عقب مرور أربعين يوما على وفاته.. طرائف محمد شكري

حسونة المصباحي

TT

أعلم انه سوف يكون من العسير عليّ ان اذهب الى طنجة مستقبلا. فعلى مدى عشرين عاما تقريبا، ظلت تلك المدينة المطلة على ملتقى البحرين، البحر المتوسط والمحيط الاطلسي، والتي كنت ازورها في فصل الصيف بالخصوص تعني بالنسبة لي أساسا صديقي الراحل محمد شكري. من خلاله تعرفت على أجوائها الليلية والنهارية، واكتشفت جوانب من حياتها السرية. واقتربت من عوالمها الداخلية، متجولا في أسواقها القديمة، وفي مقاهيها، وممضيا أوقاتا سعيدة في مطاعمها المنتشرة على طول الشاطئ والتي كان صاحب "الخبز الحافي" يفر اليها عندما تصبح المدينة نارا حامية، وبالرغم من ان شكري لا يطيق استضافة حتى الأقربين الى قلبه، فإنه سمح لي ذات مرة بأن اقاسمه شقته الصغيرة في الطابق الخامس والأخير من عمارة من الطراز الكولونيالي كائنة بشارع البحتري (شارع تولستوي سابقا). شقة بغرفتين، واحدة للنوم والأخرى الأكثر اتساعا منقسمة الى قسمين: مكتبة وغرفة صغيرة للجلوس. أما البلكون المطل على الجزء الشرقي من مدينة طنجة، فقد كان يحلو فيه الجلوس ليلا، وفيه كان يقيم الكلب "جوبا" الذي عاشر محمد شكري على مدى خمسة عشر عاما. فلما شاخ وبدأ وبره يسقط بكميات غزيرة، غدا صاحبه يتحاشى النظر اليه وفي ملامحه كان يبين الفزع من غوائل الزمن الذي لا يرحم أحدا، لا البشر ولا الحيوانات، وكانت الشقة جد نظيفة. فقد كانت الخادمة فتحية، المرأة الفقيرة والأمينة تأتيها يوميا في منتصف النهار، ولا تغادرها إلا في الساعة الرابعة ظهرا، وبعد ان تقوم بتنظيفها، تعد طعام الغداء والعشاء في نفس الوقت ثم تغسل الملابس. فإذا ما دخل محمد شكري وجد كل شيء وقد رتب أحسن ترتيب. وبالرغم من انهما لم يكونا يتبادلان الكلام إلا قليلا فإن العلاقة بين الاثنين كانت ودية للغاية، يشوبها الاحترام المتبادل.

المعاشرة الطويلة لمحمد شكري سمحت لي بأن اطلع على العديد من الجوانب الطريفة في شخصيته وسأتحدث هنا عن البعض منها.

***

في صيف 93، كنا جالسين في مطعم قريب من "البولفار" نسيت اسمه الآن، كانت معي زوجتي الالمانية. وكان هناك ايضا مغربي يدعى عبد الرزاق السبايطي يعيش في امستردام، حيث يدير مكتبة عربية ويشرف على عدة نشاطات ثقافية بهدف التعريف بالثقافة العربية لدى الهولنديين. وكان مصحوبا بزوجته اللطيفة السيدة سيمون وبابنتيه الجميلتين، وكان شكري رائق المزاج في ذلك اليوم الصيفي الحار لذا راح يروي لنا الطرفة تلو الطرفة بينما كنا نحن نقهقه عاليا. والبعض منا دمعت عيناه من فرط الضحك، كما أنه أخذ يشعر بألم في بطنه بسبب ذلك، وكانت جل تلك الطرائف تدور حول ايام الشقاء والحرمان التي عاشها محمد شكري لما قدم الى طنجة وهو طفل في السابعة من عمره فارا مع عائلته من المجاعة الكبرى التي ضربت منطقة "الريف" قبل الحرب العالمية الثانية. وفي واحدة من تلك الطرائف روى لنا محمد شكري انه كان في "السوق الداخل" ذات يوم شتائي بارد، وكان المطر غزيرا، وكان الناس يتحركون متعبين بسبب الجوع والخصاصة. وثمة واحد كان يمشي بتوءدة حاملا بيده اليمنى زجاجة حليب. وكان يرتدي جلابية نظيفة وتبدو عليه علامات الترف والنعمة. فجأة سقطت زجاجة الحليب من يد الرجل وتحطمت فسال الحليب على الأرض مختلطا بالطين والأوساخ. وفي الحين اندفع فتى في حوالي السابعة عشرة من عمره كان يلبس ثيابا بالية، وعلى وجهه ارتسمت علامات الجوع. انبطح ارضا وراح يلحس الحليب بشراهة بينما الناس ينظرون اليه مبهوتين، مذهولين.

بعد ذلك بأيام قليلة حدثت الواقعة التالية: كان اليوم شديد البرودة أيضا، لكن بدون مطر. في "السوق الداخل" كانت هناك امرأة عريضة، سمينة تبيع الخبز الاسود والخبز الابيض. وفي سنوات المجاعة تلك كان وضع قطعة من الخبز الابيض داخل الخبز الاسود يعتبر ترفا. فكما لو ان قطعة الخبز البيضاء شريحة لحم أو سمكة مشوية. وكان هناك بدوي غليظ الملامح واقفا ينظر الى المرأة بعيون جائعة. ثم اقترب منها وطلب خبزا اسود مع قطعة من الخبز الابيض. فلما هيأت له المرأة ذلك. اختطفها من يدها وراح يلتهمها. بينما راحت هي تصرخ عاليا طالبة النجدة. وبالفعل هبّ لنجدتها البعض من المارة، وانهالوا على البدوي ضربا ولكما غير انه لم يعرهم اهتماما. وعندما انتهى من التهام قطعة الخبز، نظر بعينين سعيدتين الى من حوله وقال لهم: "الحمد لله.. لقد شبعت.. والآن بإمكانكم ان تفعلوا بي ما تشاؤون!!..".

طبعا كانت هذه الحكايات حزينة ومؤلمة للغاية غير ان شكري كان يضفي عليها طابعه الخاص فتتحول الى طرائف تنتزع الضحكة حتى من ذلك الذي يكابد الماً عميقا.

***

كان محمد شكري طباخا ماهرا، وكان يجيد طبخ المأكولات المغربية بجميع أصنافها. الاطباق الاحب الى نفسه "طاجين السمك" و"الدجاج بالزبيب" أو بالبرقوق. أما الكسكسي فلم يكن يطيقه. وكان دائما يقول لي بأنه ـ أي الكسكسي ـ أكلة بربرية أعدت خصيصا لأصحاب البطون الكبيرة.

في صيف 94، طلبت من شكري بالحاح ان يعد لي "هرقمة" بطريقته الخاصة وبما انه لم يبد لا تحمسا ولا استعدادا لذلك، اذ ان "الهرقمة" ليست صالحة في الحر، ثم انها عسيرة الهضم، واعدادها يتطلب وقتا طويلا، فاني لم أشأ ان اطرح عليه الموضوع مرة أخرى. لكن ذات صباح فاجأني قائلا: "تعال معي الى السوق لنشتري كرعين!" (الكرعين هي قوائم البقر الصالحة لاعداد الهرقمة). تطلب اعداد الطبق الذي طلبته يوما كاملا. في المساء، جلسنا في البلكون. برغم الحر، اكلت صحنين كاملين، تواصلت السهرة حتى الساعة الواحدة صباحا. بعدها عدت الى فندق "اطلس"، حيث كنت أقيم والذي لم يكن يبعد كثيرا عن شقة شكري. حالما تمددت لأنام هاج بطني وماج. وحتى الصباح، ظللت يقظان بسبب ذلك. بعدها غرقت في النوم حتى الساعة الخامسة مساء. وعندما استيقظت، كان وضعي جيدا للغاية، اخذت دشا ثم توجهت الى مقهى "البريد"، حيث يجلس شكري في مثل ذلك الوقت من كل يوم. وجدته يشرب واقفا. وكان في أتم أناقته. حالما رآني، راح يضحك عاليا. "لماذا تضحك؟!" قلت له. واصل ضحكه غير عابئ بسؤالي ثم سألني: "ماذا حدث لك.. هل نمت طول النهار؟" رويت له بالتفصيل ما وقع لي الليلة البارحة، فانخرط من جديد في ضحك محموم ثم قال: "اسمع يا صديقي.. لقد تقصدت ايذاءك واعددت لك هرقمة من صنف خاص حتى لا تطلبها مني في الصيف مرة ثانية!".

***

في صيف 96، كنا نستمع الى الموسيقى بعد ان تغدينا طاجين سمك لذيذا اعدته لنا الخادمة فتحية عندما تعالت طرقات قوية وملحة على الباب. أخذ الكلب "جوبا" ينبح عاليا. تململ محمد شكري غاضبا وهمس لي: "من هذا الوغد الذي يتجرأ على ازعاجي في مثل هذا الوقت؟!". لدقائق عدة ظل مترددا في فتح الباب. فلما اشتدت الطرقات واصبح نباح الكلب غير محتمل، صاح شكري وهو يرجف من شدة الانزعاج: "من الطارق". ومن وراء الباب، جاء صوت نحيل. متعب يقول: "افتح يا شكري.. أنا عبد العزيز!". "ومن يكون عبد العزيز هذا؟" سأل شكري وقد ازداد توترا وانزعاجا. ورد صاحب الصوت النحيل المتعب قائلا: "انا عبد العزيز.. صديقك القديم في العرائش". فتح شكري الباب فظهر رجل قصير، اشيب، يعتمر قبعة صيفية، وكان بادي الهم والتعب.

ـ أنا عبد العزيز يا شكري.. كنت صديقك في العرائش.. أنسيتني؟! قال الرجل بصوت ازداد فحولة واضطرابا.

ظل شكري يتفحصه صامتا ثم رد عليه قائلا:

ـ لقد نسيتك بالفعل.. ولكن ماذا تريد الآن؟

ـ سمعت انك اصبحت مشهورا جدا.. وفي جميع أنحاء العالم فجئت لأهنئك بذلك!"

قال الرجل بشيء من الغبطة والابتهاج.

ـ شكرا جزيلا! رد شكري مبقيا الرجل دائما عند الباب.

مدّ الرجل عنقه الى الامام، مسترقا النظر الى داخل الشقة ثم قال لشكري:

ـ سمعت ايضا انك اصبحت غنيا.. أليس كذلك؟

ـ هذا ليس صحيحا البتة. قال شكري بنبرة انزعاج واضحة.

ـ الناس يقولون ذلك.. وعلى اية حال.. هذا ليس مهما.. المهم هو اني احبك يا شكري.. والله احبك لوجه الله.. فقط لوجه الله!. قال الرجل

ـ بارك الله فيك! قال شكري وقد بدأ صبره ينفد.

ظل الرجل صامتا لحين ثم قال متمسكنا:

ـ لقد طلقت يا شكري.. وسوف اتزوج من جديد قريبا..

ـ مبروك عليك هذا الزواج الجديد.. قال شكري..

ـ الله يخليك! قال الرجل..

ثم صمت وعاد يمد عنقه مسترقا النظر الى داخل الشقة ثم قال لشكري!

ـ هل بإمكانك ان تساعدني؟

وعندئذ لم يعد بإمكان محمد شكري ان يتحمل فأغلق الباب بقوة في وجه الرجل الذي انصرف بعد بضع دقائق، اذ اننا سمعنا وقع خطواته وهو ينزل المدارج. اشعل شكري سيجارة. اخذ رشفة من كأسه. ثم قال: "هذا الكتاب الخراء (يقصد "الخبز الحافي") يريد ان يحولني الى مؤسسة احسان تساعد المطلقين الطاعنين في السن على الزواج من جديد!".

***

صيف 98، كنت اتناول طعام الغداء مع محمد شكري في مطعم "بارغولا" المواجه للشاطئ. وكان هو الذي اعد بنفسه طاجين السمك. فلما انتهينا من الاكل اعلمته بان لي موعدا في ذات اليوم، في الساعة الثالثة ظهرا مع بول بوولز. وكان شكري قد نشر كتابه عن بول بوولز وفيه شن عليه هجوما عنيفا ناعتا إياه بـ "مصاص الدماء" مدعيا انه أكل حقوقه، وانه يحب المغرب ويكره المغاربة.. وكنت قد سمعت ان بول بوولز مغتاظ من شكري بسبب ذلك. ولم يبد صاحب "الخبز الحافي" اهتماما بما قلت له بشأن موعدي، ظاهريا على الاقل، وظل يشرب صامتا، وساهما الى حد ما.

قبل الساعة الثالثة ركبت تاكسي وانصرفت الى شقة بول بوولز. ادخلني خادمه المغربي الى غرفة نومه، فوجدته مستلقيا على الفراش، مرتديا بيجاما زرقاء، وقد بدا عليه التعب والاعياء. تحدثنا عن طنجة وعن جماعة "البيتنيكس" الذين كانوا مفتونين بها أيام كانت مدينة مفتوحة وتحدثنا عن المغرب والمغاربة، وعندما قلت لبول بوولز انني تناولت طعام الغداء مع شكري، ظل ينظر اليّ صامتا ثم قال: "وهل هو في صحة جيدة!".

ـ نعم.. هو في صحة جيدة.. قلت له..

ـ لا أقصد صحته الجسدية.. بل صحته العقلية، رد بول بوولز..

ـ هو في كامل صحته العقلية، قلت.

صمت بول بوولز قليلا ثم قال:

ـ كنت اعتقد انه جن.

ـ ولماذا؟".. سألته

ـ لأن ما كتبه عني لا يكتبه غير انسان مجنون!

ـ وهل قرأت الكتاب؟

ـ لا.. لم أقرأه.. وانما حدثني عنه بعض الاصدقاء الذين قرأوه.. وقد قالوا لي بأنه من الافضل ان ارفع قضية ضد محمد شكري الذي احبه كثيرا ككاتب، واضيق بسلوكه كشخص.. غير اني قلت لهم بأنني لا يمكن ان أحاكم انساناً مجنوناً!.

في المساء، التقيت بمحمد شكري في مقهى "البريد". رويت له تفاصيل اللقاء بيني وبين بول بوولز. ولما اعلمته بأنه وصفه بـ "المجنون" ضحك كثيرا وقال: "والله انا انسان مجنون بالفعل!".

***

في صيف 99، هتفت للصديق عثمان العمير من اصيلة فقال لي: "انا في مارينا سمير" شمال المغرب. تعال لكن شرط ان تكون مصحوبا بمحمد شكري. في اليوم التالي، انطلقنا في سيارة اجرة الى "مارينا سمير". وحالما غادرنا طنجة، فقد محمد شكري توازنه، وبدا وكأنه سمكة اخرجت من الماء. ماذا يا شكري.. هل انت خائف؟.. ردّ عليّ وهو شاحب الوجه: "لقد اصبح السفر يزعجني كثيرا حتى ولو كانت المسافة عشرة كيلومترات". في الساعة الثانية ظهرا وصلنا الى "مارينا سمير".. عند مدخل الميناء، حيث يرسو يخت الصديق عثمان العمير، أوقفنا شرطي وراح ينظر الينا بارتياب.

شرحت له غرضنا ثم قدمت له نفسي وبعدها قلت له:

ـ وهذا محمد شكري.. كاتبكم المغربي الشهير!

فغر الشرطي فاه.. ظل ينظر اليه مبهوتا ثم قال:

ـ أحقا انت محمد شكري؟!

ـ نعم.. أنا هو.. رد شكري...

ـ هذا يوم سعيد!! قال الشرطي ثم احتضنه. بعدها طلب منه ان يهديه نسخة من كتاب "الخبز الحافي" ففعل.. وعندما دخلنا الى يخت الصديق عثمان العمير قال لي ضاحكا: "ها انت كنت شاهدا على ما وقع.. لقد اصبحت مشهورا حتى عند الذين يحرسون يخوتات الاغنياء!".

حجز لنا الصديق عثمان العمير غرفتين في فندق فخم بـ "مارينا سمير". وكان الباب يفتح بالطريقة الاوتوماتيكية. والضوء ايضا. وعندما عاينت ذلك رحت اضحك عاليا. وضعت حقيبتي الصغيرة، وتوجهت الى غرفة محمد شكري وجدته واقفا في الظلام وهو في حيرة من أمره. ولما سألته لماذا لم يشعل الضوء أجابني بأنه ضغط على الزر الكهربائي ولكن بلا جدوى. قلت له: "اعطني تلك البطاقة التي في يدك". مدها لي. وضعتها في مكانها المناسب فاشتعل الضوء. ولما شرحت له الطريقة، ظل فاغرا فاه لحين ثم قال:

ـ يا أخي.. عالم عثمان العمير هذا غريب وعجيب.. لو أعيش معه اسبوعا واحدا فقط لاصبت بالجنون أو بالعته!.

في اليوم التالي، دعانا الصديق عثمان العمير لقضاء ليلة في مربيا بأسبانيا. كان معنا الاصدقاء عبد الرحمن الراشد ومحمود التونسي والناصر ابن أخي مضيفنا. امضينا ليلة سعيدة هناك. وفي الصباح الباكر انطلقنا الى "الجزيرة الخضراء" أو "الخوز يراس" كما يسميها المغاربة، لنركب الباخرة الى طنجة. عند المرور امام شرطة الحدود الاسبانية، استجوب الشرطي محمد شكري طويلا وهو يقلب أوراق جوازه وقد بدا عليه الارتياب. وكان صاحب الخبز الحافي، يرد على الاسئلة باسبانية لا تردد فيها ولا تلكؤ. وفي النهاية انفجر الاثنان بالضحك، ولما سألت محمد شكري عن سبب تلك الضحكة قال لي: "لقد ارتاب الشرطي في امري لأنه لم تكن هناك سمة دخول الى التراب الاسباني على الجواز.. فلما سألني عن سبب ذلك قلت له انني لا أعلم، الشيء الوحيد الذي اعلمه هو انني كنت نائما.. وعندما استيقظت وجدت نفسي في اسبانيا.. وبما انني لا احب ان "أحرق" بمثل تلك السهولة فإنني قررت العودة الى المغرب من جديد لافعلها بالطريقة الحقيقية!".