ثلاثة وجوه متقاطعة متداخلة مع بعضها البعض

اللص والعسكري ومهرج السيرك في العرض المسرحي المصري «استغماية.. ليه»

TT

منذ أربع سنوات قدمت الفنانة ريم حجاب عرضها المسرحي الأول «زي كل يوم» من إنتاج مسرح الشباب، الذي يعد شهادة ميلادها الأولى كفنانة مستقلة بعد مشاركتها في العديد من الورش المسرحية وفرقة وليد عوني للرقص المسرحي الحديث. وبعد دراسة في إنجلترا لمدة عامين عادت الفنانة الشابة ريم حجاب لتقدم ثاني عروضها المسرحية المصرية الحركية «استغماية. ليه؟»، وذلك بقاعة يوسف إدريس بمسرح السلام ومن إنتاج مسرح الشباب أيضا. في هذا العرض الثاني لعبت ريم دور البطولة الوحيدة والمطلقة بالإضافة لتحملها مهمة تصور الرؤية الشاملة وإخراج العرض أيضا، وعندما يلعب الفنان كل الأدوار الرئيسية تقريبا في عرضه المسرحي ويصبح الرأس المفكر والمدبر المبدع والجسد المنفذ، ويتخذ مقعد المتلقي الخارجي الذي يستوعب التجربة ككل ويتربع داخل وخارج الصورة المسرحية في نفس الوقت، يتحول العرض إلى رهان صعب ربما يعد ميزة أو لا ميزة حسب معطيات العرض وقدرات الفنان الفعلية وليست التخيلية أو المفترضة; حتى ولو من باب تقشف الميزانية المريع. ويتضح من عنوان هذا العرض المسرحي الحركي أنه يتناول لعبة «الاستغماية» المعروفة بين الأطفال والكبار، التي تقوم في الأساس على مطاردة طرف أو عدة أطراف مرسلة للطرف الوحيد المطارد المستقبل للفعل; فينحصر كل دوره في الفرار دائما من قدره المحتوم حتى لا يقع في أسر الأطراف الأخرى. ولأن هذه اللعبة الطفولية العابثة المجهدة من الثراء الداخلي الشديد الذي يمكنها من استيعاب العديد من التأويلات القصيرة والبعيدة، فقد حملتها ريم حجاب بعدا رمزيا فكريا شبه فلسفي عندما جعلت أطراف اللعبة مثلثا دراميا قابلا للانفجار دائما يحمل أضلاعه أنماط «اللص -العسكري- البلياتشو (مهرج السيرك)».

في داخل هذه المنظومة لا يقتصر كل طرف على دور واحد فقط، لكن فكرة العرض تقوم في الأساس على تبادل الجميع دور الفاعل والمفعول أو دور المرسل والمستقبل. وإذا بالجميع بكل ما يملكونه من سلطة مقتطعة أو شبه متكاملة يفرون ويطاردون بعضهم بعضا ويفرون من بعضهم البعض، ويقيمون داخل عباءة أداء المخرجة كبطلة للعرض. علاقات جدلية وصراعات طاحنة لفرض السطوة والسيطرة، خاصة أن كلاً منهم في الحقيقة يملك وجوها ثلاثة مقتطعة ومتقاطعة ومتداخلة مع بعضها البعض. وقد جسدت بطلة العرض الوحيدة هذا المفهوم بأساليب مبسطة بلغة الحركة الجسدية وحوارات وتفاعلات أجزاء الجسد المختلفة مع بعضها البعض، مع استخدام بعض العبارات المنطوقة التي تثير علامات الاستفهام وتلقي للمشاهد ببعض المفاتيح غير المباشرة تعينه وتستدرجه للتفاعل الإيجابي لفك شفرات النص من دون مصادرة حقه في التأويل. كما استخدمت علامات مسرحية ملموسة وسينوغرافية دينامية متحولة، تتيح لها التنقل بين أضلاع المثلث الدرامي المطروح والمتصارع أيضا. فهذه الشخصيات الثلاث أو أطراف العالم المهيمن المجتمعة لا تكف أبدا عن التصارع من أجل البقاء ، لكنها لا تقتل بشراسة حتى تصل لنتيجة ميلودرامية تؤدي بحياة الطرفين الآخرين نهائيا. فكل منهم يدرك جيدا أن وجوده المادي والمعنوي والفكري الرمزي مرهون من باب المفارقة الساخرة بوجود الآخرين، فإذا اختفى اللص فلن يجد العسكري من يطارده ويمارس موهبته السلطوية القمعية عليه باستمتاع وسادية. وقد استخدمت المخرجة والبطلة موتيفات مبسطة للتعبير عن التصارع بين الجميع، فكانت تتنقل بين الشخصيات بارتداء رداء رث فوق ملابس مهرج السيرك الموحية الذي يسيطر على الموقف ويعرف الجميع على حقيقتهم، مهما كانت معطيات الزيف من أصباغ وملابس ونوايا كاذبة; وربما يكون كل منهم مهرجاً على طريقته الخاصة. وعمدت إلى إضافة قطع الملابس المعلقة على الحائط والتخلص منها أمام المتفرجين الجالسين في مواجهة بعضهم البعض، كما أضافت أحيانا بعدا رابعا حينما كانت تتخذ أحيانا موقعها بين المتفرجين تنظر إليهم بتركيز أو تراقب معهم الفراغ المسرحي أو هذا العالم الاستعاري المصنوع المطروح بمغادرتها إياه. ثم نجدها تحرك الشخصيات الأخرى بخلاف التي تجسدها البطلة في هذه اللحظة، من واقع تجريدي متصارع إلى واقع ملموس باستخدام البطلة ألواحاً مربعة كبيرة مفرغة تعانقها وتراقصها وتمر من خلالها وتتركها معلقة في دلالة على وجود الآخر مهما كان مختبئا. ورغم أن تكنيك الإضاءة التي يغلب عليها حزمات اللون الداكنة الموحية وديكور رمزي بيومي وماكياج ناهد بهجت والإعداد الموسيقي محمد رمزي تفهموا مقصد الفكرة الرئيسية لهذا العرض، وتعاونوا جميعا بتقديم موتيفات تساعد على مرونة التنقل بين كافة الشخصيات والإيحاءات والدلالات بسلاسة بين المستوى التجريدي والفيزيقي المحسوس، لكن تتركز معاناة العرض في أربعة أشياء متضافرة والتشخيص المحض. أولا عدم توافق القدرة على التنفيذ والتوظيف وابتكار أدوات التوصيل رغم مرونة ورشاقة المؤدية، بما يتناسب مع قيمة الفكرة الأصلية كعنوان درامي مطروح في حد ذاته. ثانيا وقوع العرض في دائرة التغريب رغم إنسانية الصراع وشموليته، لكن الكلمات المنطوقة المصرية العامية لم تستطع انتزاع الجو العام للعرض ككل من عبق روح الغرب خاصة على مستوى التأليف والتوزيع الموسيقي. ثالثا وجود بعض مناطق التكرار أحيانا رغم قصر زمن العرض الذي يستمر حوالي خمس وثلاثين دقيقة فقط، كما أن اختيار اللحظة المناسبة لنهاية العرض لم تكن واضحة بما يكفي. حتى أن المتلقي لا يدرك داخليا الوصول لنقطة ملموسة لنهاية العرض، لو لم يتكفل أحدهم بالتصفيق بشكل متواصل معلنا حالة النهاية. أما العنصر الرابع والأخير فهو الذي يلخص لنا أسباب النقاط الثلاث السابقة، وهي سيطرة ريم حجاب بمفردها على كافة المقاليد الهامة والمهمات المسرحية الحيوية خاصة في منظور الرؤية، وعلى كيفية إخراج الفكرة بوضوح إلى حيز التنفيذ دون الاكتفاء بوضوحها داخليا أمام شاشة البطل والمخرج فقط لا غير; وذلك مع تقديرنا لرغبتها ومجهوداتها في تقديم عرض حركي مختلف عن السياق العام للمسرح المصري.

=