تكريم صاحب البرج

محمد خضير الفائز بجائزة العويس أب روحي للأجيال اللاحقة في القصة العراقية

TT

يمثل الكاتب العراقي الكبير محمد خضير حالة خاصة في مشهد القصة العراقية والعربية، ربما لأنه يولي احتراما عميقا ومميزا لما يكتب ولفعل الكتابة نفسه. ومن هنا كان نتاجه متباعدا نزيرا بالقياس الى غيره ممن هم أقل جدية في النظر الى كتابة القصة. ومع ان تواضع الرجل وعزوفه عن التجمعات الأدبية ومكوثه في مدينته البصرة باعتباره مواطنا أبديا (كما يشير في روايته المهمة: بصرياثا) أبقى ذ كره وتكرار اسمه في الدعاية الأدبية خاملاً، ألا أن اخلاصه في الكتابة وجديّة تجربته الابداعية جعلت من كل قصة من قصصه عالما حيا بحد ذاتها.

منذ مجموعته القصصية الأولى (المملكة السوداء) 1972 ظل خضير مفاجئا ومدهشا، تشغله وجوه ومستويات أخرى من الأسئلة والمشاغل السائدة. يطمح الى تقديم نص فعال ذي خيال واسع يتيح لكل قارئ فضاء المشاركة فيه. أثارالانتباه بمجموعته الأولى التي سكت بعدها ستة أعوام أخرى ليصدر في عام 1978 مجموعته الثانية (في درجة 45 مئوي) متوغلا في أستكشاف الخيال الكامن في الوقائع ورموزها، ولعل مدخلها الجميل هذا يعبر عن مناخ القصص:

«في رواية (راي برادبري) تكون درجة حرارة 451 فهرنهايت هي درجة الحرارة التي تحترق فيها الكتب. أما بالنسبة لي، فإن 45 درجة مئوي هي درجة الحرارة المثالية لتأليف الكتب. و45 مئوي هي درجة واقعية، لأنها درجة حرارة غرفتي الكائنة على السطح، فوق المطبخ، حيث كتبت قصص هذا الكتاب. ولأن الغرفة بين نارين، الشمس والمطبخ، فإنها تتحول في الصيف إلى فرن، تنضج فيه القصص أو تشوى شياً أو تطرق طرقاً».

تمتلك قصة محمد خضير ذكاءها الخاص في التفتح أمام القارئ وهي مركبة ومتعددة المستويات. ولعل سمة المجموعتين السابقتين هي الوصفية التي سيتخلص منها فيما بعد في قصته (رؤيا الخريف 1986) حين يختفي المكان ويغيب الحدث ولا يبقى هناك غير صور وأحلام تجمع بينها. دفعت الحرب الدائرة أيامها الكاتب الى التراجع واستنطاق ذاكرته. انقطع محمد خضير سنوات أخرى ثم بزغ فجأة برائعته «رؤيا البرج» 1988.

«من لي بلسان ينوب عني في سرد هذه الرؤيا؟ هيهات ما لك إلا لسانه ـ المهندس الذي صمم متاهة البرج واستقر فيها. اهبط، اقتف أثره الى خلوة الرؤيا. ساعديني يا عشتار الحبيبة.

كانت الحرب قد انتهت. ومضت ثلاثة عقود على وصول آخر وجبة من الأسرى الى المدينة. طُهّر النهر وصفا الهواء من روائح الجثث المتفسخة، وغُرست الفسائل في حقول النخيل المقطوعة أو المحروقة على جانبي النهر. غدا السلام حقيقة متماسكة فبُني البرج...».

تلت هذه الرؤيا رؤى مثيلة تدور في مناخ واحد من أساطير مستقبلية. في عام 1993 أصدر خضير «بصرياثا» الرواية التي تكتب الرواية. والقصد من هذا أنها رواية تريد أن تجمل روايات عدة. أنثيال لغوي يتطابق مع المادة الروائية الكامنة في تاريخ البصرة، برر به الكاتب لنفسه أشياء كثيرة منها مواطنته الأبدية كما أشرنا سابقا، أو المدينة نفسها وأراد اثبات براءتها من راهن الحرب المخيف حينذاك.

نعرف أن محمد خضير اختار أن يعيش بهدوء في عزلة البصرة مبتعدا قدر المستطاع عن الآلة الاعلامية المخلوعة. ونعرف كم كان شاقا على كاتب رقيق مثله أن يشهد كل ذلك الدمار. يروي الشاعر والصحافي علي عبد الأمير أن فريقا تلفزيونيا ذهب أيام الرئيس المخلوع الى البصرة في مهمة استفزازية للقاء محمد خضير والتوجه اليه بسؤال واحد فقط: ما هو رايك بمولد الرئيس القائد؟

فما كان منه ألا أن يقول لهم: معجزة.

كلمة متعددة الوجوه، منزلقة ارادت أن تخفي أكثر مما توضح. ذهبت المعجزات، نهاية أخرى لضيقي أفق ينجحون دائما في اغتصاب السلطة. وهاهو الكاتب المتواضع كأغلب كتاب البصرة يرى نصوصه تزهو والتاريخ يتغير، لهذا فإن فوزه الآن بجائزة العويس للقصة جاء مناسبا ومفرحا. الأجدى هو أن نتوجه بالتهنئة الى الجائزة التي حازت اسما مهما في ذاكرة القصة العراقية، بل هو الأب الروحي لجيل من القصاصين فتح الأفق أمامهم واسعا وجميلا وذكيا.