حياة فقد وتشوه منشطرة إلى نصفين

الكاتب اللبناني حسن داوود يتوسل في «ماكياج خفيف لهذه الليلة» تقنية سردية بارعة كما في أعماله السابقة

TT

تروي فاديا نصّار، بطلة رواية الكاتب اللبناني حسن داوود «ماكياج خفيف لهذه الليلة» الصادرة حديثاً عن دار «رياض الريس للكتب والنشر»، قصتها على مستويين متشابكين: الأول تخاطب فيه جيهان، المخرجة السينمائية التي تعزم على تحويل قصتها الى مزيج من فيلم روائي وتسجيلي. ولأن هذا المستوى من السرد يتطلب مدى زمنياً يشمل تسجيل قصة الفيلم والاجراءات الأخرى اللازمة، وصولاً الى الشروع في الانجاز، فإن السرد يجري على دفعات تحدث في ساعات وأيام مختلفة.

أما المستوى الثاني فيبدو أشبه بعملية تذكّر بما جرى خلال عقد من حياة البطلة، بما فيه حكاية الفيلم تلك. وإذ تتذكر البطلة، فإن ما ترويه يجري دفعة واحدة، من حيث أن زمن السرد، وإن ليس متصلاً على صفحات الرواية، نظراً الى تشابكه مع مستوى السرد الأول، لا يحتاج الى أن يجارى زمن الحوادث المروية في سياقه. والأهم من ذلك أن فاديا، على هذا المستوى من السرد، لا تخاطب أحداً، حتى وإن باحت بأسرارها أو عرّت نفسها على صورة مماثلة لما تفعله على المستوى الأول، فهي هنا تبوح لقارئ مجهول وتكشف نفسها لنفسها. وهذا ما يميّز مستويي السرد في الرواية.

فعلى المستوى الأول تروي، فاديا مدفوعة بحقيقة أن ما ترويه سيتحول الى فيلم سينمائي، أي أن ما ترويه يجب أن يظهر على شكل قصة فنية تُعرض أمام متفرج. لذا فإن السرد، وإن تشعّب وتعقّد في مناسبات عديدة، فإنه يمضي من حيث المبدأ الى غاية تأسيس حكاية لسامع أو متفرج ـ قصة حياة ذات بداية ونهاية تتوسطها مراحل متعاقبة. هذا في حين أن السرد على المستوى الثاني، وحيث أنه لا يرمي الى تأسيس قصة فيلم ذات مراحل محددة ومتعاقبة، فإنه يُساق متحرراً من أولوية هذا الغرض. وهو ما يتيح له، من خلال عملية التداعي والتذكر التي تقوم بها فاديا، الى استعياب ما يتضمنه السرد على المستوى الأول، أي قصة الإعداد للفيلم السينمائي وأيضاً ما يدور خلفه وبعده، بل والبوح بالعديد من التفاصيل التي لا تبوح بها فاديا وهي تخاطب جيهان وتروي لها قصتها. وليس هذا لأن فاديا تخجل من الاسراف في البوح أمام جيهان، ومن ثم أمام الكاميرا والمتفرج المفترض للفيلم، وإنما لأن الفيلم يتطلب قصة محددة ومن ثم فإنه لا مناص من استبعاد العديد من التفاصيل التي قد تعوق مثل هذا الغرض.

هذه التقنية السردية البارعة التي يتوسلها حسن داوود في «ماكياج خفيف لهذه الليلة» ليست جديدة على أعماله الروائية عموماً، وإن ظهرت على أشكال مختلفة. وهو منذ روايته الأولى «بناية ماتيلدا»، الصادرة عام 1983، توسّل تقنية سردية تراعي أمرين أساسيين: صدور السرد صدوراً تلقائياً عن بطل الحكاية أو راويها، وحلول الزمن من دون تنبيه خارجي المصدر او الطابع. هذه التقنية بلغت قصارى نضجها، خاصة في ما يتعلق بالتعامل مع مسألة الزمن، في روايته السابقة «خريف البطريك».

هذا على أية حال لا يعني بأن داوود في اتباعه تقنية المستويين المتشابكين والزمنيين المختلفين في رواية «ماكياج خفيف لهذه الليلة» إنما يحرص على الاستمرار على ما سار عليه من تقنية سردية وأرساها، وإنما ثمة من المبررات ما يتطلب مثل هذه التقنية بالذات. وما توزع السرد على مستويين في الرواية الجديدة، الأول يتجه نحو تحقيق قصة فنية، في حين أن الآخر يمضي على صورة بوح وتأمل في ما هو شخصيّ وغير منظم، إنما يعكس تضارباً في نفس بطلة القصة.

فالسرد على المستوى الأول محاولة للمصالحة مع الذات، وهي مصالحة لا تتحقق إلا من خلال إيقان فاديا بأن حياتها متصلة وتامة خاصة في ضوء الشق الذي اعتور، جسدها فعلاً، ومسيرة حياتها، مجازاً. وكانت البطلة قد وقعت ضحية انفجار شوّهها جسمانياً، وأهلك ثلاثة من أفراد عائلتها، زوجها وأخيها وأختها، ومن ثم فإنه شطر حياتها الى شطرين، ما قبل الحادثة وما بعدها. ولعل حالة الغيبوبة وفقدان الذاكرة، وإن المؤقتة، التي تعانيها إثر الحادثة تلعب دوراً نموذجياً في الفصل ما بين شطري حياتها، وهي حينما توافق على أن تحول حياتها الى سيرة تروى على شكل فيلم سينمائي فعساها ترأب الشق الفاصل وتستعيد الاتصال والتمام اللذين، غالباً وتلقائياً، ما ينسبهما المرء لحياته، خاصة حينما تسلم هذه الحياة مما قد يجعلها موضوع بحث ومراقبة وعلاج، وعلى صورة تشي بانفصال المرء عن جسده ونفسه. لذا فحينما تروي فاديا نصّار فإنها تبدو كمن تروي بمزيج من قلق وسخاء، قلق من يخشى أن يفوّت فرصة استعادة الاتصال والتمام الموعودة، وسخاء من هو مستعد لبذل كل شيء في سبيل استعادة ما فقده.

فتحرص فاديا في جلّ المناسبات، وعلى ما تخبرنا هي نفسها في دلالة على ما سبق وأشرنا إليه من أمر قلقها في استعادة الإحساس بالاتصال الذاتي والتمام، على أن تقدم نفسها كما هي ومن دون تمهيد أو تردد: المرأة التي يعتور جسدها جرح يمتد من أسفل الاذن وحتى أعلى الصدر، والتي علاوة على ذلك تعرج ويلازم صوتها حينما تتكلم صفير لا يغيب عن السامع. فهي لا تحاول اخفاء ما ألمّ بها، أو ما آلت إليه، على العكس من ذلك، تراها متسرّعة في اظهاره، وكأنها بذلك تحاول ان تحث الآخرين على الاعتياد على صورتها الجديدة، والأهم من ذلك أن يروا الى هذه الصورة باعتبارها امتداداً لصورتها السابقة، أي قبل أن تتعرض لحادثة الانفجار. وتوكيداً على ذلك تبادر الى تلبية رغبتها الجنسية عند أدنى بادرة ظهور لهذه الرغبة في نفسها.

والتصوير الفني لحياتها، وهو في هذه الحالة تمثيل حياتها كفيلم سينمائي، هو السبيل الذي يضمن لها الإحساس بالاتصال والتمام طالما أن هذا السبيل محكوم من حيث المبدأ بشروط الاكتمال، فلا يكون عمل فنيّ من دون اكتمال. والمشكلة هنا أن فاديا واعية، وعياً مباشراً وحاداً، لحقيقة التغيّر الجسماني الكبير الذي طرأ عليها وجعلها تعاني الإحساس بالنقص. وهذا ما يشي به السرد الذي، وإن تطرّق الى الحوادث العامة والكبيرة في حياتها، فإنه ينشغل على العموم بالحوادث الآنية والتفاصيل الحسيّة، وتحديداً، تلك التي تتصل بجسدها. فأولوية وعي البطلة لجسدها تجعل السرد محكوماً بوصف أو تقرير ما يتصل على نحو وثيق بها .

هذا الوعي المباشر والحادّ بحقيقة التشوّه الذي أصاب جسدها يدل على أن الصياغة الفنية الدرامية لحياتها، أي تصويرها على صورة فيلم سينمائي، لن تجدي في تحقيق الاحساس بالاتصال والتمام المنشودة إلاّ في حدود ما تتيحه الصياغة الفنية المحكومة بطبيعة الحال بشروطها الخاصة، والأهم من ذلك، المختلفة عن شروط الحياة. وغنيّ عن القول إن الفن، وخلافاً للحياة، لا يكون من دون تمام واكتمال حتى وإن ترك نهاية القصة مفتوحة على احتمالات متعددة. فتمام المادة الفنية محكوم بالحقيقة المادية للكتاب او الفيلم، أو أي شكل مادي آخر يقع بين لحظتي بداية ونهاية. والأبعد من ذلك أن الفن يفترض وجود المتفرج، أي ذاك الذي يرى الى ما يجري أمامه باعتباره تمثيلاً، او لعباً، حتى وإن استند في الحقيقة، الى قصة حقيقية. وهكذا فسرعان ما تلقى فاديا نفسها متفرجة على حياتها تؤدي على صورة دراما فنية، الأمر الذي ينبهها الى حقيقة أن التمام الذي تنشده في إحساسها بحياتها من خلال الفيلم السينمائي إنما هو من قبيل التمام الناجم عن المخيلة وليس الواقع. وبعيداً عن الصياغة الفنية لحياتها، تواجه فاديا حياتها الفعلية تماماً من خلال القفز الى المستوى الثاني من السرد حيث لا تكتفي بأن تكون متفرجة على حياتها كفيلم سينمائي وإنما متفرجة على من يؤدون الفيلم وينجزونه حيث ليس في أدائهم الفني ما يؤشر على اتصال وتمام وإنما محاولة تلفيق أمر كهذا بما يظهر أخيراً على الشاشة.

«كنت قد أوقعت نفسي في وهم أن الفيلم الذي يستجمع مراحل حياتي سيزودني، وأنا في عمري هذا، بتلك المراحل» تقول فاديا في نهاية الرواية، مكتشفة أن تمام السرد الفني واتصاله لن يجعلا حياتها الفعليّة متصلة وتامة، وأن ذلك «الجرح الكبير» الذي يعتور جسدها إنما يعتور حياتها أيضاً طالما أنه ليس علامة فعلية فقط على تشوّه جسدها في ذلك الانفجار وإنما أيضاً على فقدانها لثلاثة من أقرب المقرّبين إليها، وما جعلها تعيش حياة أخرى موسومة بالتمزق والفقد اللذين لا يُمحيان، وحتماً ليس بواسطة فيلم سينمائي.