بواكير شعر سياسي أم قصائد انتهازية مبكرة.....؟

دعبل الخزاعي شرح نثرا الدوافع الشخصية التي تقف خلف يزيد بن مفرغ الحميري وغيره من الشعراء الهجائين لولاتهم

TT

الذنب الواضح الذي أقر به دون ضغوط في الوجه أو كهرباء في القفا تأخير نشر رد هام على مقالة قديمة عن بواكير الشعر السياسي العربي ممثلا بيزيد بن مفرغ الحميري الذي أجبره ولاة بني أمية ان يمسح بأظافره جميع القصائد التي كتبها ضدهم على جدران البيوت والخانات فكان بذلك المعنى أول خبير عربي في المنشورات السياسية عاقبته الديمقراطية العربية على ما جناه شعره بأفضل ما في قاموسها من عقوبات فما ان انتهى من الحك والمسح بعد ان بريت أظافره وتقرحت أصابعه حتى سقوه مسهلا وأشهروه بالمقلوب على ظهر حمار أجرب مقرونا بخنزير وسنور.

اما العذر الذي هو أقبح من الذنب فان رسالة الدكتور صالح عبد الله سعد نجحت في مراوغتي واختفت بحذق فترة طويلة بين رسائل أخرى في ملف اسميه سخرية من نفسي (مؤجلات للنظر العاجل) ويجاور هذا الملف في مكتبتي ملف آخر عنوانه «ألف عام من العزلة» الذي ستدركون من اسمه ان النظر فيه لا يتم الا بعد اليأس من كافة الاوراق والملفات الاخرى والظاهر اني غلطت اثناء ورود الرسالة الاليكترونية فوضعتها في ديار العزلة بدلا من النظر العاجل لذا وتكفيرا عن هذا الذنب سيأخذ رد الدكتور صالح المركز والعميق عن ابن مفرغ المساحة التي يستحقها على ان يكون لي بعد ان نطالعه معا حق الرد والتوضيح ببضع جمل قصار انصافا لهذا الشاعر الذي يرى فيه الاكاديمي النابه شاعرا انتهازيا من الطراز الاول.

يقول الدكتور صالح عبد الله سعد في رسالته:

لقد انتهى كاتب المقال إلى تصنيف الشاعر يزيد بن مفرغ الحميري كشاعر سياسي مقاوم للسلطة. وقد أحتفى به كاتبنا أيما احتفاء موجهاً وناصحاً بأن تفرد له الدراسات العليا لدراسة شعره ومنهجه الشعري. ولكن مما يؤسف له أن ما وقفنا عليه من سيرة الشاعر المذكور مخيبة لآمال المبدعين فالشاعر ابن مفرغ بالرغم من انه بهجائه المقذع قد شفي غليل بعض الحاقدين على الدولة الأموية والغاضبين منها والمنافسين لها لم يكن يستحق هذا الوسام من الكاتب.

ما حفظته لنا الروايات عن الشاعر المذكور أنه كان بالرغم من شاعريته التي وضعته بين شعراء الحماسة الكبار فإنه في سلوكه كان لا يختلف عن كثير من شعراء عصره وعصور لاحقة ممن وظف الشعر لخدمة نوازع أنانية بما فيها التكسب به واستخدامي الشتم والتحقير للابتزاز بهما. وقد غطى على المنهج الهابط لشاعرنا تهديده وابتزازه لمالكي السلطة وهجاؤه لهم لأن التعرض لمالكي السلطة يرضي نوازع كثيرة من بينها نوازع المنافسين والحاسدين والحاقدين والمتكسبين.

أما بالنسبة للشاعر يزيد فإن هذا المنهج كان يتلاءم مع طموحه المحصور في الكسب والكسب فقط. وقد ساهمت البيئة التي عاشها الشاعر آنذاك في بروزه وظهوره بهذه الصورة المثيرة للجدل. أعني اختفاء أنانية وانتهازية الشاعر خلف ما ظهر به من صورة البطل المقاوم للسلطة.

تقول الرواية أن بعض قادة الفتوح في العصر الأموي الأول كانوا يتنافسون على جلب الشعراء معهم ليستفيدوا من مواهبهم في إلهاب حماس المقاتلين في حروبهم او لمنافسة الأمراء الآخرين على المناصب. ولأن الشاعر يزيد كان يمتلك موهبة الشعر الحماسي مما وضعه بين كبار شعراء الحماسة وكذلك لقدرته على الهجاء المقذع فقد تنافس على ضمه إليه كل من الأمير سعيد بن عثمان بن عفان أثناء توليه لخراسان والأمير عباد بن زياد أثناء ندبه في بعث سجستان وقد التحق الشاعر بالثاني.

ولما كان القائد عباد بن زياد منصرفاً إلى مهمته النبيلة غير ملتفت أو غير متصور إلى ما سيؤدي الأمر بهذا الشاعر الشتام المتكسب بشعره فقد ظهر سلوك الشاعر وكأنه فاجأه به. فعندما أبطأ عليه بالعطاء بسط لسانه فيه غير مقدر لموقفه ومهمته ومخلفاً لوعده لأخيه عبيد الله بأن يكتب إليه قبل أن يهجوا أخاه إذا أنشغل عنه. وقد ضاعف من مقدار المفاجأة أن الشاعر في ذلك الموقف الجهادي بدأ بهجاء مظهر من المظاهر التي يعتز بها المسلمون وهي اللحية فقال يهجو لحية القائد عباد:

ألا ليت اللحى كانت حشيشاً

فنعلفها خيول المسلميناً

كررها بقوله يتهكم على قائده وقد فاز ذلك القائد في سبق بالخيل أثناء غزوه ذاك فقال الشاعر:

سبق عباد وصلت لحيته (أي أتت بعده)

وهو هجاء وسخرية يؤكدان أن لا شيء له حرمة أو قدسية عند هذا الشاعر تمنعه من الوصول لغرضه حتى ولو كان ذلك أحد مظاهر الدين الذي خرج مع القائد عباد يزعم أنه يعمل على نصرته.

شيء واحد لم يفعله القائد عباد وهو تبديد أموال الفتوح وخراج بيت المسلمين على الشاعر دون وجه حق. ولأن الشاعر قد استدان من بعض الجنود فقد شكوه إلى الأمير ربما بإيعاز من الشاعر حتى يدفع الأمير الدين عنه من الخراج بالرغم من أن البعض قد يظن العكس. ولكن الأمير النزيه ترك الأمر لحكم الشريعة. فسجن الشاعر وبيعت جاريته وغلامه وفاء بدين الدائنين. ولما قضي دينه من ماله أفرج عنه فترك بلاد الجهاد وساح في الأرض يملأها سباً وشتماً لأسرة الأمير الذي لم يمكنه من استغلال الجهاد للتكسب.

* صراع الامراء

* وبعد أن بالغ الشاعر ابن مفرغ في هجائه لعُباد وللبيت الأموي ككل حمل عباد شعره إلى أخيه عبيد لكي يساعده على تأديب ووقف هجائه لهم. ولكن كيف يمكن أن يؤدب شاعر فاحش مثل هذا الشاعر؟ فهي إشكالية تتعلق بكل من يعتمد على لسانه لكسب عيشه وتحقيق رفاهيته فيلجأ للابتزاز تارةً وللمديح تارةً أخرى دون وجه حق في كليهما. والضحية الذي يتعرض لهكذا موقف يقع في حيرة. فمثل هذا الشاعر الهجاء مثل أنبوبة الغاز المسروقة المكسورة التي تجدها في بيتك إن حركتها أو أخرجتها من دارك زاد انتشار رائحتها في الخارج وألصق بك تهمة الناس تهمة سرقتها. وإن سكتّ عليها اختنقت في منزلك وحدك.

وقد ظهرت حيرة عبيد الله في الاختيار بين ضرورة التعامل مع الشاعر بما يستحقه عرفاً وديناً وبين أهمية اتقاء شر ذلك الشاعر. فلما أوشك هو وأخوه على الاختناق بهجاء هذا الشاعر عرض عبيد شتائم الشاعر على الخليفة معاوية وطالب أن يسمح له بقتله لأن هجاءه يستحق أن يهدر به دمه. ولكن معاوية بحلمه المعروف طلب منه أن يؤدبه بتأديب دون القتل.

لم ينجح عبيد الله لأن عقابه وإذلاله للشاعر وكذلك معرفة الناس بانتهازية الشاعر لم يمنع الكثيرين من الوقوف بجانب الشاعر الانتهازي مقابل الحق.

الابتزاز بالشعر إذاً ظهر في تلك الفترة بسبب وجود بيئة مناسبة له من بينها الصراع بين الأمراء على الإمارة. وكذلك وتأثر العرب بالهجاء وحساسيتهم تجاهه والذي بدوره قاد للاهتمام بالشعراء كإحدى الوسائل الإعلامية التي تستغل لمساندة الموقف ولإذلال الخصم أو المنافس. وكذلك كان لعدم رسوخ المبادئ الإسلامية في نفوس البعض نفس الأثر. وقد استغل كثير من الشعراء كابن مفرغ الحميري هذه الظروف البيئية وأسسوا مبدأ الكسب عن طريق الإبتزار بالشتيمة والهجاء لتخويف مالكي السلطة ودفعهم إلى اتقاء شرهم بالعطاء والامتيازات. وقد عبر عن هذا المبدأ الشاعر دعبل أبلغ تعبير بقوله:

«وجدت أكثر الناس لا ينتفع بهم إلا على الرهبة. ولا يبالي بالشاعر وإن كان مجيداً إذا لم يخف من شره. ومن يتقيك على عرضه أكثر ممن يرغب إليك في تشريفه وعيوب الناس أكثر من محاسنهم. وليس كل من شرفته شرف ولا كل من وصفته بالجود والمجد والشجاعة ولم يكن فيه انتفع بقولك. فإذا رآك قد أوجعت عرض غيره وفضحته اتقاك على نفسه وخاف من مثل ما جرى على الآخر.. إن الهجاء المقذع آخذ بضبع الشاعر من المديح المضرع».

* الحقيقة والخيال

* وفي الختام أود أن أؤكد أنني فيما ذهبت إليه من رأي مخالف لا أجرؤ على اتهامه بعدم معرفة حقيقة الشاعر. كذلك لا اتهمه بأنه عرف ذلك وتعمد أن يلوي عنق الحقيقة ليقدم زيفاً للقراء. ما أردت ذلك والله. فالكاتب شاعر ومتخصص في «الخيال» كما تقول سيرته الواردة في موقع صحيفة «الشرق الوسط». ولذلك لا مجال للتشكيك في مقدرته ولا في نواياه. فما الذي حصل إذن حتى يخالف الكاتب ما ورد في سيرة الشاعر؟

ما يظهر لي أن الدكتور محيي الدين اللاذقاني قد قرأ الشاعر من الزاوية التي تناسبه هو وتتلاءم مع الخيال الذي يملكه كشاعر والذي يدركه كمتخصص في هذا المجال المثير الغامض. فلأن منهج مقاومة السلطة يتلاءم مع نوازع ومنطلقات الشعراء والمبدعين فقد أحتفي به كاتبنا ذلك الاحتفاء. فيبدوا لي أن الدكتور استعار من مخزونه ومكنونه ما يتلاءم مع نزعته هو وأسقطها على الشاعر المذكور. وهو منهج ينتهجه المفكرون والمبدعون فيبدو نتاجهم في صورة عسف للحقيقة. ولكنه ليس كذلك. إذ أن هذه النزعة في صميم تكوين هذه الفئة التي تتمرد على ما هو مألوف لكي تستخرج منه الصورة المثالية الجديدة التي تقود بها الأجيال في ظلام المستقبل المجهول. ولأنني قرأت الشاعر من زاوية مباشرة تتناسب مع من هم مثلي محرومون من الخيال فيعتمدون في النظر إلى الأمور على الروايات والحقائق المسجلة وليس المستنبطة بالوسائل غير المباشرة فقد ظهر مجال للاختلاف في النظرة إلى الشاعر المذكور بين اللاذقاني وبيني.

اتنهت الرسالة الطويلة ومع الشكر الغزير لهذا الجهد الكبير والنظرات الصائبات أظن ان الدكتور صالح يدرك انه لا يجوز ان نحكم على الازمنة الاخرى بمقاييس زماننا فذاك في النقد من المحظورات ما لم يكن الحكم خاصا بالعام والمشترك بين بقية العصور ولو حذفنا شعراء المديح والتكسب ـ ويا ليتنا نفعل ـ لما بقي عندنا في كل التراث العربي غير ثلاثة شعراء من بضعة آلاف أحدهم عمر بن ابي ربيعة الذي ساعده نسبه ورفاهيته وتفرغه للغزل على النجاة من فخ المدح المقيت.

لقد كان من الطبيعي ان يتنافس القادة على استقطاب الشعراء فهم اعلام وصحافة ذاك العصر وشاعر بذاك اللسان اللاذع والجرأة أهم لاي قائد او نظام من «الجزيرة» و«سي ان ان» معا في ذاك الزمان.

اما كيف يختفي الانتهازي في ثياب المقاوم المعارض فمشكلة ما زلنا نعيشها الى اليوم ألم تسمع يا دكتورنا الحصيف عن نضال فنادق النجوم الخمس فالذين يناضلون في الفنادق لا الخنادق هم الاعلى صوتا وابن مفرغ في عصره لم يكن منهم فغير فندق ابن عباد وابن عثمان كان عنده فنادق كثيرة يقصدها لكنه كان شاعرا حقيقيا والشاعر الاصيل معارض بالفطرة لكل ما حوله من ظلم وفساد وانتهاك لحقوق البلاد والعباد.

اني اوافقك الرأي دون تردد اننا نقرأ النصوص من الزاوية التي تناسبنا فهذه طبيعة البشر والا لما كان لكل منا كاتبه المفضل وشاعره الاثير الذي يلتقي معه في المشاعر والتفكير لكن مهما تعصبنا لأحد لا نستطيع ان نزيف التاريخ لحسابه فالوقائع والنصوص لا تساعد دوما على ذلك التزوير. هذا على افتراض ان معظمنا دون ضمائر وخبراء في التزييف المتقن.

بقي ان نقول ان العنصر القبلي في السياسة لم يختف ليعود فقد كانت السياسة العربية قبلية في الجاهلية وبعدها لا يكاد يستثنى من ذلك غير حقب الرسالة والراشدين الذين راعوا بدورهم التوازنات القبلية ولا ضير في ذلك فالقائد الحقيقي هو الذي يعرف التعامل مع تركيبة مجتمعه ولا أظننا نغالي ان قلنا ان سياستنا العربية قبلية الى يومنا هذا وتقبل التعامل بذات الاسلوب الذي كان سائدا على ايام يزيد بن مفرغ الحميري فوسائل الاعلام التي صادرت دور الشعراء القدامى ما تزال تمدح وتهجو والولاة ما زالوا يعاقبون دون محاكم ولا محلفين ولعل كل ما اختفى من حياتنا تلك العقوبات المبتكرة التي كانت تتفتق عنها قرائح الولاة الذين لم تكن على ايامهم المليئة بالصلف والاستبداد منظمة اسمها «امنستي» تشهر بهم بدل ان يشهروا بالشعراء وتطالب بعزلهم من مناصبهم لاقدامهم على ارتكاب ما يهين الكبرياء البشري والكرامة الانسانية.