العرب في جحيم الألفاظ

ثمة انطباع بأن لاعبي السياسة أدمنوا الاستفاضة في التنظير فاضجروا بعد أن عز التطبيق

TT

الاختلافات التي برزت على السطح كانت صاعقة، لكن الرغبة في البوح والمصارحة كانت مدهشة بدورها، والجمع الغفير الذي قضى اياماً ثلاثة يحاول ان يقول الألم العربي بموضوعية تحت مظلة مؤتمر الفكر العربي (أنهى أعماله في بيروت السبت الماضي) أهم انجازاته وضع الجسد العربي على المشرحة. ومن تباين آراء المشخصين والمخمنين، كانت في كل جلسة تتكشف عورات جديدة للنفس العربية، ربما لم تكن لتؤخذ بعين الاعتبار من قبل. واذا اردت ان تعرف لب المشكلة وجوهرها كان عليك ان تصغي جيدا لتفهم ان كل لفظة ومفردة بحاجة لأن يتم الاتفاق عليها وحولها، فلم يعد ثمة بديهيات ومسلمات او ثوابت باستثناء الاجماع الذي لا لبس فيه على ان الارتطام بالقاع بات وشيكا. ومع ان تعدد وجهات النظر هو منبع غنى، إلا انك تتساءل أمام هذه الجبال من التباينات: «أوليس كل ما زاد عن حده انقلب الى ضده!»، وهل من وسيلة ناجعة لرأب هذه التصدعات قبل التفتت والاندثار؟ فكلما نطق احدهم بلفظة او مصطلح كان يجد دائما من يقول العكس. فهذه مداخلة تندد بالتدخل الخارجي وتلقي على عاتقه كل علة وتلك اخرى تنصح بالنظر الى الذات في المرآة قبل التجني على الغير، ليأتي رأي ثالث وينبه: «كفوا عن لعبة البيضة والدجاجة فالعاملان مؤثران في الميزان». وثمة من يخاف «الغزو الثقافي» وينادي بصد الهجمة لينبري له من يصرح بأنه: «يخجل من هكذا كلام في مؤتمر يدعي الفكر ومخاطبة الغير»، ثم يتدخل طرف آخر ليعتبر ان الافضل اعتماد مصطلح «المناعة الثقافية» لتفادي استخدام لفظة «الغزو» ورابع يتكلم عن «التثاقف» او «التلاقح» لتذليل الاشكال. وبما ان رحم الثقافة من الخصوبة بحيث تتوالد منه المعجزات فستكر السبحة، ويطفو حديث عن ثقافة التصفيق، وثقافة الولاء، او الخوف والخنوع. والحق يقال بأن الباحثين الكويتي محمد الرميحي واللبناني اهيف سنو كانا قد ضربا على الوتر الحساس حين اعتبر الأول ان «الثقافة فيل كبير الحجم يتحسسه عدد من العميان، كل يصفه حيث يجسه.. وبالتالي فإن مفهوم «الثقافة» ما يزال عند العرب غامضا وعصياً على الفهم» ليوافقه سنو وان بعبارات اخرى. وتكسر الجرة ـ كما يقول اللبنانيون ـ طالبة عربية مشاركة جاءت تتحدث عن جيلها، بشرتنا بأن هذا الحوار سيكون مستحيلا بعد سنوات، لأنها ـ ومع الاعتذار من الجميع ـ لا تجيد التحدث بالعربية الفصحى، وما تتعلمه وأصدقاؤها في المدارس والجامعات، لا يؤهلهم مستقبلاً للانشغال بمعنى «الثقافة» أو مشكلة المصطلحات، وعلى الأغلب ـ ودائماً بحسب الطالبة الجامعية العربية التي لا تجيد العربية ـ لن يكون في الغد مثقفون (وبالمناسبة فإن جيش الطلاب المشاركين تكلم بالعامية بسبب العجز لا من باب التبسيط).

ومع ان عبارة الصبية الفتية تسد الشهية الا ان شهوة البقاء تحث على عدم الاستسلام لسوداوية التوقعات. والنقاش المرير من اجل صراع البقاء استمر وبنفس الحدة. ولكن حين اتى من يطالب بالحفاظ على الهوية الوطنية والقومية عثر بطبيعة الحال، على من يذكره بأن الهوية ما تزال في طور التشكيل. ومن ناشد بضرورة «تجديد القيم» وجد من يعترض بحجة حاجتنا الى «تأصيل القيم» لا تجديدها. وقدم باحث ورقة يعترض فيها على لفظة «حضارة» ويريد ان يستبدلها بمصطلح «علم العمران» لأسباب يفندها. ولم نحرم المتحدثين عن «المؤامرة» وهم يستندون بالبراهين الدامغة الى وثائق المستعمرين الفضائحية وخططهم القديمة التي تم الكشف عنها بحكم مرور الزمن، ليجيب غيرهم بأن إسرائيل لا صلة لها بتردي التعليم وتفشي الفقر واللائحة تطول. وما بين المتشائمين والمتفائلين، والذين يؤمنون بأن السياسة هي رأس الحربة والمتأكدين من ان الثقافة هي التي تغذي النبض العربي حين تضخ الوعي في الشرايين، لذلك منها يبدأ الاصلاح، ومن يعتقد ان لا مفر من الديمقراطية الغربية والمصرّ على ان لكل ديمقراطيته التي يفصلها على قياسه، ومن يحض على أولوية توحيد المناهج العربية ومن يخشى نتائجها التسلطية، كان لا بد من سنوات تمر على المجتمعين في تلك القاعة الفسيحة كي يصلوا الى بر التوافق الانسجامي المقبول. والملاحظ ان «الارهاب» رغم انه الشغل الشاغل دولياً هذه الايام، فقد تردد ذكره مراراً على ألسن السياسيين وبدرجة أقل، الى حد لافت، في مداخلات الاكاديميين والمثقفين. ومع ان كثيرين ينتقدون الاجتماعات الكبرى، ويجدون فيها مضيعة للوقت والمال، وهو الشائع في اغلب الاحوال، الا ان النقاشات هذه المرة كانت تستحق، امعان النظر واستقاء العبر وفهم الدلالات، لا سيما في اليومين الاخيرين، وبعد ان توارى السياسيون قليلا، وهم الذين لعبوا دور البطولة في اليوم الأول.

والكلام هنا لا يريد الاستخفاف بالسياسة وسياسييها، لكن ثمة انطباعاً بأن لاعبيها الافاضل ادمنوا الاستفاضة في التنظير فاستغرقوا واطالوا واضجروا بعد ان عز التطبيق. وتواجد الساسة في سلة واحدة مع المثقفين ورجال الاعمال والنشء الجديد، لينخرط الكل في ورشة تفكير يسبق التدبير، الذي ننتظره على احر من الجمر، هو امر مفيد شرط ان يأتوا جماهيرهم منصتين ومحاورين لا اصحاب خطابات. ولهذا الغرض، على الأرجح، لم يتحدث رئيس وزراء لبنان بصفته الرسمية وانما باعتباره المواطن العربي رفيق الحريري. وشارك كذلك المواطن العربي عبد العزيز بوتفليقة، ليضع جانباً خطابه الذي اعده كرئيس لجمهورية الجزائر وينخرط في حديث شجون وفكر. وربما كان لهذا المؤتمر من النقد الكثير، وكل جيد هناك ما هو اجود منه، لكن هذا الاجتماع الضخم لا بد اسس لقاعدة اولية ما، منها ربما نفهم ان مؤتمرات غيره تغوص في تحديد المفاهيم واحدها تلو الاخر قد تكون من الأولوليات العربية. وليس عارا ان يجتمع البشر ليتفقوا على معنى كلمة او مفهوم، وانما العيب ان نفترض الفهم ونحن عنه مسافة سنوات ضوئية. وقل ما شئت عن هذا المؤتمر الا ان له فضيلة الزام الناس التحدث، بطيب خاطر، باعتبارهم عربا، وهذه نقطة جوهرية لم يتنازع عليها اثنان، وهي وحدها كفيلة بفتح ابواب الأمل. وان كنت من الذين يعتقدون ان الامر بديهيا، ندعوك لمراجعة الصحف اليومية، والآراء المابعد عبثية، لتعرف ان اقناع بني يعرب بالبحث في المشترك بينهم بالحرارة والحيوية التي شهدناها، هو بحد ذاته غاية صعبة المنال. ألم نقل لك أن النقاش يجب ان يبدأ من الألف باء.

[email protected]