دليل روائي لقراءة جمهورية الخوف

صدام حسين في «الخائف والمخيف» لـزهير الجزائري ليس الذي عرفه الناس عبر الإعلام، بل الذي عرفه الروائي ككيان إنساني من لحم ودم

TT

قبل سنوات أصدر زهير الجزائري روايته «حافة القيامة» (دار المدى)، يعرض فيها لسلطة البعث في العراق، ولكن بخصائص روائية لا تنشغل بأحداث التاريخ الواقعية، ولا بأبطال هذه الأحداث كما عرفهم الناس، ولا بأسرارهم التي لم يعرفوها. ولكنه أيضاً لم ينصرف الى خياله يختلق نظائر وأشباهاً، ليعيدهم بعد خلقهم الى الحياة كما يحياها رجال الحكم القمعي عادةً، بل هو قطف ثمارَ خبرته السياسية والإنسانية عبر ملاحقة ورصد أعتى مرحلة دامية عرفها العراق. أخذ هذه الثمار ومنها ولّد عالماً روائياً بدت مهارته، بصورة أكثر صفاءً، في روايته الجديدة «الخائف والمخيف»، والتي تعتبر، دون إشارة من المؤلف، الجزء المكمل للرواية الأولى.

إذن لا تصح قراءةُ هذا العمل كرواية واقعية، أو رواية تاريخية: لا من حيث تعاملها مع الواقع والتاريخ فقط، بل من حيث تعاملها مع بناء الشخصيات، وبناء الحدث، وبناء الجملة والسرد أيضاً. فالتعامل مع الواقع والتاريخ تم على أساس الوعي بما حدث. على أساس المحصلة وليدة الدرس والتأمل، لا على أساس رصد ومتابعة ما حدث. ولذلك تعتمد الرواية محاور من الشخوص، لا أبطالاً. وهذه المحاور من (الجلاد وزمرته ، والمقاومة اليسارية، والمقاومة الاسلامية) هي محاور التكوين الدامي للتراجيديا العراقية. زبدة وعي الروائي توحي بأن هذه المحاور أسهمت جميعاَ فيما يبدو، في نهاية المطاف، بمسيرة الموت هذه بحق الانسان العراقي، وهو الضحية التي غيبها الروائي من النص تماماً. وكأنه أراد أن يلقننا درساً في قراءة روايته. فالغائب صدام حسين أيضاً في شخص وهاب، لأن هذا الأخير الذي ارتقى السلطة بدموية، واعتمد الأقارب لتثبيت ديكتاتوريته، لم يكن صدام حسين الذي عرفه الناس عبر الإعلام، ونشاطات الحكم، بل هو صدام حسين الذي عرفه الروائي ككيان إنساني من لحم ودم. وكذلك يعقوب، مسؤول الأمن والحماية الشخصية للرئيس. نراه داخل الرواية لا يقرن بجلاد الملاحقة الأمنية في حياة العراقيين وخيالهم. بل هو الكيان المعذِّب والمعَذَّب في آن. وليس بعيداً عن حالة الانفصام هذه شخصيات المقاومة، مثل الشيوعي قادر، والاسلامي الغفاري، ولا شخصيات الارتزاق والتزلف مثل الفنانة ياسمين، أو وليد الكاتب الذي يقف في المابين بذات شحنة الكراهية ومشاعر الذنب.

هذا الاستقلال عن الواقع وعن التاريخ ليس إلا استقلالاً ظاهرياً في حقيقته. روائيون عراقيون آخرون رصدوا سلطة الدكتاتور عبر واقعها وتاريخها، أو رصدوا أبطالاً من ضحاياه عبر واقعهم وتاريخهم، أو رصدوا أنفسهم بذات الطريقة. ولكن تجربة زهير الجزائري اعتمدت الواقع والتاريخ وخَبَرتهما بنفسها كما خبرها العراقيون جميعاً، إلا إنها اعتمدت محاولةً جديدة لرصد مايعنيه الواقع والتاريخ العراقيان لها في مرحلة البعث الدامية. ذهبت الى قلب السلطة، والى معقلها البشري الحي، ومن هناك كتبت تقريرها عن بشريتها المدفوعة بقوى الغرائز العمياء. تماماً كما ذهبت الى معقل المقاومة البشري الحي والتباساته. لم تُرد أن تُسقط الإنسان فيهم من حسابها، حذرة من إثنوية الأبيض والأسود، التي تُبتلى بها معالجات شبيهة. من هذه الزاوية أخذ النص حيويته، وواقعيته، وتاريخيته الروائية. التخلي عن الواقعية والتاريخية عادةً ما يجفف النصَّ السردي، ويخليه من روائيته. ولكن هذه الرواية، بفعل تعاملها مع رجال السلطة القمعية ككيانات بشرية، بالرغم من غياب الواقع والتاريخ، ظلت دائمة الحيوية.

بناء الشخصيات، والحدث، والجملة، والسرد جميعاً، بقدر ما ابتعد عن الواقع والتاريخ، بقدر ما اقترب من عالم هذه الكيانات البشرية الداخلي، ولذا ظل محتفظا بحيويته هو الآخر. حيوية فيها الكثير من الكثافة في الأفكار والشحنات العاطفية، حتى لتقرب الجمل في أحيان كثيرة من إيحاءات الشعر. فجملة «صرخة امرأة، طويلة وحادة كسرت زجاج الليل البارد..» تكاد تكون الرابط السري لتيار الرواية الداخلي، عبر 359 صفحة. فهي تتكرر، دون أن تشعر، مع الصفحات، حتى لتبدو الرواية صرخة خرساء دون صوت، بل بفعل احتدام لا يتوقف، ودون إضاءة أو ظلال، بفعل العتمة المطبقة. اعتماد التكرار الباطني هذا أول مظاهر إيحاءات الشعر. وجملة إيحائية كهذه: «ثلاثة توابيت رُبطت فوق بعضها وغطيت بقماشة كانت تخفق مع سرعة الريح (جناحاً بارداً يترك ظله على وجوه الأحياء)، عادة ما تتدفق بعفوية في كل صفحة».

هذه الكلمة دليل أولي اقترحه لقراءة هذه الرواية «الخائف والمخيف»، التي صدرت عن دار المدى.