الطاعة أنس والمعارضة وحشة ولكل مفكر مقصلة أو تنور

هل كانت رسالة إصلاح سياسي وراء نهاية عبد الله بن المقفع أول رواد التنوير العربي ـ الإسلامي شيا على الجمر في ديوان والي البصرة..؟

TT

في اخبار الطبري العديد من القصص عن الذعر الذي بثه ابو مسلم الخراساني في الاصقاع فشاع وانتشر وبدأ يؤثر على خاصته فقد كان قائد حرسه يتكفن ويوصي حين يستدعيه ابو مسلم وكفى بهذه الحادثة شاهدا على نوعية حياة هؤلاء الذين يزرعون الخوف ويعيشون به ويعملون سيوفهم في رقاب الاخرين حتى يصل السيف الى رقابهم لا محالة فمن اخذ بالسيف، بالسيف يؤخذ كما أخبر المسيح صادقا حواريه الذين أدخلهم في تدريبات شاقة على التسامح والمحبة في بلاد شيمتها القسوة ونادرا ما تنتهي فيها افكار التنوير خارج ثنائية المقاصل والتنانير.

لقد كان ابو مسلم نتاج مجتمع قائم على عدم الثقة فهو في المفصل الحاسم بين دولتين واحدة راحلة بظلمها المعتق واخرى قادمة بظلمها النضر الفتي والناس في حيرة من امرهم لا بين ظلم وعدل بل اي الشرين يمكن التعايش معه بصورة افضل قليلا من الشر الثاني.

وان شئت ان تفهم حال الناس الذين لا تخبرك كتب التاريخ المشغولة باخبار الملوك الكثير عنهم فخذ حالة معاصرة وقارن معها يأتيك الجواب، فالعراقيون الذين شكوا من كسر ابواب وزوار فجر واعتقالات عشوائية تنفسوا الصعداء لعدة دقائق بعد زوال طاغيتهم السابق وما كادوا يشهقون شهقة الخلاص حتى اكتشفوا انهم بحاجة الى مخلص من المخلصين فهم ايضا يكسرون الابواب ويزورون في السحر ويعتقلون على الشبهة في كل الاوقات كما هو الحال دوما في عاصمة المنصور والسفاح.

في اول ايام الدولة العباسية التي انتهت بمقهور وابتدأت بسفاح عاش الناس ظروفا مشابهة على يد مخلصهم الجديد واكتشفوا انهم انتقلوا من الدلف الى تحت المزراب فقال قائلهم يهجو العهد الجديد ويترحم بحرقة على ظلم أخف وطأة في العهد البائد:

فليت جور بني مروان عاد لنا

وليت عدل بني العباس في النار

ولم يكن ابو مسلم الذي ابتدأنا بسيرة ظلمه فردا شاذا في سلطة وليدة بل كان نتاجا لمؤسسة متكاملة تلاقح داخلها اسوأ ما في العرب باردأ ما في الفرس فكانت النتيجة كما تتوقعها كارثة مركبة وحكما مبكرا بقصف عمر اية حركة اصلاح سياسي او تنوير.

* عظة مبكرة

* لقد كانت تعليمات الامام العباسي ابراهيم واضحة لأبي مسلم وغيره من القادة «اقتلوا من شككتم به» وفي ظل قانون من هذا النوع يغيب عنه القضاة والمحامون والمحلفون ويصبح كل شرطي هو الخصم والحكم لا بد ان تسيل الدماء انهارا وتكثر الوشايات وتصفية الحسابات ويصير رأس الانسان اقل قيمة من رأس الفجل والشمندر وعادة ما تكون رؤوس العباقرة والمتنورين من اوائل الرؤوس المرشحة للسقوط ففي تلك الحقبة طار رأس عبد الحميد الكاتب ثم تبعه رأس صديقه ابن المقفع الذي قطعت اشلاؤه واحرقت امام عينيه في تنور مسجور ليتعظ به كل من يفكر بالتغيير عن طريق بث افكار التنوير.

ولان قصص الظلم كثيرة ومتشعبة في تلك العهود سنكتفي اليوم بالتركيز على ابن المقفع ونهايته التي برويها البلاذري في«انساب الاشراف» بطريقة عجيبة يشبه فيها عنق الكاتب بالخيار وابن عمه القثاء:

«ثم سجر له تنور واتاه الحاجب فدق عنقه فكأنما قصف قثاءة ثم القاه في التنور».

ولا اعرف لماذا شكك الدكتور احمد علبي صاحب اجود كتاب معاصر عن ابن المقفع بحكاية النهاية في التنور مع انها ليست غريبة عن ذلك العصر فبعد اعوام من تنور سفيان بن معاوية والي البصرة الذي احرق ابن المقفع سينصب محمد بن عبد الملك الزيات انبه وزراء الدولة العباسية تنوره في بغداد لتعذيب ضحاياه لينتهي هو شخصيا في ذلك التنور المسجور الذي خصص اما لاستخراج اموال مخبوءة من ولاة ومسؤولين سابقين او للقضاء على المفكرين والافكار.

وقد اختلف القدماء والمحدثون في الاسباب التي قادت الى ذلك الانتقام الدامي من ابرز كتاب ذلك العصر ورائد اول حركة تنوير حقيقية في الثقافة العربية الاسلامية فالذين يستسهلون القفز الى الحزازات الشخصية والثارات التي تلائم عقلية البدو ذهبوا الى ان ابن المقفع كان يسخر من ذلك الوالي ويعيره بأمه التي افرطت في اتخاذ الازواج فيناديه بلقب «ابن المغتلمة» مما اوغر صدره عليه فنكبه.

اما الذين يتعمقون ومنهم طه حسين ومحمد كردعلي فيرون سبب النكبة في الكتابة، فأغلب القدماء ومعهم بعض المعاصرين يجمعون على ان ابن المقفع قتل بسبب كتاب كتبه لكن ما هو ذلك الكتاب؟

بعضهم يظن ان كتاب الامان الذي وقعه الخليفة المنصور لعمه عبد الله بن علي من صياغة ابن المقفع وهو كتاب شديد الدقة والحنكة لم يترك صاحبه ثغرة الا واحتاط لها كي لا يغدر الخليفة بأعمامه كما غدر بغيرهم ممن ارسل اليهم صكوك الامان ويخبرنا النوبختي في مقالاته ان ابن المقفع اعترض على عشرات الصيغ التي اقترحها كتاب الخليفة ونجح في فرض صيغته المحكمة التي اوغرت صدر المنصور ضده.

ولا نظن ان ذلك الكتاب هو السبب الرئيسي للفتك بالكاتب فجميع كتب الامان او معظمها كانت محكمة السبك تلافيا للغدر الذي يمارسه المتسلطون بكثافة في مختلف العصور ومن السهل ان تعثر على صيغ مماثلة في كتب امان كثيرة مشابهة تقارب ما قال المنصور في كتاب امان عمه الثائر ضده:

«.....وان انا نلت عبد الله بن علي او احدا ممن اقدمه معه بصغير من المكروه او كبير او اوصلت الى احد منهم ضررا سرا او علانية على الوجوه والاسباب كلها تصريحا او كناية او بحيلة من الحيل فانا نفي من محمد بن علي بن عبد الله مولود لغير رشدة ـ ابن حرام ـ وقد حل لجميع امة محمد خلعي وحربي والبراءة مني ولا بيعة لي في رقاب المسلمين...»

ولا تبحث في«الادب الصغير والادب الكبير» عن الاسباب فهي كتب حكم ومواعظ وامثال وكذلك الحال مع كتابه الرمزي المترجم «كليلة ودمنة» ولعل الاقرب الى التصديق ما اقترحه طه حسين الذي يجد جواب الفتك في «رسالة الصحابة» فهي بالفعل بيان ثورة وبرنامج اصلاحي يقض مضاجع اي حاكم يريد ان يحكم كالمنصور بالمخابرات والحديد والنار، فالمنصور اول حاكم عربي يرتب جهازا فظيعا للاستخبارات التي تحصي على الناس انفاسهم ويوظف في سبيل ذلك العجائز ودواب البريد وهو ايضا صاحب اول ارث حقير في المقابر الجماعية التي لم تغب ابدا عن تاريخ العراق ففي اخبار الطبري ان المنصور حين وافته المنية ترك لابنه مفتاح بناء مهجور على الا يفتحه الا بعد موته فلما قبض المنصور فتح المهدي البناء فعثر فيه على مجموعة من الطالبيين وفي اذن كل جثة ورقة تشير الى نسب صاحبها فارتاع المهدي للمشهد وامر بدفن الجثث.

* نار عاتكة

* وقبل ان ننظر معا في رسالة الصحابة، والاحرى ان يكون اسمها رسالة الاعوان لانها عن اصحاب الحاكم، لا بد ان نشير الى التهم التقليدية التي راجت في ذلك العصر واشهرها الزندقة والمانوية فهناك من يزعم ان ابن المقفع ظل يعبد النار على دين اجداده رغم اسلامه وكي تكتمل تلك الرواية يزعمون انه جاز اثناء سيره ببعض بيوت النار المتبقية بالعراق بعد اسلامه فانشد رامزا ابيات الاحوص في عاتكة:

يا بيت عاتكة التي اتعزل

حذر العدا وبه الفؤاد موكل

اني لأمنحك الصدود وانني

قسما اليك مع الصدود لأميل

وهذه رواية جيدة الحبك كمعظم روايات الزنادقة فعلى مدار التاريخ كله ـ عندنا وعند غيرنا ـ كان المصلحون الاجتماعيون والسياسيون المتنورون يتهمون بالهرطقة والزندقة وينتهون بالمقاصل وعلى النطع وفي التنانير ـ مفردها تنور وليس تنورة ـ بتهم جاهزة وسهلة التسويق عند الطبقات الشعبية التي يعمل المتنورون لصالحها فتكون بسبب الجهل اول من يعاديهم لقدرة الانظمة الدوغمائية والبراغماتيكية على تزييف الحقائق خدمة لمنطق المؤسسة الحاكمة والنظام شبه الاقطاعي الذي كان قائما على ايام ابن المقفع وبعده بزمن طويل.

لقد كان ذلك المفكرالمتنور كما قال عنه احمد امين رجل مدني لا ديني وبالتالي فإن الحكم عليه يأتي من خلال كتاباته الاصلاحية فكما انه لا يجوز ان تخلط النحاة مع الفقهاء لا يجوز ايضا خلط كتاب السياسة والتدبير برجال الدين فلكل اختصاصه الذي يجيده ولم يدع ابن المقفع في اي يوم استنادا الى ما نعرفه من كتاباته انه داعية عقائدي.

ان رسالة الصحابة التي يظن نفر من اهل الرأي السديد انها عجلت برحلته من التنوير والنور الى التنور رسالة نادرة في الفكر السياسي يروم صاحبها اصلاح شؤون الدولة التي يعيش في ظلها ولك ان تعتبرها مع فروق الزمن والحضارات شبيهة بنصائح مكيافيللي في الامير لحكام زمانه فهو يخوض في فقراتها بشؤون الادارة والمستشارين والعائلات الحاكمة بل ويحلم منذ ذلك التاريخ المبكر بجيش مثقف يتفقه في الكتب والسنن ويعرف واجباته الاساسية فلا يضيع في ترف ولا ينغمس في فتنة.

ويعتقد الدكتور علبي صاحب كتاب «ابن المقفع الكاتب والمترجم والمصلح» ان تلك الرسالة السياسية التنويرية ما كانت لتثير زوبعة لو انها ظهرت في عصر الخليفة المأمون بدلا من ظهورها في عصر المنصور«فالمنصور كان خليفة قاسيا وكان يهمه ان يغلق الافواه فلا تمتد الالسنة الى الجهر ولا حرج في ان يتحدث الادباء بأخبار الجاهلية وقصصها فهي تروق لابي جعفر لانها تحمل سامعيها على المهاجرة والتعزي واغماض العيون عن الواقع الراهن والغيبوبة طي ماض مسل، اما ان ينبري مفكر ليوجه وينصح في مشاكل اجتماعية وقضايا فقهية وامور سياسية فهذه جراءة لانه يمشي في سبيل غير مطروق ولربما حملت العدوى غيره على ان يعبروا»

لقد كان طريق نصح السياسيين والحكام العرب سالكا الى عهد الخليفة الاموي عبد الملك بن مروان فهو اول من عاقب من يعظه ويجيء اليه ناصحا وبعده صار الكتاب والمفكرون يتحاشون ذلك فظل البلاط العربي للجواري وشعراء المديح لذا لم يطرأ على المؤسسة السياسية العربية اي تغيير يذكر من ايام الامويين الى ايام العباسيين بل ـ وببعض المبالغةـ الى ايامنا هذه فما يزال الحاكم العربي عصيا على النصح كارها لبناء المؤسسات الادارية والسياسية والقانونية التي لا بد ان تسلبه في حال نشوئها ونضوجها بعض الصلاحيات وهو لا يريد ان يمنح صلاحية لأحد ولو كان عنده وقت لأحتكر في مصانع التعليب دون معرفة تحديد صلاحية الأطعمة وما ذاك الا من حبه للصلاحيات واعتقاده ان الامور لا تسير الا ان امسك سيادته بجميع الخيوط ومن هنا مقتل الدولة العربية قديما وحديثا.

ولا يخرج عهد المأمون مهما قيل عن تنوره عن هذا السياق ففي عهده الذي سير فيه المعتزلة من خلال ثمامة بن اشرس شؤون الدولة تحول المفكرون الاحرار الى رجال سلطة قمعية وبدأوا يحاكمون خصومهم ويجلدونهم ويسجنونهم لأنهم قالوا بما يخالف قناعاتهم، وما محنة الامام الجليل احمد بن حنبل في مسألة خلق القرآن ببعيدة عن هذا السياق العروبي الذي تفسد فيه سلطة الفرد كل ما حولها وتحيل الاحرار المتنورين الى ظلمة وقامعين.

لقد وصل ابن المقفع الى تنور سفيان بن معاوية في عصر قائم على الشك والفردية واعتقاد السطان واعوانه بحقهم في احتكار كل شيء بما في ذلك سلطة المعرفة، لذا كانت رسالة ابن المقفع السياسية ونصائحه الديوانية غريبة على عصره ـ وعصرنا العروبي ربما ـ ومعادية لمنطق السلطة العربية المطلقة التي يعرف فيها الحاكم وحده اين يكمن صلاح الرعية التي يجب ان تطيع وتسكت فالطاعة ـ بلغة الخليفة المنصور الذي فتك بابن المقفع ـ أنس والمعارضة وحشة: لذا يختفي المعارضون والمصلحون على الدوام في الزنزانات والتنانير ويتم تذويبهم بالكلس والاسيد وتظل ليالي الانس والطاعة العمياء منصوبة بكل مآسيها في الحواضر العربية والاسلامية التي استعصت مؤسساتها على الاصلاح السياسي قرونا طويلة لأنها حاورت مصلحيها ومفكريها بالنار والمسامير ولم تسمح لهم باعتلاء اي منبر للحوار فهل يجوز ان نستغرب بعد فهم هذه السياسات التنورية التي لم تتغير كثيرا عبر مئات السنين؟ لماذا لم تنجح في بلادنا اية حركة اصيلة من حركات الاصلاح السياسي والتنوير..؟