حكايات ترصد الفساد وتضع الشخصية الهامشية في متن المشهد

«الخراطين» لأسامة الفروي تتشبث بالمادة الواقعية وكأنها عين كاميرا

TT

يستقي كاتب القصة القصيرة مادته الخام مما يتيحه الواقع أمام حواسه الست ليصنع عجينته القصصية انطلاقا من وجهة نظره الفنية، سواء سجل هذا الواقع ووثقه، في قصة تسجيلية، على غرار الفيلم التسجيلي، أو أسبغ على مادته خيالا فنيا بهدف التغريب وخلق المزيد من المتعة والتشويق لدى قارئه.

على أن القص العربي قطع شوطا بعيدا في ارتياد مستويات حكائية جديدة ومبتكرة صار من الصعب القبول بما هو أدنى من المنجز القصصي الذي تحقق بفضل المغامرة الفنية الحديثة التي اتخذت مسارب متعددة ليس من السهل وضعها في سياق واحد محدد أو إطار صارم لا يمكن الخروج منه أو عليه وسط مواضعات ثابتة غير قابلة للاختراق والتجاوز.

مهما يكن من أمر فإن الكتابة القصصية، شأنها شأن أي فن آخر، قابلة هي الأخرى لأن ترود مساحات متعددة، في واقعيتها أو خياليتها، حسب ما تقتضيه قوانينها الداخلية من حيث المادة القصصية (الموضوع) واللغة السردية وإدارة الحوار والذكاء الخاص بنقل الهامش الى المتن أو تخصيص العام وتعميم الخاص، وهي قوانين مرنة أيضا تستند إلى مهارة القاص وتمكنه من أدواته الفنية ارتباطا بفنية القص وتقنياته الضرورية.

تتيح المجموعة القصصية «الخراطين» (*) الصادرة عن دار«الحوار» ـ سورية، قراءة لا تخرج عن الاحتمالات التي وردت قبل قليل، خصوصا لدرجة تشبثها بالمادة الواقعية مناخا وشخوصا ومشاهد، إلى الحد الذي يختار فيه مؤلفها أسامة الفروي «عين الكاميرا» وهو يرصد حكايات الشارع السوري ليذهب الى ما يقارب الواقعية النقدية في فضح رموز الفساد والتشوه والسطو العلني وخيبات المواطن العادي وهو يعيش حياته اليومية الشاقة بمواجهة أساطين المال والسلطة، عبر انحياز واضح لصف الفقراء والمهمشين ومكسوري الأحلام في بيئة عربية شديدة القسوة.

تسير شخصيات المجموعة نحو مصائر لم تخترها غالبا بل هي مرسومة لها مسبقا على أيدي أولئك الذين يديرون المجتمع، بشكل مباشر أو غير مباشر، وسواء من خلال سلطات متنوعة القدرة ومختلفة التأثير، سياسية أو إخلاقية أو تربوية، وهي شخصيات مجوّعة ومنتهكة ومصادرة خارج سياقها الاجتماعي الطبيعي، حتى بطموحاته الدنيا.

في قصته المعنونة «حبيبتي الغالية» وهي إحدى أجمل قصص المجموعة، يرصد الكاتب ذلك الطفل (رهيف) تلميذ الصف الخامس الإبتدائي شاردا بعيدا عن الدرس رغم محاولات الست (فدوى) لاستعادة انتباهه.

لقد كان رهيف يكتب شيئا في ورقة خاصة بعيدا عن الأنظار.

إنها قصة مكتوبة ببراءة طفولية معبرة تقول رسالتها عن الوحدة واليتم والفقدان.

بخلاف هذه القصة الشاعرية فإن قصة مثل «البلدوزر» تكشف بطريقة أراد لها الكاتب أن تكون رمزية عن مفارقة الجلاد والضحية في بيئة يحكمها القمع.

تبدأ القصة بـ«السيد» الذي يختار ذلك الشاب قوي البنية وطويل القامة ليجعله مرافقه الخاص، ويختار له اسما جديدا هو «البلدوزر» الذي ستتحدد مهمته لاحقا في ممارسة تعذيب الخصوم. في لحظة «لقاء مع العقل» وإثر وقوع عمه (الذي قام بتربيته ورعايته مع بقية أخوته) بين يديه كإحدى ضحايا سيده، يفقد أية قدرة على التفكير.

تنتهي القصة على الشكل التالي:

«أعاده إلى واقعه صوت سيده مزمجرا:

ـ انتظر يا بلدوزر حتى ابتعد عن المنطقة، ثم ارم ذلك النتن بعيدا، واحرق عربته.

حمل (نعيم ـ وهو اسم البلدوزر الحقيقي) عمه بين ذراعيه وأخذ يضمه إلى صدره، ويقبله ويشد من عزيمته، بينما كانت عيناه تحدقان في زرقة السماء». إن أية قراءة لهذه القصة ستتكشف عن آلية القمع وطريقة عملها اجتماعيا، وما الفارقة التي جعلت من العم ضحية لهذه الآلية إلا تعبير عن الخلل الأخلاقي الذي ينجم عن هذا القمع وتخريبه للقيم الإنسانية التي تشد البشر الى بعضهم في مجتمعات تتمتع بالحد الأدنى من السوية.

إن استعادة «البلدوزر» لاسمه الحقيقي (نعيم) إشارة الى استعادة الطابع الأصلي للشخصية وإعلان واضح عن تمردها على صفتها المستعارة كجلاد بأمرة السيد.

إن الكثير من حكايات «الخراطين» (40 قصة) تنطوي على أمثولات عيانية من أرض الحدث لا تخلو من الجرأة وهي تتعقب الظواهر المرضية في مجتمعاتنا العربية، حتى تلك الحكايات التي تعاني من خلل فني نتيجة وقوعها تحت تأثير الفوتوغرافية المباشرة، عندما يمحي الحد الفاصل بين الواقعية كأسلوب وطرقة السرد التقريرية التي نتمنى أن يلتفت إليها الكاتب من أجل تجاوزها في أعمال مقبلة أكثر نجاحا.

* الخراطين: ديدان حمر طوال توجد في الأرض الندية، لا مفرد لها(قاموس محيط المحيط) والهامش من وضع المؤلف.