أكثر من تعرض للعذاب في تاريخنا هم الشعراء

أقدم من ناله التعذيب هو لقيط الأيادي وأكثرهم أذى ابن مقلة

TT

المحنة لغويا هي الاختبار، ومحن الشعراء وما اصابهم من السجن والتعذيب والقتل والبلاء، احدث مؤلفات الدكتور يحيى وهيب الجبوري، وصدر عن دار الغرب الاسلامي في بيروت.

يحمل هذا الكتاب الرقم 38 في سلسلة آثار الجبوري العلمية، التي بدأت باصدار كتاب الاسلام والشعر (بغداد ـ 1964).

يذكر المؤلف في مقدمته التي استوت في 39 صفحة، ان كتابه هذا يأتي متمما لكتاب المحن لأبي العرب محمد بن احمد التميمي المتوفى سنة 333هـ والذي سبق له ان تولى تحقيقه ونشره دار الغرب الاسلامي سنة 1983.

كان التميمي قد عاش المحنة في بلده المغرب وألّف كتابه مصورا فيه المحن التي نزلت بالأمة منذ عهد الخلفاء الراشدين، ثم تناول محن الفقهاء والقضاة والمحدثين واشراف أهل العلم والأئمة.

كتاب «محن الشعراء والأدباء» تناول من لم يذكرهم الكتاب الاول، وبخاصة الشعراء والأدباء والعلماء منذ العصر الجاهلي حتى العصور العباسية المتأخرة وعصر الدويلات المتناحرة، وعلى مدى الدول الاسلامية من مشرقها الى مغربها.

وقع الكتاب في 294 صفحة ومهد له مؤلفه بصفحات تناولت مسيرة العنف والتعذيب وصنوف القتل والتعذيب كقطع الرؤوس والصلب وسمل العيون وتقطيع الأعضاء والحرق والجلد والسلخ وتكسير العظام وغير ذلك.

وتناول المؤلف موقف الاسلام من التعذيب والقتل والمثلة مستعينا بالقرآن الكريم وكتب الحديث الشريف مؤكدا «ان حوادث القتل والتعذيب التي اشاعها الحكام والولاة الغاشمون في المجتمع الاسلامي، ان هي الا خروج عن شرع الله وظلم».

ضم الكتاب تراجم 29 شاعرا واديبا وعالما وقاضيا ممن تعرضوا للمحن والأذى والعذاب، ويبدو من خلال مطالعة هذا الكتاب الرصين ان اكثر من تعرض للعذاب هم الشعراء، حيث كان عددهم 19 اي نحو ثلثي العدد الاجمالي، وهذا ان دل على شيء فانما يدل على مكانة الشاعر في المجتمع العربي القديم.

* أقدم الشعراء المضطهدين: لقيط بن يعمر الأيادي

* وهو شاعر جاهلي من اهل الحيرة، وهي مدينة عراقية لم يعد لها وجود اليوم تقع قرب مدينة الكوفة. كان الايادي من كتّاب كسرى ـ سابور ذي الاكتاف، حذر قومه في قصيدة رسم لهم فيها النجاة، كان من آثارها ان قبض عليه ملك الفرس فقطع لسانه ثم قتله.

ومنهم:

أعشى همدان ـ عبد الرحمن بن عبد الله.

كان الاعشى من شعراء الكوفة في العصر الأموي.

قال الأصمعي حين سئل عنه:

هو من الفحول، وهو اسلامي كثير الشعر.

للأعشى شعر كثير في الزهد والتقوى وفي فنون الشعر التقليدية كالمدح والهجاء والوصف.

كان هذا الشاعر معارضا، كافح ضد السلطة الأموية وتشرد. ثار ابن الاشعث فانضم الى صفوفه، وعندما انتهت انتفاضة ابن الاشعث بالفشل. أسر الاعشى وقدم الى الحجاج بن يوسف الثقفي فأمر بضرب عنقه وتم هذا سنة 83هـ.

ومن هؤلاء:

ـ العكوك «علي بن جبلة».

اشتهر العكوك بمدح هارون الرشيد وابي دلف العجلي وحميد الطوسي وغيرهم من الولاة والامراء فنال منهم اجزل العطاء وأثمن العطايا.

وحاول هذا الشاعر ان يتقرب الى عبد الله المأمون بمدحه فخاب، وكان ذلك سبب نكبته ونهايته.

بلغه ان الناس يقصدون ابا دلف العجلي وهو القائد الشجاع الجواد، فقصده العكوك، ومدحه بقصيدة بلغت ثلاثة وخمسين بيتا، صور فيها بطولة هذا الامير وسجاياه وكرمه ومعاركه الحربية وبلاءه في الحرب وشيمته في السلم والكرم مطلعها:

ذاد ورد الغي عن صدره

وارعوى واللهو من وطره

قال فيها:

كل من في الارض من عرب

بين باديه الى حضره

مستعير منك مكرمة

يكتسيها يوم مفتخره

صاغك الله ـ ابا دلف ـ

صيغة في الخلق من خيره

انتشرت هذه القصيدة، فأثارت حفيظة المأمون وحسده، اذ جعل الشاعر ابا دلف خيرة خلق الله، واضفى عليه ضروب المحاسن، وعظيم السجايا، واورد صاحب كتاب الاغاني روايات مختلفة عن الحادث والقصيدة.

وقيل إن المأمون اغتاظ من بيتين من القصيدة هما:

انما الدنيا أبو دلف

بين باديه ومحتضره

فاذا ولى أبو دلف

ولت الدنيا على أثره

فأمر بسل لسانه من قفاه. تم ذلك سنة 213هـ.

ومن الأدباء الذين اصابهم التعذيب والبلاء:

ابن مقلة (أبو علي محمد بن علي)

اشتهر هذا بأنه شاعر جميل الخط، ضرب بخطه الامثال، تسنم ارفع المناصب في الدولة العباسية وعاش حياة عريضة مترفة، ثم تدخل بين البلاط والجيش فتعرض للسجن والتعذيب.

ومن طريف ما يروى انه تقلد الوزارة ثلاث مرات، وسافر ثلاث مرات، وذهب للقتال ثلاث مرات، ودفن بعد موته ثلاث مرات!

ذاق ابن مقلة من العذاب ما لم يذقه احد، فقد قطعت يده وقطع لسانه، وحبس وضرب بالمقارع واحرقت داره ثلاث مرات وعجز ولم يجد احدا يخدمه، كان في الحبس يستقي الماء بيده اليسرى وعطش فلم يجد ماء فبال وشرب بوله، ومات في السجن (سنة 327هـ) فدفن في دار السلطان، ثم حمل فدفن في داره، ثم اخرج فدفن في مكان آخر.

ومن هؤلاء:

الرشيد (أحمد بن علي)

وصفه «ابن خلكان» بأنه «اوحد عصره في علم الهندسة والرياضيات والعلوم الشرعيات، والآداب الشعريات» وله مصنفات وصل الينا منها كتاب المقامات.

كان الرشيد طموحا شديد الاعتداد بنفسه وقد تقلد القضاء في اليمن غير انه سمت نفسه الى رتبة الخلافة ولقب نفسه «الأمجد»، لكن حساده أفشلوا خطته، ثم تآمر مع (أسد الدين شيركوه) ففشل فشنق، ثم صلب سنة 563هـ.

كتاب «محن الشعراء والأدباء» ختم بفهارس فنية للآيات والاحاديث والشعر والاعلام والقبائل والامم والمواضع والبلدان والاديان والمذاهب، بقي ان نطالب الادباء والباحثين بمواصلة ما تعرض له الادباء والشعراء والمفكرون من محن وبلايا منذ انتهاء الحقبة العباسية وحتى يومنا هذا!