التسامح والتعصب في فكر رواد عصر النهضة المجهضة

جمال الدين الأفغاني وتلاميذه تعصبوا وبدايات التساهل ظهرت في بلاد الشام مع فرح أنطون وأديب اسحق وأمين الريحاني

TT

لا تستطيع ان تفاخر بالتسامح ان كنت من ورثة عمرو بن كلثوم (الا لا يجهلن أحد علينا..... فنجهل فوق جهل الجاهلينا) والمصيبة ليست هنا فكل انسان يغضب اذا استغضب وتم استفزازه لكن لا يصل الى التشفي واجبار الناس على شرب الكدر والطين الا كل صاحب نفس شريرة. فان تشرب الماء الصافي هذا حق من حقوقك لكن ليس من بين هذه الحقوق ان تشمت بعذاب الآخرين وتفاخر بذلك.

ونشرب ان وردنا الماء صفوا

ويشرب غيرنا كدرا وطينا

ابن كلثوم خلاصة العنجهية العربية الأولى التي لم يكن فيها حفنة رأفة ولا ذرة تسامح، ومن الخطأ ان تتخذه نموذجا اثناء بحثك عن قيم التسامح والاخلاقيات الانسانية في الأدب العربي فهو ابن عصر الدم والجريمة والتوحش ووأد النساء والعصبية العمياء. لكن لا تظن انك ستغرف نماذج التسامح غرفا حين تتجاوز ذلك العصر فالامر ليس على هذا المنوال ولن يكون افضل كثيرا في ما يلي من عصور، لأن التسامح في الثقافة العربية لا يحمل ذات المعنى الذي اتفقت عليه البشرية واستقر في الاذهان.

التسامح في الفكر الغربي من المفاهيم والمصطلحات التي ولدت في عصور الاصلاح الديني التي اعقبت القرون الدموية الفظيعة حيث كانت خوزقة الانسان او حرقه بسبب المعتقد اسهل من شرب الماء الصافي فما بالك بالعكر؟

ولو عدت الى قاموس لاروس الفرنسي او دائرة المعارف البريطانية فسوف تجد مفهوم التسامح مرتبطا بالتعددية وقبول الاختلاف والسماح بحرية الرأي والمعتقد وعدم جواز العقوبة على ذلك في دولة المواطنة المدنية، في حين انك لو قصدت المعنى ذاته في معجم عربي فسوف تراه منصبا على ظاهرة الكرم والسخاء.

المنجد على سبيل المثال وهو خلاصة معاجم قديمة كثيرة لا يختلف فيه المعنى عما ذهب اليه ابن منظور في لسان العرب وغالبا ستجد صيغة المنجد التالية في مختلف المعاجم العربية: (سمح، سماحا، وسموحا، وسماحة وسموحة وسمحا صار من أهل الجود واسمحت قرونته أي ذلت نفسه واطاعته وتسامح في كذا تساهل فيه ولان) وخارج هذه التخريجات لن تجد المعنى الا في بيوت السماح الجلدية ورقصة السماح وهي ذات منشأ تصوفي.

ولأن اللغة لا تبيح ما هو أكثر من ذلك استخدم رجال عصر النهضة التسامح بمعنى التساهل مع ادراكهم للفروق في ظروف النشأة، ومع الوقت والتأثيرات الغربية علينا في كل شيء اختفى التساهل وصرنا جميعا نستخدم مصطلح التسامح مع معرفتنا باختلافه غربيا عما نعرفه عن التساهل بالمفهوم العربي.

* المذهب الحمداني

* يقول فرح انطون عن ذلك المصطلح (لا نقدر ان نعرف التساهل تعريفا لغويا لأن هذه الكلمة دخيلة في اللغة العصرية الجديدة وانما نعرف معناه باصطلاح الفلاسفة، فمعنى التساهل عندهم ان الانسان يجب ألا يدين أخاه الانسان لأن الدين علاقة خصوصية بين الخالق والمخلوق واذا كان الله سبحانه وتعالى يشرق شمسه على الصالحين والاشرار فيجب على الانسان ان يتشبه بذلك ولا يضيق على غيره لكون اعتقاده مخالفا لمعتقده).

وفرح انطون هنا لا يأتي بجديد انما يلخص التجربة البشرية على هذا الصعيد فأول رسالة معروفة عن التسامح في تاريخ البشرية تعود الى القرون الاولى للمسيحية وكاتبها (تيمستيوس الروماني) لم يكن مسيحيا لكنه مفكر حر هاله ما توقعه الدولة والكنيسة بالذين يخالفونهما الرأي فكتب رسالة الى الامبراطور يطالبه فيها بالغاء المراسيم التي تبيح اضطهاد المواطنين المخالفين:

(سلطان الحكومة لا يستطيع ان يؤثر في معتقدات الناس الدينية والرضوخ للحكومة في هذا الامر لا ينتج غير الرياء والنفاق لذا ينبغي افساح المجال لكل معتقد ومذهب فمن واجب الحكومة المدنية ان تحقق سعادة الأفراد جميعا سواء كانت عقيدة الفرد صحيحة او سقيمة ان الله نفسه ليبين لنا رغبته في ان يعبده الناس بوسائل شتى).

اما الترسيخ الحقيقي لمفهوم التسامح فهو وليد القرن السابع عشر ويؤرخ لذلك برسالة الفيلسوف البريطاني جون لوك عن التسامح الصادرة عام 1689 ثم بالتحسينات التي اضافها جان جاك روسو وعصر الانوار الفرنسي الى هذا المفهوم.

وكان الاخيران قد خالفا (هوبز ومكيافيللي) في القول بالطبيعة الشريرة للانسان فهوبز على سبيل المثال لا يختلف كثير عن عمرو بن كلثوم في العنجهية والشك والانانية وتبرير المنافع الذاتية الضيقة على مذهب شاعرنا الحمداني (اذا مت ظمآنا فلا نزل القطر).

وعند نقطة سماحة الروح يمكن ان يلتقي المصطلحان الشرقي والغربي فالمتسامح صاحب روح سمحة اصلا تحب وتتعاطف وترأف وتساعد وتغض الطرف عن اخطاء الاخرين وسفالاتهم وجان جاك روسو يبدأ في تطوير ذلك المفهوم انطلاقا من الرأفة فيقول في كتاب (اصل التفاوت بين الناس): (فمن المؤكد اذن ان الرأفة عاطفة طبيعية وانها اذ تحد في كل شخص من نشاط حبه لنفسه تساعد على تبادل حفظ بقاء النوع كله فهي التي تدفعنا الى ان نهب من غير ترو الى مساعدة من نراهم يعذبون وهي التي في حال الطبيعة تقوم مقام القوانين والاخلاق والفضيلة وهي في ذلك تنفرد بميزة ان لا أحد تسول له نفسه بأن يعصى نداء صوتها العذب وهي التي تصد كل متوحش قوي عن ان ينتزع من ولد ضعيف او شيخ عاجز القوت المكتسب بشق النفس).

وعندنا في تراثنا الكثير عن الرأفة لكن ـ وبكل أسف ـ ليس عندنا كمية وفيرة من تراث التسامح، فنحن ورثة ثقافة العصبية التي ظل رجال عصر النهضة الذين نسميهم مجازا متنورين ـ وبعضهم ليسوا كذلك - أقول ظلوا ينظرون للعصبية ويدافعون عنها بعد ترسخ مفاهيم التسامح الغربي بقرنين من الزمان.

من هؤلاء جمال الدين الافغاني الذي اغرق وتلاميذه (العروة الوثقى) بمقالات في الدفاع عن التعصب (التعصب قيام الدولة بالعصبية والعصبية من المصادر النسبية نسبة الى العصبة وهي قوم الرجل الذين يعززون قوته ويدفعون عنه الضيم والعداء فالتعصب وصف للنفس الانسانية تصدر عنه نهضة لحماية من يتصل بها والذود عن حقه ووجوه الاتصال تابعة لاحكام النفس في معلوماتها ومعارفها، هذا الوصف هو الذي شكل الله به الشعوب واقام بناء الامم وهو عقد الربط في كل أمة).

والمفارقة الجديرة بالتأمل ان معظم من كتبوا مطالبين بالتسامح في عصر النهضة العربي كانوا من الكتاب والمفكرين المسيحيين في حين دافع الطرف الاسلامي عن التعصب ـ بمعنى العصبية ـ وكان للشيخ محمد عبدو محاورات مع فرح انطون حول هذه المسألة فهل يكمن الجواب في ان المفكرين المسيحيين العرب كانوا اكثر التصاقا بالغرب وتمثلا لتجربته السياسية من المفكرين المسلمين؟

هذه فرضية لا تصمد كثيرا امام التحليل الدقيق فالشيخ محمد عبدو اقام في أوروبا وكان له مراسلات مع الليدي بلنت وصداقات مع غيرها وجمال الدين الافغاني أقام ردحا من الزمن في باريس وتنقل خارج التراب الفرنسي وكان له علاقة بامرأة ألمانية غامضة وكانت معرفته المباشرة بأوروبا لا بأس بها.

الارجح كما اظن ان المفكرين والكتاب المسلمين نظروا للعصبية بمعناها الديني كرابطة اسلامية وكان يصعب عليهم النظر الى التسامح من وجهة نظر الغربيين فالصراعات المذهبية في عالمهم الاسلامي حسمت من القرن الثاني الهجري واستقرت على حالها، ونخبهم التراثية المختلفة على بعض الاساسيات تجاوزت خلافاتها ووجدت في التقية مخرجا فأراحت واستراحت ولم تكلف المجتمع ضريبة جديدة من الدماء كما حصل بين الكاثوليك والبروتستانت في أوروبا وأميركا.

المفكرون والكتاب المسيحيون العرب الذين كتبوا عن التسامح (التساهل) اكثر من غيرهم لم يكن عندهم حرج في استلاف ذلك المفهوم من الغربيين فحين تقرأ مثلا مقالة في التعصب والتساهل للاديب الدمشقي اديب اسحق تعود الى عام 1874 تراها مليئة باستشهادات الكتاب (الفرنسيس).

ان هذا الكاتب الذي يعرفه العالم العربي ببيتيه الذائعين:

قتل امرئ في غابة

جريمة لا تغتفر

وقتل شعب كامل

مسألة فيها نظر

يشجع مبكرا على التسامح الذي يرى فيه خير الشعوب والأمم وطريق استقرارها، والجميل فيه انه يفرق بين تسامح الضعف الذي يستأسد اصحابه حين يمتلكون القوة والتسامح الطبيعي النابع عن قناعات ذاتية لا علاقة لها بالضعف والقوة:

(فلكم رأينا من فئة مستضعفين يطلبون التساهل ويدعون اليه بكل لسان ويثبتون له الوجوب من كل الوجوه فلما ان قامت دولتهم وقويت شوكتهم وصار اليهم الامر والقوة كانوا من الغلاة المتعصبين وهذه تواريخ العقائد الدينية والمذاهب الفلسفية والطرائق السياسية فيما تعاقب عليها من القوة والضعف والقبول والرفض شاهدة بصحة ما اقول ولا يقف النظر على صفحة منها الا رأى المتساهل في ضعفه متعصبا يوم قوته والمتلاين في حال خسفه متشددا في دولته ولذلك لم يرض الحكماء من التساهل بان يكون صادرا من اللسان مراعاة لاحكام الضرورة او من عاطفة القلب ميلا الى المعاملة بالاحسان بل أوجبوا فيه الاعتقاد بتحتمه على الانسان).

اذن تسامح الضعف وتسامح التقية وتسامح المباهاة وتسامح عدم الاكتراث واللامبالاة ليس فيها كلها ما يكفي للدعوة لترويجها، فهل يظل عندنا الكثير من انواع التسامح في العالم العربي اذا استبعدنا هذه الانواع عملا بتفسيرات اديب اسحق لعقيدة التسامح عند حكماء الزمان؟

* مفاتيح اليونسكو

* يجب ألا نخجل من الاعتراف بأن حظنا من التسامح الفكري قليل حتى في عصر نهضتنا القصيرة المجهضة فنحن ايضا أمة احرقت الكتب وسجنت الكتاب وشوتهم بالنيران وخنقت قسما منهم وتركت بعضهم يتعفنون في السجون، وما يزال هذا التقليد من التقاليد الجارية والمعمول بها الى يومنا هذا. فأول ما يغضب الحاكم يضع الكتاب والمفكرين بالسجون فرادى وجماعات كما فعل الرئيس السادات صاحب عبارة ـ دا انا حافرمهم فرم ـ التي تدل لوحدها على طبيعة التسامح السياسي العربي الحديث الذي ظل كالقديم يمارس في أضيق الحدود حسب شخصية الحاكم وتنورها او تجبرها وتفرمها.

وحتى لا ننسب الفضائل كلها للغرب على هذا الصعيد يستحسن ألا ننسى انهم ايضا وفي عصور التسامح والتنوير وجدوا من يحتقر التسامح ويراه صنوا للاستبداد كالمفكر توماس بين الذي قال في كتاب عن حقوق الانسان: (ليس التسامح عكس اللاتسامح وانما هو تلفيق له وكلاهما تحكم واستبداد فان احدهما يزعم لنفسه حق منع حرية الضمير والثاني يزعم لنفسه حق منحها).

وليس العيب ان يكون حظ تراثنا من التسامح قليلا انما العيب في ان لا نطور ماهو موجود منه وندفع به الى آفاق جديدة تقتضيها طبيعة العصر الذي صار التسامح نظريا جزءا من ثقافته وممارسته وصار تقريبا يدخل في كل عقد سياسي او اجتماعي. فمنظمة اليونسكو في رسالتها عن التسامح تراه اكثر من ضروري لسير عجلة الحياة فهو مفتاح التعددية والحقوق والحريات وهو اساس كل الاتفاقيات الدولية التي تدعو الى احترام التنوع والاختلاف في الاراء والعقائد والسياسات، يضاف الى ذلك كله تسامح من نوع جديد تجاه الحيوان والبيئة.

وقد وجد هذا المنحى في فكرنا العربي اوائل القرن الماضي على يد أمين الريحاني في رسالة وجهها الى (الاحباء السوريون) عام 1900 قبل ان ينفصل لبنان عن سورية طبعا وفيها يرى التساهل ـ التسامح اساس التمدن واصل التقدم والرقي ومنبع الافكار الخلاقة وقد قام ذلك الأديب لاقناع قومه بما يقول بجمع ما جاء في القرآن والانجيل عن التسامح فقال عن ذلك:

(التساهل معنى اصيل لا ينكره الانجيل ولا القرآن (من لطمك على خدك الأيمن فحول له الايسر، ومن اراد ان يخاصمك ويأخذ ثوبك فدع له رداءك ايضا، ومن سخرك ميلا فسر معه اثنين) وكما قال بطرس الرسول: ان الله لا يحابي بالوجوه فكل رجل من أية أمة كان يصنع الخير ويكره الشر فهو مقبول عند الله).

ومن القرآن الكريم اختار الريحاني قوله تعالى من سورة البقرة (ان الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ثم اختار ايضا (لا تجادلوا أهل الكتاب الا بالتي هي أحسن) من سورة العنكبوت وهذا الموقف ـ ان تختار آيات التسامح من كتاب ديانة اخرى ـ خطوة تدل على تساهل حقيقي لا تشوبه عصبية فجميع أهل الافكار النيرة يجدون قواسم مشتركة وارضية موحدة يقفون عليها رغم خلافاتهم، والانجليز يقولون في امثالهم ان العقول الكبيرة تفكر باسلوب متشابه.

هذا هو التسامح الذي لن نتقدم خطوة ان لم نأخذ بأسبابه الحقيقية دون ضعف او تقية فهل نحن جاهزون؟

خياراتنا ليست كثيرة فهذا عصر لا نستطيع فيه ان نستسهل ونواصل كلثومياتنا بالتفاخر بالجهل فوق جهل الجاهلينا فقد جهلنا بما فيه الكفاية وحان الوقت لنعيد النظر في سلوكيات التعصب التي تحكمنا اجتماعيا وسياسيا وثقافيا الى اليوم رغم كل ما ندعي ونرفع من شعارات التقدم والترقي والتحضر والتعددية.