كيف أنقذ الشعراء «زهرة الجاهلية»؟

روائي مغربي يخلط الأحداث التاريخية ليولف بين ماضي العرب وحاضرهم

TT

الزمن ليس وقتاً في رواية سالم حميش «زهرة الجاهلية» الصادرة مؤخراً عن «دار الآداب» ببيروت، وليس مسافة صحراوية مجدبة ومستلقية بترهل لعبث الأقدار بانتظار جنيّ يخرج من خاتم سليمان ليقول خانعاً: لبيك. الزمن ليس مجموعة حوادث ممطوطة تؤلف بمجموعها تاريخنا لنعيد روايته ونكررها، بقدر ما هو الفسحة المستقطعة بين الخيال العربي الذي أنتج السير الشعبية كتغريبة بني هلال وعنترة وألف ليلة وليلة، وأضافها شفاهاً إلى ذاكرة تخلط الأحداث لتعيد توليفها رؤية بين واقعنا المسلوب باتجاهين ماضٍ نحنّ إليه لنعيد تمجيد ذواتنا بتكراره، ومستقبل لا نملك من مكوناته شيئاً.

الحكاية عثر عليها أبو منصور الكرخي، مكتوبة على رقاع من جلد الإبل، لا عنوان لها، ظلّت من الهوامل دهراً داخل ورّاقة كانت تتوارثها أسرة بغدادية عريقة. فرممها ونقحها، وأصلح ما امحي أو غمض من عباراتها، واجتهد في نقل بعض مفرداتها الكِنْدية والنبطية إلى الحجازي.

تقول الحكاية إن اسمها كان زهرة البكرية، وسمّاها قصّاص عصر التدوين زهرة الجاهلية، فشاع اسمها هذا واستقر. وسبب تواتر أخبارها في أسمار العرب راجع إلى أنها نطقت بالكلام العميق العريق.

قيل إن زهرة كان لها من الحسن نصيب وافر، في عينيها سحر، وفي صوتها رقة ونغم.

تيتمت وهي دون العاشرة، فرعاها خالها، وكان وحيداً معدماً، غريب الأطوار كثير الارتحال، ذاقت معه من شظف العيش ألواناً. وفي يوم حطّت بهما الناقة في جيزان وقد أسلمت الروح بين رغائها وزبدها. فمات الخال من الحمّى والعطش، وتلقفت زهرة قافلة نقلتها إلى ظاهر يثرب، فقضت أياماً وراء أطلال بيت أبيها.

كان يظهر لها خلال إقامتها شيخ تبدو عليه إمارات الزهد والتقشف والنوم. أفصح لها أنّ اسمه «القرني» ويسمونه تجاوزاً «الغوث»، وأنه يغيث اليتامى والمحرومات والمنكوبات من أماء الله، وطلب إليها أن تناديه إن كانت في ضيق شديد.

يمسك المؤلف بمقود الحكاية في اتجاهات متعرجة ليصل إلى غايته. يزوجها من بدوي أجلف أسكنها تحت عيون قبيلته، حتّى أخرجت إلى الدنيا بنتاً باشّة فائضة عن الوجود. وعلّق أمها فلا هي حرّة ولا متزوجة.

كانت تستنجد بالقرني طالبة الغوث حتّى أتاها في ليلة وضّاءة ، ونصحها بأن تطلب عِشرة بعض الشعراء لتزداد يقظة وتتسع رؤيتها. وربما بشفاعة القرني فكّت قبيلة زوجها حصار عيونهم عليها، فخرجت إلى الدنيا، وقد أدمنت التوحد والعزلة.

تقصد زهرة، وفق نصيحة القرني، بعد ذلك الشعراء لتتأدب عليهم. تحضر حلقات المهلهل الذي كان يعلِّم فتيات تغلب بطولات قبيلتهم في حرب البسوس، وغزواتها المظفرة على بكر بن وائل ومرتزقتها. وحكى عن امرئ القيس وشرح لهم الأبيات التي يصف فيها كيف نحر ناقته للحسان. وحدثهم عن المرأة العظمى إذ تجتمع فيها الشمائل والصفات كما لا تحمله أية امرأة مفردة. وفتق ذاكرته عن فتوحاته العشقية فراود زهرة عن نفسها فانطلقت تجري كغزال بارع في القفز فوق الفخاخ والمزالق.

يعرض المؤلف لقاء زهرة بقيس «امرئ القيس» ويكون بينهما حديث شيق شاءه المؤلف حميماً ليلتف على تصدّع في البناء الروائي لا يكتمل إلاّ ببوح زهرة لقيس بأنها أحبت خالد الذي أضاعه قومه. وتعلن أنها في خصام مرير مع عصرها، وأنها عامرة بالأمل في أن تبرز في هذا الليل العربي البهيم وجوه مشرقة تجذب الناس إليها، وتنفح فيهم روحاً نورانية تنشئهم نشأً آخر. لكن الملك الضلّيل يموت وهو يبحث عن ملك أبيه فأضاعه عرب ذاك الزمان.

وفي داخل نفس طرفة بن العبد تكتشف نوبات الشكوك الحادّة التي يقطعها بيقين السكر والترحال، فتجاريه في السكرة الدائمة. لكنه يرتحل في الأرض بحثاً عن مقايضة شعره بمال الملوك. ويسقط غيلة على الطريقة المحفوظة في ديوان العرب.

وتلتقي عنترة وقد شاخ، فيعترف لها بأن جراحها أوغر من جراحه، وحكمتها أوفر من حكمته. وأنها تبثّ على السجية وعفو الخاطر ما يبعثه هو بالوزن والقوافي. لكن عنترة يسقط في يأسه ويموت في عطشه لماء في الصحراء لم ينفجر، وليوم للعرب لم يأتِ بعد.

تخرج زهرة إلى عكاظ شاهرة سيف امرئ القيس وتصيح ملء حنجرتها:

«تبّاً لكم يا قبائل التبعثر والحسيفة والثأر، فحولكم هرقتم دمهم واغتلتم الشعراء. هذا سيف بتّار خذلتموه وخنتموه، ومولاه قيس ضللتموه، وأي ملك ضللتم وأضعتموه، وأي امرئٍ أضعتم، سمّمه ملك الروم، فمات مقروح الجلد، مهزوماً بكم يا عرب» ثم تتلو وصية قيس إليهم، ليقفل المؤلف بهذه الوصية غاية الرواية:

«ليس تاريخاً هذا الذي تخطونه بتناحركم، يا عرب الكر والفر والفروسية الهوجاء، بل خردلة على طرّة تاريخ العظماء. لن تعرفوا المجد ولا العزة، والقبيلة منكم تستنجد بالروم أو بالفرس لدحر القبيلة الأخرى. أذناب أعدائكم أنتم ودمى، وهكذا عيالاً تبقون إلى أن تتمخّض ظلماؤكم عن نورها، ويكون النور خلاصاً ينشئكم قوة تقيم الحياة وتبدعها».

ويقال إن زهرة أدركت الإسلام شهراً قبل وفاتها، وإنها قبلت الشهادة على أن تستعير وعدها من صدق العرب وإيمانهم وإشراق وجوههم.

لم يكن لزهرة التي لا تكشف الرواية هل هي زَهرة متفتحة في صحراء جاهليتنا الجديدة، أم هي الزُهرة نجمة الصباح التي كانت لقوافلنا المرشد والدليل.