اللواء لا يتنازل عن كبريائه

TT

كان على اللواء نوفل التنازل عن كبريائه والاعتراف لنفسه في الأقل بأن الخوف تغلب عليه في الأيام الأخيرة، يركن إلى التفكير في وسائل تنجيه من مخاطر تتكاثر وتستعر، منذ أيام تخلص ليس من غير اثر من ضنك السجن والهوان بمعتقل كروبر المرمي تحت سماء المطار الملبدة بالسخط والغضب، والآن يجابه وخز الضغينة والشكوك من الشباب والرجال الملتفين حول إمام المسجد، بل كثرة من سكان الديرة التي كان يظنها ديرته حقا وتبدت غريبة أو مريبة، مرمية هي الأخرى لكن خارج حدود الزمان وما يجري في المكان من تقلبات تقول دنياهم تغيرت حقا، ولسوف تتغير أكثر في أي اتجاه لكن ليس عودة إلى ما كان. فما بالهم لا يفهمون، لا يتركون المتعب والعائلة الصغيرة تستمتع في ظله بالراحة والأمان. كان سابقا يشكر ويحمد رغم اكفهرار الأيام لميلاده على هذه البقعة من الأرض قرب الفرات، الآن يلعن ويشتم بقاءه عليها رغم أنفه وقت تبسم الشمس بين السحب. بعضهم في المضيف قال ان لعنة نزلت على ديارنا وحيث نسكن ونفتخر لو اكتفوا بتسميتها مثلث برمودا، لكن انظر، المثلث السني، بل ماذا بقي من مسميات الخوف لم يطلقوا عليها، مثلث الموت، مثلث الرعب، براري الهنود الحمر، مثلث المقاومة، وربما مثلث الجن، الأنكى أن هذه الديرة على حدود المثلث الجنوبية، يأتيها الخطر صاعدا نازلا، من داخله ومن خارجه، من المقاومين ومن الموالين للسلطة المؤقتة بأنواع متنوعة، ولو كان خوف نوفل كخوف أهل الديرة من دهم ووهم هان وزال، لكنه خوف خفي، من نوع جديد، خاص، يتصاعد من أعماق متوحد بين جماعته، يطغى على أفكاره وحواره حتى ليغدو معهم في النهاية حوار طرشان. لكن، ما دام اللواء نوفل قرر وانتهى التخلي عن كبريائه، ولو مؤقتا، أمام زوجته وابنته حاليا، متخففا بهذا قليلا من عبء الكبرياء أوقات الشدة، تخلصت شاشة أفكاره من ألوانها القاتمة، غدت بيضاء جاهزة للعرض والرسم، خطط وتحصينات غاية في السهولة أو التعقيد. لو حضر السادة في دشاديشهم السوداء إلى بابه يتهمونه بانتمائه إلى الماضي ترك زوجته أمل ورغبتها في شد الربطة حول رأسها منذ السقوط تقابلهم وترد على أسئلتهم. ولو جاء الأمريكان أو الأحرار أو الحمر أو السمر ما أدراه مَن بعدهم يسألون عنه ترك ابنته فرح تحقق رغبتها في البقاء فارعة منذ إطلاق سراحه تستقبلهم وترد على أسئلتهم التي لا تنتهي حتى بالقصائد، بل لتلبس أمامهم القلائد، حسبه لا يحالفه الحظ فتخرج أمل محجبة تستقبل المتحررين والمحررين، وفرح سافرة للمتدينين والدينيين، هكذا يكون ما يريد اجتنابه أكبر، ممن كانوا يجهلونه وعرفوه في النهاية، وممن كانوا يعرفونه، والآن ليتهم يجهلونه، جهله نوايا هؤلاء وأولئك. إيه، ضد عدو مرئي أمكنه الدفاع بتوزيع الاتباع، لكن سماء الليل هنا حين يجن تجعله يرى السحب عفاريت زاحفة إلى بيته لابتلاعه، تارة وضعت عمائم على رؤوسها وعلى صدورها التمائم، وتارة خوذا أو قبعات وبالأيدي حملت جماجمهم غنائم، فرح ابنتي كفي عن كتابة الشعر في هذا الوقت، يستدعي شياطين عبقر ومن مكان كان أمس في الغبار غائرا، ما آمنت بهم يوما لكن دعينا نقلم الأخيلة، نختصر الهم والغم، ونقابل الخطر الكامن بتدبير مكين.

ممزق بين عقله وأهله، بين ابنته وزوجته، بين حاضره وماضيه، بين الأمل والخوف، فكيف لا يرى السحب عفاريت، وخراعات الخضرة إذ يعود في الليل من المضيف إلى مزرعته غادرين تربصوا له بين الزرع والشجر، يصبح الصبح يتبين وهمه في حقيقته، يكاد يضحك، ويزوره أخوه وأتباعه وابنه بشير، معهم نصف درزن من شباب الديرة حقا، كما وعدوه وهددوه، هيا، قالوا، لتختر فرح رجلا منهم. ذلك الحين لم تتبد مخاوفه أوهاما، ولا كل أوهامه فراغا. عفاريتك نزلت من السماء إلى الأرض، احتجت ابنته، لا أطيق هذه الديرة ومَن فيها، صاحت هاربة إلى الطابق الثاني، لم تنشف دموع فرحتي من الانتقام لي بقصف ذلك الرذيل وأخيه، وها جاء أقاربك، لارتكاب عين الجريمة بأسلوب أنعم، لا أريد اختيار أحد من هذه الديرة حتى لو كان آلان ديلون أو راد بيت، دعوني وشأني. يا ابنتي تعالي وتكلمي معهم، اعتبريهم مخرفين أو أسوأ، لن نخسر شيئا، ندفع عنا إلحاحا واتهامات ثقيلة. لم ينفع معها رجاء ولا طلب أو زجر. المنتظرون وأخوه في الغرفة الكبيرة واثقون، إن لم ترتدع البنت بالحسنى لديهم وسائل أنجع. خوف اللواء نوفل وحيرته في مواجهة التمرد الصغير في بيته أكبر من مخاوف جابهها في ساحات حرب، حقيقة لم يعد يعرف كيف يتصرف، أين وكيف يسير بعد خروجه من قيافته القديمة، سلطاته القديمة المستعارة انهارت نعم، عليه للبقاء حيا كإنسان لا حيوان، البحث عن مصادر سلطة جديدة، قد يجدها في نفسه، في حجته، في فهمه الصحيح لما يراد منه وما يريد، دون نبذ المناورة طبعا من خياراته، لكن ابنته بالعناد والرفض لا تترك لهم منها سوى الإصرار على ما اعتادوا عليه، على فرض الكلمة بالقوة. وآثر الاكتفاء بالمشاهدة حاليا، مرجئا استخدام ما استجمع من قوة من آبار ذاكرته شبه المعطوبة إلى اللحظة الأخيرة. استسلم لعناد أخيه الكبير. وقف إلى جانبه. أمر فرح بالنزول والمثول بين أيديهم. جاءت تكبت غيظا وغضبا محدقة في الأرض، خشية انفجار ربما في وجوههم لو التقت العيون. رمى أخوه غضبان طرف عباءته تحت إبطه وأغلق باب الغرفة الكبيرة بالمزلاج، وصاح شاقا الصمت المهيمن على الشباب في دشاديشهم البيضاء المصطفين على التخت أمامها، اسمعي يا بنت أخوي، لا طلعة لك من هذه الغرفة قبل اختيار واحد من هؤلاء السباع، هذه المرة لا مناص ولا خلاص من الاختيار، وإلاّ اخترنا لك بأنفسنا، المرة السابقة عَدّت، هذه لا.

لم ينفعها البكاء ولا الصياح. عرض العشيرة غال أغلى من كل النسوان والشبان. إما القبول بالموجود أو النفي بسكين أو طلقة من هذا الوجود. الأجنبي القريب أو البعيد لن يكون نصيبكِ، خلي هذا في علمك اليقين. رفعت فرح عينيها نحو بشير، لعله يفهم ويهب إلى نجدتها، الحاضرون فهموا اختارت وتم الرضى، قال كبيرهم انتهينا، لها من الملابس الجديدة والحلي ما تريد، لتعد نفسها، نجري العقد بمشيئة الله بأسرع وقت، الدخلة بعده مباشرة، حفلة العرس نجعلها مشهودة لكل الأخيار من كل الديار، أغانيها وطبلها دعوه داويا من الفرات إلى دجلة، الفرحة فرحتان بل ثلاث فرحات، زواج الابنة والابن وإطلاق سراح اللواء، هكذا نرمي الرماد أيضا في عيون الحاسدين والشكاكين والشامتين، نجعلها مناسبة لا تنسى لتجديد العزم والحزم في الذود عن عشيرتنا، عن أبنائها وبناتها ومجدها بهم. فكر نوفل في الاعتراض، دون طائل، كان يعرف معناه ومجراه الذي يفتح دربا لسيل لا يسد لخصام ودم وسقام، بينما أكد لهم سكوته، علامة رضاه، أن انتماءه ما زال لهم، هذا مرغوب، بل مطلوب، لا بل بدت فرح أيضا أنها استسلمت لنصيبها طالما يبعد عن أبيها نزوات التطاول عليه ويشغله عن الهم الذي فيه بهموم أخرى اقل وطأة.

قبل خروجهم تشاور غضبان مع أخيه مستغربا اكتراءه حارسا غريبا لبيته وشباب العشيرة يملأون الديرة. مدح نوفل حارسه علي وقال لا يكلفني غير طعامه وكسوته، في المقابل يستطيع والأهل النوم مع وجوده قربهم قرير العين. مضى غضبان واتباعه بعد تعيين أحدهم مساعدا للحارس مرتاحا لتوصله إلى حل مشكلة عويصة كانت تقض مضجعه، مؤجلا تسريح الغريب وربما بالحسنى حتى تتم دخلة ابنه على ابنة عمه، متمتما في عبه دافعا حاشيتي عباءته إلى جانبيه أثناء سيره: ساقية من نهر العشيرة تضع ماءها في أرض غريبة تضعفه، مَن يقول غير هذا فليأت ويحاسبني. في الطريق إلى المضيف أنزل كفه باعتزاز على ظهر ابنه بشير، كان يسير بجواره مبتسما طول الوقت، أهاب به، أريدك ان تبيض وجهي ليلة الدخلة، ما أقل من عشر صواب، خلي أهالي الديار حولنا يفورون من الحسد والغيرة. وضع بشير يده على صدره يعده بأن ما سيحدث في الليلة المنتظرة عجائب لم يسمع عنها أحد من قبل، بل وقبلها يقوم بعملية صغيرة أو كبيرة لا يهم، المهم سوف يسمع الناس دويها ويعرفون أي منقلب ينقلب الظالمون.

ذلك اليوم والذي تلاه بكت فرح ضحى وظهرا وعصرا، في لحظة انتباه فريدة في اليوم الثالث تبين أبوها أنه لم يرها منذ أمس، سأل أمها عنها، لا تريد رؤية أحد، أين هي؟ لم تعد تجلس في مكان واحد. بحث عنها في المزرعة، أرسل مَن يستدعيها من بيت الحريم لو كانت فيه، طاف بالبستان وحول بعض البيوت، أخيرا أخبره حارسه: هي في المنضد. ماذا تفعل هناك؟ لا أدري حملت لها الطعام إلى هناك ولم تقربه. دفع نوفل بابه الثقيل الكبير، عاط كجئير حيوان ذبيح، أكياس الحبوب مكدسة الواحد على الآخر حتى السقف، دفع حجارة بين الباب والعتبة، ترك شقا للنور، الرائحة تكاد تكون خانقة، لم تكن هناك، بحث عنها بين أكداس الأكياس، ناداها بحنان، وراء المنعطف وجدها جالسة على كيس صامتة،

* كاتب عراقي، والمنشور فصل من رواية تصدر قريبا عن عراق ما بعد صدام حسين