المشهد الثقافي المصري من حجر صنع الله إبراهيم.. إلى وصاية الأزهر

عشرات المؤتمرات والمهرجانات لكنها في معظمها تظل مجرد قعقعة لا أثر لها في حراك الواقع الفعلي

TT

يبدو مشهد الثقافة المصرية خلال هذا العام المنصرم وكأنه أحد فصول ملهاة هزلية. وبرغم اختلاف الديكور أحياناً، وخشبة المسرح أحياناً أخرى، لم يفلح أبطالها في تغيير نبرة الحوار والصراع، أو تلوينه بحقائق الواقع ليكتسب بعض المصداقية أو حتى المتعة الوهمية. ولعل هذا يدعوني بداية الى طرح هذا السؤال: هل ثمة ثقافة مصرية لها خصوصيتها وقيمها وأعرافها، بل لها أخطاؤها التي تكشف عن هم تجربة حقيقية، تتعثر وتخطئ أحياناً في سياق البحث عن ما هو خاص وأصيل؟

عشرات المؤتمرات والمهرجانات ـ بعضها هام ـ للأدب والفن والمسرح والسينما والموسيقى، اكتظ بها هذا المشهد، لكنها في معظمها تظل مجرد قعقعة، لا أثر لها في حراك الواقع الفعلي وقضاياه الشائكة والملتبسة على كل الأصعدة. وبدلاً من أن تشد هذه المؤتمرات هموم المثقفين والمبدعين على اختلاف مشاربهم، وتوفر لهم الحد الأدنى أو المعقول للحوار، نرى العديد منهم ينتقدون هذه المؤتمرات، ويدينونها حتى من قبل أن تعقد، ولعل المثل اللافت على ذلك ما حدث في مؤتمر «مستقبل الثقافة العربية» الذي نظمه المجلس الأعلى للثقافة وعقد في شهر يوليو (تموز) الماضي في أعقاب الغزو الاميركي ـ البريطاني للعراق، وشارك فيه نحو مائتي مثقف عربي، لقد أصدر مجموعة من الكتاب البارزين بياناً ضد المؤتمر شككوا في أهدافه، والإلحاح على عقده بهذه العجلة، وفي هذا التوقيت بالذات. وبعد أن انفض المؤتمر وأصدر ما يسمى «اعلان القاهرة الثقافي» كال المثقفون الاتهامات له، ووصل الأمر الى زعم بعضهم بأن أصابع أميركا وراء انعقاد المؤتمر، وفاقم ذلك تصريح الأمين العام للمجلس الأعلى نفسه في حوار لصحيفة «أخبار الأدب» بأنه كان ضد اعلان القاهرة الثقافي الذي تمخض عنه المؤتمر.

وفي هذا السياق لا يختلف الأمر كثيراً، بل ربما ينحدر الى الأسوأ لو تأملنا أحدث المؤتمرات الأدبية التي شهدتها نهاية هذا العام. فمؤتمر الفرع المصري لنادي القلم الدولي والذي اتخذ «الترجمة والعولمة وأزمة الفكر» عنواناً له، لم يسمع عنه أحد، حتى ان اعضاء النادي أنفسهم انفضوا عنه، ومؤتمر «الثقافة العربية وآفاق المستقبل» الذي عقد بالتعاون بين اتحاد الكتاب المصري واتحاد الكتاب العرب لم يكن سوى لافتة سياسية ممجوجة لتبريد التلاسن الذي نشب أخيراً بين أعضاء الاتحادين حول نقل مقر اتحاد الكتاب العرب من مقره الحالي بدمشق الى القاهرة. ولم يسلم بينالي القاهرة الدولي في دورته المقامة حالياً من انتقادات واعتراضات عدد من الفنانين التشكيليين الذين عقدوا ندوة على مدار يومين اتهموا فيها القائمين على تنظيم البينالي بوزارة الثقافة بعدم الموضوعية، وعدم مراعاة اللوائح والقواعد الدولية، وتسييد المحسوبية والمجاملة في منح جوائز البينالي واختيار المشاركين فيه. وطالبوا بهيئة مستقلة تتولى ادارة البينالي بعيداً عن قبضة وزارة الثقافة.

بيد أن أشد فصول هذه الملهاة دراماتيكية شهدها مؤتمر الرواية الذي عقد في اكتوبر (تشرين الاول) الماضي ونظمه أيضاً المجلس الأعلى للثقافة، وذلك حين وقف الكاتب صنع الله ابراهيم في حفل ختام المؤتمر ينعي حال السياسة والصحة والتعليم والاقتصاد والفن والبحث العلمي والثقافة التي تحولت الى ثقافة مهرجانات، رافضاً الجائزة التي منحها له المؤتمر، لأنها من ثم «تصدر عن حكومة لا تملك مصداقية منحها». والمؤسف ان حجر صنع الله على رغم جسارته وواقعيته ابتلعته البركة الآسنة، ولم تبق منه سوى صرخة احتجاج تناثرت روحها في خضم حسابات الربح والخسارة والمصلحة الشخصية الضيقة، فكثيرون من الذين تلقفوا هذا الحجر واحتضنوه في فورة الحماس الأولى، سرعان ما أعادوا حساباتهم مع المؤسسة، وبدلا من أن يبنوا عليه وينموه، أصبحوا الآن ينتقدونه، بل يصفونه بالعبثية والشكلانية.

أية ثقافة إذن، وبأي روح يمكن أن ينمو في هذا الإناء العقيم، أي وعي وأي حجر يمكن أن يحرك بركة هذا المشهد الراكدة، بعيداً عن التغييب وترسيخ قيم السلبية والتسلية الفجة؟ والمؤسف ان دور المثقف ـ في الغالب الأعم ـ أصبح مرهوناً في هذا المشهد بدور المؤسسة والتي لا تريد في حقيقة الأمر ثقافة حقيقية، بل مجرد صخب وكرنفالات اعلامية تزين بها خواءها وحتى تظل هي المسيطرة على كل مقدرات العمل الثقافي.. أية ثقافة إذن حين يفقد المثقف دوره واستقلاليته، وطاقته في استشراف سبل التطوير والتغيير؟

ويزداد هذا المشهد قتامة بنمو التيارات الاصولية ومحاولاتها الدؤوب مصادرة الإبداع، وقوى العقلانية والاستنارة، تحت مظلة مرجعية ماضوية ترى أنها لا تقبل الجدل أو حتى السؤال. وتعضد ذلك وصاية الأزهر المستمرة على الإبداع بحجة أن هناك تعارضاً وتبايناً بين الخطابين الديني والأدبي، ومن منطلق هذا الوهم أوصى الأزهر بمصادرة كتاب الشاعر احمد الشهاوي «الوصايا في عشق النساء» والذي صدرت طبعة ثانية له في مكتبة الأسرة هذا العام.

وتحت رذاذ هذا المشهد يبدو الأمر أكثر سوءاً لو عرجنا على السينما والمسرح، بل كان المشهد مخجلاً في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي الأخير، حين لم يجد المسؤولون عنه فيلماً مصرياً واحداً لائقاً بتمثيل مصر في المهرجان، وفي النهاية زجوا بفيلم «حب البنات» بعد أن انتقدوا مخرجه خالد الحجر واتهموه بمحاباة اسرائيل.

وبرغم هذا ينفلت من رذاذ هذا المشهد على المستوى الرسمي مشروع مكتبة الأسرة الذي تشرف عليه الهيئة المصرية العامة للكتاب بخاصة احتفاؤه بإبداعات الشباب والأجيال الجديدة، وكتابات المرأة التي أفرد لها سلسلة جديدة هذا العام أصدرت 25 عملاً تمثل تنويعاً شيقاً في أشكال الكتابة وطرائق التعبير في إبداعات أولئك الكاتبات.

ومن الأشياء اللافتة في هذا بروز بعض دور النشر الخاصة، واهتمامها بالنشر في سياق رؤى مفتوحة بوعي مستنير على شتى حدوسات المعرفة والإبداع، وفي مقدمة هذه الدور تأتي دار «ميريت» صاحبة أكثر العناوين أهمية في اصدارات هذا العام، كذلك دار الحضارة العربية، وشرقيات، وسنابل.. وغيرها.

وربما يخفف من قتامة هذا المشهد أن نجيب محفوظ في عامه الثالث والتسعين ما زال قادراً على العطاء والحركة، فيقدم لنا تفاسير أحلامه في شكل اشراقات وومضات قصصية مشربة بخبرة الروح والحياة، وأيضاً ينفلت من صخب هذا المشهد فوز الناقدين محمود أمين العالم، والدكتور مصطفى ناصف بجائزة العويس الأدبية، وفوز الكاتب خيري شلبي بجائزة نجيب محفوظ التي يمنحها قسم النشر بالجامعة الاميركية بالقاهرة.

هكذا.. يبدو حصاد المشهد الثقافي المصري خلال هذا العام فاتراً، قلما توجد فيه مساحة حية للمغامرة والحرية، بينما تتسع مساحة الإذعان والتسليم، لآلية تتعدد أنماطها بخاصة في مجال التعامل مع المؤسسة الثقافية الرسمية.. آلية أصبحت تبرر ما هو واقع بالفعل، بغض النظر عما يجب أن يكون.