطع المشاهد واللقطات في الرواية وتتناهى في الصغر والكبر، ومن الأعلى للأدنى، وفي نسيج رؤية طللية لمجد وعز أولئك البدو الذين أفل نجمهم تحت وطأة المتغيرات السياسية والاجتماعية التي اجتاحت المجتمع المصري بعد ثورة 23 يوليو 1952، وعلى حسب نص الرواية نفسها. يشغل البدو بعاداتهم وأعرافهم وأنماط حياتهم الخاصة خلفية البورتريه، ويشغل عمق البورتريه صورة فوتوغرافية تضم معظم أفراد عائلة «منازع» جد الراوية للأم، وخلف الاطار، في ظلال الصورة يتحرك أفراد عائلة «آل شافعي» جد الراوية للأب، وتشكل تداعيات الحلم والذاكرة، وتقاطعات الصورة والزمن، الركيزة الأساس التي تنطلق منه خيوط ومقومات السرد في الرواية البورتريه. فالزمن الثابت عند لحظة ما في الصورة الفوتو، يتحرك بفعل التذكر، ويتحول الى أداة لاستعادة الأصل واستقصاء الجذور، سواء في سيرة كل شخصية على حدة من أفراد الصورة العائلية، أو في صورة الرحم «مجتمع البدو» الذي ولدت ونشأت فيه، والمصير الذي آلت إليه.

ويتخلل البورتريه إيقاع سردي متكسر، مراوغ أحيانا، وبرغم ذلك يحتفي بقيم الثبات واليقين، وهو ما يبرز على نحو لافت في استهلالات المشاهد، حيث الجمل الاسمية القاطعة، المرصوفة بأدوات الوصل.. «جدي لأمي وأبي ليس له صورة» و«انشراح التي في صورة هند بثوب قصير وبنطال منقوش، سمراء عفية» أو «انشراح التي تسكن هناك الآن» و«انشراح هذه التي كان يسمع صوتها من ثاني دوار» أو «الاطار الذي كان مذهبا أصبح بلون الرمال باهتا» أو «هند التي خاطت ملابسها مدام كريستين» أو «مهرة بنت آل الشافعي التي ورثت بيتين».. وغيرها من الصيغ التي ترشح بدلالات اليقين، وكأنها محاولة لتثبيت الصورة في الزمن، صورة ذلك الماضي بوهجه الأول، مهما لحقته عوامل التغير والنسيان. ومن ثم تنداح رموز وأفعال التذكر، وتسيطر على نسيج المشهد في الرواية، بل تكاد تتركز وظيفتها في استحضار ذلك الماضي، ولا يختلف الأمر كثيرا لو تحدثنا عن طاقة وآليات الحلم، وقدرته على تذويب الفواصل بين التخييلي والواقعي، أو بين النسيان والتذكر، أو بين الصورة والزمن.. وغيرها من الثنائيات التي تحفل بها الرواية، لذلك يتحول الماضي الى «مخزن للصور» الى محض نوستالجيا، تتقمصه الذات الراوية أحيانا، وتتماهى معه أحيانا أخرى، وتنتقي منه ما يتوافق وينسجم مع رؤيتها ومحمولاتها على المستوى الفكري والدلالي. وربما لهذا تتجاوز هذه الرؤية في إطار تجسيدها لطبيعة ومكونات عالم البدو سياق هذا العالم التاريخي والاجتماعي الملتبس في نسيج المجتمع المصري بشكل عام، وتصوره الكاتبة ـ بحكم انتمائها إليه ـ على أنه النموذج الذي كان يجب أن يبقى، كان يجب ان يعاش.. ولذلك أيضا يظل هذا العالم واقعيا غائما بين حافتي الصدق والكذب معا، وفي خبرة الكتابة يظل يراوح بين حقيقة الصورة ومفارقات المثال. ينعكس هذا الجو على الطبيعة النفسية والصورية للشخوص، فمعظم نساء الرواية يتعاملن مع عالمهن، عالم البدو وكأنه حجرة مغلقة، لا يستطعن بإرادتهن التلقائية الخاصة أن يفتحن فيها أية طاقة، يطللن منها على الخارج، أو على أنفسهن، إنهن يدرن في تقاليد هذه البيئة المتحفظة، والتي يشغل فيها الرجل بؤرة النفوذ والسلطة والجاه، وفي هذه البؤرة يتحرك معظم نساء الرواية، وكأنهن صدى لحقائق منسية، أو ظل لوجود هارب، مشوه ومبتور، بحكم تقاليد هذه البيئة من ناحية، وتحت وطأة تناقضات نفسية لا نعرف كنهها أو أسبابها على وجه الدقة، لكننا نستشف ظلالها ـ أحيانا ـ في ثنايا بعض التلميحات والايحاءات السردية الخاطفة.. فالمرض والجنون يوديان بحياة «سقاوة» و«هند» ابنتي لملموم باشا الباسل، الأولى، وتحت حدة نوبات عصبية كانت تداهمها كثيرا تهوي فوق عمود البلكون.. «تحلقوا حولها، كان الدم ينزف والكلوب الذي في البلكون تحط عليه فراشات كثيرة، وتطير بأجنحة لها رائحة شواء الضأن».

يكثف اللبس بهذه التناقضات المساحات الفارغة التي تتركها الكاتبة ـ أحيانا ـ بتعمد في ظلال البورتريه أو الصورة التي ترسمها لشخوصها، وكذلك البناء الذي يعتمد على تداخل البداية بالنهاية والذي يصل أحيانا الى حد التماهي بين الذات الراوية وبين الذوات المروي عنها. وفي ظل سيادة ايقاع (أنا) المتكلم المفرد على مدارات السرد. ومن ثم لا نعرف بالضبط حقيقة العلاقة الغامضة التي تلمح اليها الكاتبة بين «سهم» العبد الذي أطلق عليه لملموم باشا الباسل هذا الاسم لانه كان يستعيض به عن كلاب السلوقي في رحلات صيده.. ثم حقيقة موت «سهم» حرقا عقب وفاة «سقاوة» وكذلك «هند» التي وقعت في غرام «بيير» الرسام الفرنسي الذي عشق حياة البدو، وعاش معهم لفترة، وسمى نفسه باسم سليمان.. «هند» ـ وكما تصورها الرواية ـ تفقد قدرتها على فعل أي شيء سوى انتظار الموت، بعد ان حبسوها في حجرة بيت قديم مهمل، ليس به سوى كوة وحيدة بالكاد تدخل بصيص الضوء والقطط والفئران والخفافيش والعناكب.. تصف الكاتبة موت «هند» على لسان الجدة «النجدية» في مشهد دال يكشف الكثير من عورات هذا العالم.. «رأتهم وهم يسكبون الماء على جسدها قبل أن يلفوها بالكفن، بعدها ينثرون العطور وينصرفون، دون أن يصرخوا أو يبكوا أو حتى يلبسوا ثياب الحداد، كانوا قد أعلنوا عن موتها قبل ذلك بكثير من يوم أن أدخلوها هذا البيت وأغلقوا النوافذ والأبواب وانسحبوا غير منتبهين، وقالوا «مسكينة» ثم تحاشوا ذكر اسمها».. وتماشيا مع الاعراف والتقاليد يتزوج زوج «هند» (ابن عمها) أختها سهلة، لكن العلاقة تظل بينهما غير سوية، بل شديدة التنافر، ويبدو أيضا ـ وكما تلمح الرواية ـ ان غرام سهلة ببيير كام الرسام تظل حاجزا نفسيا بينها وبين زوجها، وربما كان هذا سبب تمنعها عنه، حتى ان «النجدية» اختلط عليها الأمر ان كانت ابنتها لاتزال بكرا أم دخل بها. ولا تفصح الرواية عن اسم هذا الزوج، لكن سهلة عندما اشتد به المرض تحنو عليه، وتلقمه الدواء، وحينما يموت ـ وبحكم الاعراف ـ تبكيه بكاء حارا.. لكن مع ذلك تظل شخصية«هند» وموتها الغامض إحدى العلامات الفارقة في الرواية، فهي تومض في ثنايا المشهد، وكأنها تميمة معلقة في رقبة الزمن، كأنها شهادة ونبوءة على انكسار حلم مجتمع البدو في الزمان والمكان، ثم انها الشخصية الوحيدة في الرواية التي تعلو على حدود الواقعي، وتحولها طاقة

الحلم ـ أحيانا ـ الى ما يشبه الاسطورة.. فهند «منذ ذلك الحين تأتي إليهم، أول مرة شاهدوها وهي تركض في الفناء، كانت مهرة ناعسة على حجر النجدية، وهي تحكي لها حكاية «السهى» تلك الظبية التي ركضت في السماء، ولأنها تركت وليدا صغيرا على الرمال لا يعرف كيف يهرب من صياده، تركت له نقراتها المضيئة نجوما تنبئ بمواضع الخطر».

وبرغم الاضطراب النفسي الذي تعانيه معظم شخوص الرواية والذي يشير إلى مساحات من القمع داخل هذا المجتمع، في أنماطه وعاداته وتقاليده، وأنه مجتمع ـ برغم سطوته ـ يعيش على الحافة، إلا ان الخطر الحقيقي الذي قوض مجتمع البدو، كما تصوره الرواية هم عساكر يوليو الذين أغاروا على حدائقهم الغناء، وصادروا ممتلكاتهم، وغيروا اسم مدرستهم، وفتتوا إقطاعياتهم ووزعوها على الفلاحين، وحولوا عبيدهم الى سادة، فيما عرف بقوانين الاصلاح الزراعي، ولجان تصفية الاقطاع.. تصف الرواية ذلك في أحد المشاهد على هذا النحو «وثمة عسكر آخرون كانوا يحملون المهرات والنوق والنعامات والغزالات الصغيرة من الدوار مقسمين أرضا كان يطلق عليها ـ اقطاع البدوان ـ الى رقعة شطرنج، تاركين حديقة آل الباسل خالية تماما بلا جوارح أو مهرات أو غزالات مسيجة في الاقفاص».. لقد تحول الماضي الى مرآة مهشمة، الى ظل ذكرى لأثر عابر، يتراءى خلسة في صورة الأب، أو العمة «مزنة» التي تجلس أسفل مقعده، وهو يحكي عن جده آل الشافعي الذي كان يوقد النيران ليعبر الناس ويقولوا نار آل الشافعي لم يطفئها جدب ولا غيث.. وأمام هذا الانكسار الجارف لا يجد الأب فارس الصيد والقنص بداً من أن يفتتح مكتبا باسم الشيخ مطلق الشافعي السليمي «خبير خيول وصقور» ربما ليشم منه رائحة ذلك الماضي، وانه

كان ـ ذات يوم قريب ـ قائدا وأميرا وليس تابعا لهؤلاء البدو الذين يتوافدون من الجزيرة العربية بغرض القنص والصيد. وتبلغ النهاية ذروتها حين يصبح الحلم بذلك الماضي مرثية موجعة للذات وللزمن والاشياء.. «لم يعد يكرر أحلامه بشاهين ألبى خالص البياض، يبيعه بربع المليون ويصبح شيخ العربان».. هنا تختلط خطوط السرد وتتداخل أزمنته، يختلط الماضي بالحاضر بالمستقبل، تختلط الصورة بالظلال، لتضعنا الكاتبة أمام نهاية مسكونة بحس المتاهة والحسرة، فكأن ولادة هذا المجتمع قد حدثت في الماضي ولا يمكن أن تتكرر. لقد هيأت ميرال الطحاوي ـ وبموهبة متميزة ـ عناصر عديدة لنجاح هذا البورتريه، لعل أبرزها، في تصوري، مايمكن أن أسميه «حميمية المكان»، فعناصر المكان ومفرداته ملتصقة بالبشر الذين يعيشون فيه، يشكلونها وتشكلهم في الوقت نفسه. أيضاً ما يمكن أن أسميه: «حميمية الوصف» وصف الأشياء، والثياب، والطعوم، وعناصر الطبيعة.. وغيرها من مفردات ونثريات المكان. فالوصف في الرواية مندغم في أزمنة السرد، لاينفصل عنها، يتجاوز حدود التلوين والتوثيق، ويضفي على المكان أبعاداً انسانية، كما أنه يشكل أحد مظاهر السرد، والعكس صحيح. وبرغم هذه الحميمية، إلا أننا في النهاية أمام رواية وعي شديد الانضباط، بل صارم أحياناً، وعي لا يقيم ـ في الغالب ـ توازناته من داخل الرواية نفسها، بقدر ما هو مشدود للخارج، ولعل هذا يفسر ـ لي على الأقل ـ خطين ملتبسين في الرواية، الأول النظر إلى المصرية باعتبارها هوية طاردة لهؤلاء البدو الذين نزحوا من أصقاع الجزيرة العربية وتشربوا ملامح هذه المصرية، وانتموا إليها، وبنوا عزهم ومجدهم في ظلالها، والخط الثاني هو شخصية الرسام الفرنسي الذي ينتهك حرمة هذا المجتمع تحت قبعة الغرب، وتتماثل شخصيته ـ الى حد كبير ـ مع شخصية «مينو» أحد رجالات الحملة الفرنسية على مصر والذي أسلم، وتزوج مصرية وسمى نفسه الشيخ عبد الله.. لقد استحضرت ميرال الطحاوي التاريخ في إطار لحظة خاصة، لكن هذه التوازنات سيجت وظيفته في الرواية فأصبح التاريخ مجرد صدى لوقائع محددة، مجرد إناء فارغ من توترات الروح.