شاعر سوري يكتب بالعربية والألمانية ويقيم بين ثقافتين

عادل قرشولي: القول بأن غوته درس العربية وكان يعرف المعلقات قول مبالغ فيه!

TT

عادل قرشولي شاعر سوري، يعيش في ألمانيا منذ أربعين سنة، ويدرس في جامعاتها، ويكتب الشعر باللغتين العربية والألمانية. ومن مجاميعه الشعرية «وطن في الغربة» و«عناق خطوط الطول» و«هكذا تكلم عبد الله» و«موال في الغربة»، كما يترجم من وإلى اللغتين.

هنا حوار معه عن تجربته الشعرية في الوطن والمهجر، والعلاقة مع الآخر، والتنقل بين ثقافتين تبدوان متناقضتين:

* ما هو موقع البعد الفلسفي في مجموعتك «هكذا تكلم عبد الله»؟

ـ استشهادي في «هكذا تكلم عبد الله» بمقولة للنفري واستخدام عبارة «وقال لي» ولد التباساً لدى بعض النقاد. واعتقدوا أن عادل قرشولي تحول إلى متصوف. لكن موقفي من الصوفية فلسفياً يقف في واقع الأمر على الطرف النقيض كلية من الصوفية. أنا انطلق في هذه المجموعة من بعض طروحات الصوفية مثل وحدة الوجود والفناء. ولكن وحدة الوجود هنا هي وحدة أرضية، وحدة الأنا والآخر في الأطر الجدلية لهذه الوحدة. ومن هذا المنظور أرفض فكرة الفناء في الآخر أياً كان. فالفناء في الآخر يعني فلسفيا نفياً للازدواجية. ويعني ذلك بدوره نفياً للتعددية. وعندما أقول إني أريد الحفاظ على هذه الازدواجية أقرن هذه الرغبة بشرط البحث عن سبل للتواصل الودي بين هذه الازدواجيات. أما العلاقة التي أعنيها هنا بين الأنا والآخر فهي لا تقتصر على كونها علاقة فرد بفرد كالعلاقة بين رجل وامرأة أو بين صديق وصديق، بل تعني أيضاً علاقة فرد بجماعة أو بدولة أو بأمة أو علاقة حضارة بحضارة أو علاقة البشرية بالطبيعة.

* وما رمزية عبد الله في هذه المجموعة؟

ـ عبد الله هو شيء مطلق. هو الإنسان في المعنى المطلق. ولكنه في قصائد المجموعة ليس سوى اتكاء حتى أستطيع أن أواجه نفسي من خلال عبد الله. كنت أود كتابة قصيدة ذات مسحة فلسفية، قصيدة تتأمل في تلك العلاقة بين الازدواجيات وفي ماهية عملية التواصل بينها، قصيدة تطرح تساؤلات عن إمكانيات صياغة هذا التواصل من منطلق الود والمحبة. وخشيت أن أسقط في مطبات التنوير والتعليم المقرون برفع الإصبع. لذلك استخدمت عبارة «وقال عبد الله لي» في مطالع بعض القصائد مستهدياً بعبارة النفري: «أوقفني... وقال لي».

ولكن الاستهداء بعبارة النفري ليس له بحد ذاته أي بعد صوفي. فأنا لم أستخدم هذه العبارة إلا كوسيلة أسلوبية في محاولة لتجنب الوقوع في تلك المطبات. فقد تمكنت بذلك على ما أرى من تحويل الذات لا الآخر إلى مخاطب العملية الإبداعية ومن إجراء حوار معها. تلك الذات الأخرى التي حملت اسم عبد الله هي ذات مفترضة، ذات تموضعت في الخارج لتعبر عن الشك الكامن أحياناً ولتتقمص الآخر أحياناً أخرى وتتماهى معه وتجري باسمه حواراً مع ذات بقيت حبيسة الداخل. ذات الداخل تنصت إلى الذات الأخرى أو تكملها أو تناقضها وتطرح عليها تساؤلات تبقى بلا إجابات. كل ذلك يتم في إطار التوحد بين الذاتين. ولعل استخدامي لهذه الوسيلة الأسلوبية هو الذي ولد الالتباس لدى من اعتقدوا أن عادل قرشولي تحول إلى صوفي.

* يقول وحيد نادر إن لعبة تزويج الشرق بالغرب صارت لعبة لعادل قرشولي ؟

ـ من المحتمل أن تكون لفظة لعبة غير دقيقة في هذا السياق. ولكن الرغبة في تزويج الشرق بالغرب أو «الشمس بالثلج»، كما قلت في قصيدة، هي نوع من التطلع، والطموح، والحلم ومحاولة للممارسة والمعايشة أيضاً. هذا الطموح هو النزوع ليس للعيش بين حضارتين وثقافتين ولغتين، بل فيهما. ومع ذلك فأنا لا أنكر أنني أجلس أحياناً بين مقعدين وأنني لكي أجد مبررا لوجودي، وكي لا أفقد ذاتي كلية أضع أحياناً بينهما وسادة أسند عليها رأسي، وأحاول أن أستريح قليلا، مع العلم أن هاتين الحضارتين كانتا تتصارعان في داخلي فيما مضى صراعاً مستميتاً، وهو ما كان يؤرق الفكر والجسد. وعلى مدى هذه السنوات الطويلة التي عشتها مع الآخر حاولت بفعل إرادي تكريس اللحظات العفوية وتحويل هذا الصراع من حين لحين إلى نوع من العناق. ومن هنا كان عنوان احدى مجموعاتي الشعرية «عناق خطوط أطول».

* لو نتحدث عن نشاطك في الترجمة من العربية إلى الألمانية والعكس وعن علاقتك باللغة الألمانية؟

ـ هذا الوجود في حضارتين جعلني في فترة ما أحاول واعيا مد جسر بين الثقافتين. ترجمت بعض القصائد والقصص والمسرحيات من العربية إلى الألمانية، ومن الألمانية إلى العربية.

وفيما يخص علاقتي باللغة الألمانية، ففي بداية الأمر عُرفت في ألمانيا الشرقية تحديدا خلال الستينات وساهمت في الموجة الشعرية الجديدة هناك عن طريق ترجمة قصيدتي العربية إلى الألمانية. لاقت تلك الترجمات قبولا واسعا وانتشارا لا بأس به. ولكن هذا الانتشار الذي أرضى لفترة غروري، تحول في فترة لاحقة إلى نوع من النخر في هذا الغرور بالذات، لأنني لاحظت أن هذا القبول لم يكن متعلقا بإيحاءات المفردة العربية، ولم يكن متعلقا بمدى جودة القصيدة الأصل، بقدر ما كان متعلقا بالغرابة التي قدمتها للآخر في السمات وفي القصيدة. كما واجهتني مشكلة أخرى، وهي أنني في قصيدتي العربية كنت أتوجه في اللاشعور ومن معطيات اللغة ذاتها إلى مخاطب عربي. وأنت تعرفين أن الشعر لا يتكون من معلومة أو معرفة مجردة، وإن تاريخ الكلمة ليس تاريخا معرفيا دلاليا فقط، إنما هو تاريخ له أبعاد حسية وإيحائية. وبعد دراستي للأدب الألماني لاحظت أن هناك إشكاليات حتى على صعيد المعايشة الحياتية تحتاج إلى أن أعبر عنها باللغة الألمانية إذا أردت التحدث عن تواصلي مع من كنت أتعايش معهم. ولم يكن بإمكاني أن أفعل ذلك إلا بلغتهم. كانت الكلمة الألمانية تضع رجلها في طريق الكلمة العربية أحيانا، وتماحكها، وتناقضها. هذه العملية لم تكن سهلة. في البداية كتبت قصائد بسيطة جدا لاقت قبولا لسبب أخر. كان لدي ما أقوله كرجل في نهاية العشرينات من العمر، رجل تغرب ودرس وجرب هواجس وتطلعات كثيرة. ولكن مفرداتي كانت في اللغة الأخرى قليلة وقاموسي الشعري فيها محدوداً. هذا ما أدى في قصائد البدايات تلك إلى بساطة وتكثيف كبيرين.

* من المعروف أن غوته استخدم الموروث الصوفي ولديه علاقة بالثقافة العربية. بالنسبة إليك كمقيم داخل اللغة الألمانية، وكقارئ ومنتج في هذه اللغة كيف ترى توظيف الثقافة العربية والإسلامية في شعر غوته؟

ـ إن ما يكتب في العالم العربي عن التجارب التي تستقي التراث العربي ناتج في كثير من الأحيان عن محاولة النقد العربي لايجاد مرجعيات عربية لهذا الكاتب أو ذاك أو لهذه الظاهرة أو تلك ويعبر في بعضه عن عقدة نقص أو تضخم للذات. فالقول بأن غوته درس اللغة العربية وكان يعرف المعلقات، وأنه تأثر بالأدب العربي هو قول مبالغ فيه. عملية التأثير لا تكون بالنسبة لكاتب، خاصة إن كان بحجم غوته، أحادية الجانب، وإنما تكون عبارة عن مجموعة من المؤثرات التي توضع في بوتقة الذات وتنصهر في نسيجه العام.

* يبدو لي أنك تمتلك وعيا خاصا في مسألة الفصل بين ما هو ذاتي وما هو شخصي في العملية الإبداعية. هل أنت واع بذلك؟

ـ أحيانا أقرأ رواية لكاتب أو لكاتبة ما وألاحظ أن هذه الرواية هي نوع من التبرير لموقف محدد اتخذه هذا الكاتب أو الكاتبة لا يريد توجيهه إلا لمخاطب أو مخاطبة محددين. هذا التبرير قد يكون مشروعاً من الناحية الشخصية لكاتب أو كاتبة. لكنه لا يعنيني أنا كمتلق لأنه لا يعبر الجسر من المحدد إلى المجرد. هذا ما أعتبره شخصياً لا ذاتياً. المخاطب هنا قد يكون شخصاً ما تريد أن توجه إليه رسالة تعنيه هو بالذات بكل ما فيها من تفاصيل أو يمكن أن يكون امرأة تكتب لها قصيدة من أجل كسب ودها بالذات، وهي امرأة محددة، فتكون القصيدة شخصية أكثر منها ذاتية. الموقف الذاتي هو الذي يمرر العالم عبر الذات للآخر. عندما أكتب قصيدة حب ذاتية فإن هذه القصيدة تتضمن تجربتي في الحب كتجربة، ولا تتأطر في حدود العلاقة الشخصية.