خيوط غير مرئية بين جمهوريات الموز ودويلات ملوك الطوائف

ليس عند المقهورين من سلالة بناة الأهرامات ما يقدمونه في العاصمة المكسيكية غير الفخر والخطابة وقصة الحب التي ربطت فريدا بتروتسكي

TT

عقيدة مونرو ـ المنسوبة إلى جيمس وليس الى مارلين ـ هي التي حطمت أميركا اللاتينية وقسمتها وأعطتها للتحقير والتضعيف اسم جمهوريات الموز، وهذا يشبه اسم دول ملوك الطوائف الذي يشير إلى أسوأ حقبة في التاريخ الأندلسي حين ضعف العرب وذهبت ريحهم وصاروا ألعوبة بيد القوات الخارجية المجاورة. ولا تستبعد المقارنة ـ يا صاح ـ فبين تلك الدويلات وهذه الجمهوريات الكثير من الشبه السياسي والخيوط الخفية والمرئية.

ويقوم مبدأ مونرو الذي صيغ في الربع الأول من القرن التاسع عشر على المنع الأميركي وبالقوة، اذا اقتضى الأمر، لنشوء أي ثقل سياسي أو عسكري في أميركا اللاتينية ودول الكاريبي. وبعد الرئيس جيمس مونرو جاء تيودور روزفلت في أوائل القرن العشرين 1904، ليزيد في طنبور مونرو نغما ألعن يعطي الولايات المتحدة الأميركية حق التدخل في أي مكان من أميركا اللاتينية، وفي مرحلة بلغت المنازعات الأوروبية اقصى توحشها وانقساماتها لم يستطع العالم ان يفعل شيئا أمام تلك العنجهية التي تكررت بعد مائة سنة بالضبط في العراق انطلاقا من ذات العقيدة التي اكتفت في البداية بسيطرة غير مشروطة على نصف الكرة الارضية الغربي ليجيء الدور بعد قرن من الزمان على نصفها الشرقي.

والشعوب لا تسكت عادة على العنجهيات وان سكت حكامها، لذا تحولت القارة العذراء الى ساحة مواجهات دامية طيلة قرنين استولت خلالهما اميركا على كل المفاصل الاستراتيجية ومنها خليج ـ غوانتانامو ـ الذي تمت سرقته بهدوء قبل ان يشتهر بتحوله في السنتين الماضيتين الى معتقل رهيب يذكر بالمعسكرات النازية.

وكان نصيب المكسيك من الاقتطاع كبيرا فولاية تكساس الغنية بالنفط سلبت بالكامل وألحقت بالولايات المتحدة الأميركية ومعها ولايات واراض اخرى اقل أهمية، لذا لم يكن غريبا ان تتحول تلك البلاد الى بؤرة دائمة للثورات والى مصنع لتخريج الثوريين. فأوغستو ساندينو الأب الروحي للثوار الساندينيين في نيكاراجوا تربية مكسيكية صافية. فقد عمل ذلك الميكانيكي البسيط في ورشة مكسيكية قبل ان يعود الى بلاده لتشكيل حركة المقاومة التي لم تتوقف الا بعد ان اسقطت سوموزا، وغالبا ما يتم تصوير ذلك الثائر في اللوحات والقصائد بالقبعة المكسيكية الشهيرة التي تكاد تكون معلما لقارة بكاملها:

في ظل قبعة مكسيكية

جبينه عابس ونظرته حزينة

كتمثال اله قديم

ساندينو في كل ساحة

أما أشهر رجال الثورة العالمية الذين حطوا رحالهم بالمكسيك فهو ليو تروتسكي، الذي اختلط تاريخه قبل أن يفقد حياته بفأس، بتاريخ المكسيك العاطفي، من خلال قصة حب ربطته بفريدا كالو الرسامة الشهيرة التي تحولت في بلد يحب الاساطير ويصنعها بغزارة الى اسطورة معاصرة.

* الثائر والشهوانية

* وقد تحول منزل تلك الفنانة في العاصمة المكسيكية الى مزار لا بد منه في مدينة كانت الاجمل والاثرى في القارة قبل قرنين وصارت الآن الافقر والاقبح والاقل امنا، فهي المدينة الوحيدة في العالم ـ ربما ـ التي تخلع فيها ثيابك على الشاطئ وتدخل لتسبح عدة دقائق ثم تخرج فلا تجدها، وتعتبر نفسك محظوظاً إن لم يكن لصوص ثيابك بانتظارك ليفتشوا (مايوهك) بحثاً عما تخفيه من ثروات عظيمة خفية!.

لقد كان متوقعاً من سياق الاحداث الذي يشي بإعجاب مبكر ان يحب تروتسكي العجوز الفنانة الشهوانية المتفجرة التي تشبه نفسها كثيراً بـ (فيراكوجا) الهة الخصب المكسيكية، لكنه كان ككل حب ينقصه التكافؤ عابرا أو قصير العمر، فلم يكن مناسبا للثائر الستيني المتزوج لمدة 35 سنة ان يواصل الى الأبد كتابة رسائل حب يخفيها كالمراهقين في طيات الكتب التي يعيرها لفريدا اللعوب التي كانت متزوجة هي الأخرى، لكن الإخلاص مصطلح بائت لم يكن له وجود في قاموسها.

ومثل شمعة في الريح التهبت شهوة الحب بين تروتسكي ومضيفته المعجبة بعقله لا بفحولته، ثم انطفأت سريعاً من دون ان يدري احد مَن البادئ بالخصام، والأرجح انها فريدا، التي ملّت صحبة الشيخ، وكتبت في احدى رسائلها لصديقة مقربة تعرف اسرارها، انها ضاقت ذرعاً بالرجل العجوز ولم تكن تعني زوجها!.

وهناك حكاية سخرية مبطنة تعزز هذا الاتجاه روى قصتها رائد السيريالية ـ اندريه بريتون ـ الذي كان صديقا للاثنين، ففي عيد ميلاد تروتسكي الذي يصادف ذكرى الثورة الروسية، أهدته فريدا بورتريها شخصيا رسمته لنفسها وقدمته له في السابع من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1937، ولم تكن مرسومة بثياب (التيهوانا) الفولكلورية، التي تحبها، ولا باليونيفورم الثوري المرقط، بل رسمت نفسها بثياب ارستقراطية زاهية مهفهفة بين ستارتين على طريقة النبيلات الفرنسيات، اما تعبير الوجه فكان أقسى مما يحتمله الثوري العجوز المنفي. وكانت الهدية عموما ـ وبلغة بريتون ـ مثل قنبلة ملفوفة بخيط حرير وهو وصف يليق بشخصية فريدا كالو المتفجرة التي جسّدتها سلمى الحايك حديثاً على الشاشة، وبكل أسف فقد ضاع وقع ذلك الفيلم الذي عرض لسوء حظ سلمى وفريدا في اسبوع الغزو الأميركي للعراق.

ويقع متحف فريدا والمعروف باسم (كويو اكان) جنوب غربي العاصمة المكسيكية، وفيه ولدت وعاشت معظم سنوات حياتها مع زوجها الرسام دييغو ريبيرا، الذي طلقها وتزوجها ثانية، وكان يتسامح مع كل مغامراتها مع الجنسين لأنه لم يكن أكثر إخلاصاً منها، وهذا ما لم تظهره كثيراً سلمى الحايك في فيلمها عن فريدا كالو وعندها الحق بذلك، فللناس إبداع الفنان اما حياته الخاصة فملكه الشخصي.

ولا يستطيع المدقق في رسوم فريدا المكسيكية التي اصيب عمودها الفقري في حادث مروع، الا ان يتذكر جوجان بكل رسومه الوحشية وألوانه الحارة، فالمصدر الإلهامي واحد وهو جزر الكاريبي المشبعة بالضوء والخضرة والمتحررة نسبياً بعد الزواج الثقافي الافرو ـ لاتيني من كوابح الجسد وتعقيداته.

وغير هذا المنزل ـ المتحف الذي يقع على تقاطع ـ لوندريس الليندي ـ امتلكت فريدا منزلين يربطهما جسر في ضاحية (سان انجل) وأحد هذين المنزلين كان كما ورد في كتاب (هايدن هيريرا) عنها عش الحب القصير الذي عاشته مع الثائر الروسي الذي سرعان ما اضجرها في الفراش لأنها كانت أكثر ثورية منه، لكن على طريقتها وأكثر شهوانية بحكم السن رغم انقصاف عمودها الفقري.

لقد غيرت هذه الفنانة ميلادها من عام 1907 الى 1910، لا لتصغر نفسها كما تفعل النساء انما لتقول وهي المليئة بالفشر المقبول والترغلة الجميلة انها ولدت مع الثورة المكسيكية التي انطلقت في ذلك العام، وهي آخر الثورات الكبرى في تاريخ القارة قبل ثورة كوبا، وكان الناس وقتها قد ضجوا من ظلم الديكتاتور دياز الذي يعتبر الأب الفعلي لكل من مارس بحرفية عالية مهنة تزوير الانتخابات في العالم الثالث، لكنه مع ذلك كان ظريفاً ومشهوراً باستخدام مسحوق الأرز لتبييض وجهه قبل ولادة العمليات التجميلية التي يستخدمها اللاتينيون بكثافة اقتداء بما يفعله مايكل جاكسون.

وإلى دياز الذي ابقاه التزوير حاكما لمدة 34 سنة، ينسب القول الفاجع الذي يلخص مأساة المكسيك مع جارتها القوية التي تمتلك كل شيء باستثناء الضمير العادل:

يا لك من مسكينة يا مكسيك

كم أنت بعيدة عن الرب

وكم قريبة منك اميركا

لقد طار هذا الديكتاتور بعد ان ثار عليه فرانسيسكو ماديرا في العام الذي أحبت ان تنتسب اليه فريدا، لكن امهات الديكتاتوريين لسن عواقر فالظلم في تلك البلاد كما في البلاد العربية يتناسل بمعدلات فلكية، والشعوب تخوض دوما حروبا لا ناقة لها فيها ولا جمل، وأصعب ما في تاريخ المكسيك ان شعبها خاض اوائل القرن التاسع عشر حرباً ضروساً لعيون صناع الكاتو الفرنسيين الذين حرضوا نابليون الثالث على تأديب المكسيكيين كي لا ينقطع جوز الهند والمكسرات التي يستخدمونها في صناعتهم!

* حرب الكاتو

* ولم يكذّب الامبراطور خبرا ولا خذل الحلويات الفرنسية، فقد جرد جيشا عرمرما احتل جزءا مــن المكسيك وفرض عليها بالقــوة حاكما فرنسيا هو (ماكسيميليان هابسبورجو)، الــذي تركها من شدة عدله كفــرنسا في القرن السابع عشر على زمن ماري انطوانيت بلا خبز ولا كاتو.

ان شقاء المكسيك بحكامها ومستعمريها واحدة من اكثر الحكايات حزنا في التاريخ الإنساني، وهذا الحزن التاريخي موجود بكثافة في اشعارها وفنونها. بعد سنوات من حرب الكاتو سوف تكتب الشاعرة المكسيكية ـ لاورا مينديث دي كوينكا ـ قصائد مترعة بالخيبات الانسانية التي ترتبت على تلك الظروف القاهرة التي جعلت الحياة بلا طعم ولا لون ولا رائحة وهي حياة الموت احيانا أرحم منها:

شكواي في روحي محبوسة

والعقل والقلب مترعان بالكآبة

هل هذه حياة؟

تعال ايها الألم

روحي المتوحشة تنتظرك

كنسر ينتظر بروميثيوس

والفرق بين لاورا شاعرة القرن التاسع عشر، وفريدا فنانة القرن العشرين، ان الثانية لم تستسلم لقدرها وظلت مع زوجها الفنان تحارب النفوذ الأميركي للسيطرة على الأرواح بعد السيطرة على الاراضي، ففي واحدة من اجمل لقطات فيلمها تقف مع دييغو ريبيرا، الذي رفض ان يزيل صورة لينين التي رسمها على جدارية مجمع فورد في ديترويت الأميركية وتشد على يده مشجعة، فلا فن من دون مبادئ تجعل الفنان يتمسك بحريته ـ في اللوحة على الأقل ـ امام عنجهية سياسية ومادية تظن انها قادرة على فرض أي شيء بقوتها وشراء أي إنسان بملياراتها.

لقد تحول المكسيكي الطيب الحزين في الأفلام الأميركية الى عنيف متوحش وغارق في المخدرات، فالسينما تكمل اليوم التشويه الذي بدأته الحملات العسكرية الأميركية والفرنسية والاسبانية لفرض النفوذ على أميركا اللاتينية منذ القرن السادس عشر، ومع تنامي أجيال القمع والفقر والحرمان وتراكم الاحباطات التاريخية والانهيارات الاقتصادية والاجتماعية المتوالية قصرت قامة المكسيكي من سوء التغذية ولم يعد متوسط القامة ولا طويلها كأجداده أولئك الذين بنوا الأهرامات كالفراعنة وما زالوا يظهرون في رسوم المعابد بكامل أبّهة الإنسان الممتلئ ثقة وحبا بالحياة وحولهم لغة شبيهة ايضا بالهيروغليفية، وهذا ما دفع البعض الى الاعتقاد بأن اهرامات مصر والمكسيك بنيت بأيد متشابهة لكائنات من الفضاء الخارجي.

المكسيكيون اليوم ومع انهم يسلمون على بعضهم بتحية ـ لا تكن كسولا ـ أكثر أهل الأرض كسلا، ولا يكاد ينافسهم على هذه الصفة غيرنا، فمن ـ كانكون إلى اكابولكو الى تاباسكو الى تشيزانيتزا ـ يقابلك الإنسان المذعور المهمش الخائف ولا احد يدري هل قصر القامة من الخــوف ايضا أم من سوء التغذية وحدها.

ومن شدة خوفهم يشاركنا المكسيكيون في المثل القائل: «للحيطان آذان»، فقد كان عندهم مثلنا حكومات أخلصت للمصالح الأجنبية أكثر من إخلاصها للشعب، ولحرصها على الاستمرار قمعته بالحديد والنار والاجهزة التي تسجل عليه كناكر ونكير كل اقواله، من دول ملوك الطوائف الى جمهوريات الموز، ورغم بُعد الشقة زمنياً، خيط من المعاناة المشتركة قاد الى نتائج مماثلة، فالمكسيكي كالعربي شديد الاعتزاز بنفسه ومحب للحماسة والخطابة، ولأنه مثلنا لا يطبق الشطر الشعري القائل: (ليس الفتى من قال كان أبي)، فليس عنده ما يفعله هذه الأيام غير الوقوف على اطلال الماضي ليذكر العابرين بالغابرين ويقول لهم بأنه سليل بناة تلك الأهرامات العتيدة.