عبد الله الغذّامي: كثيرون اتبعوا من قاد الهجوم علي واكتفوا بقراءة عناوين اتهاماته ولم يقرأوا ما كتبته

الباحث السعودي قال لـ«الشرق الأوسط» حول كتابه المثير «حكاية الحداثة في السعودية»: أنصح الذين اعترضوا على الكتاب أن يعيدوا قراءة عنوانه

TT

أثار كتاب «حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية» للدكتور عبد الله الغذّامي، حتى قبل وصوله إلى منافذ بيع الكتب في السعودية، عاصفة من النقد لم تهدأ، ولا يبدو أنها ستفعل، فقد هاجمه الجميع من دون استثناء هذه المرة.

فاعتبر المحافظون الكتاب هجمة جديدة على المكونات الثقافية الأصيلة ومحاولة لتقديم قراءة غير موضوعية للتاريخ تهدف إلى جعل الحداثة أصلاً في المجتمع السعودي، فيما اعتبر الحداثيون ممارسة الغذّامي محاولة مكشوفة للاستئثار بكل الأدوار، وممارسة الانتقائية، وتجاهل كل المشاريع الحداثية المصاحبة، وإقصاء كل شركاء المشروع.

«الشرق الاوسط» تفتح هنا حواراً شاملاً مع الغذّامي حول الكتاب، في محاولة لاستجلاء دوافع الأكاديمي السعودي لاختيار الحكاية عوضاً عن المنهج العلمي، وللتعرف على كيفية انتقائه لأحداث حكايته، والأسس التي اعتمد عليها في تصنيف شخوص الحكاية، والتوقف معه عند بعض مواقفه المسجلة في الكتاب تجاه قضايا مثل توطين البدو والطفرة، وإلى ذلك أسباب تمحور الموجة الثالثة من الحداثة حول كتابه «الخطيئة والتكفير».

وفي ما يلي حوار معه حول هذه الموضوعات:

* يعاني كتاب «حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية» من إشكالية منهجية، حيث خلا من الإحالات العلمية إلى المراجع والوثائق، كما لم يعتمد احد الأساليب العلمية في تقييم الحداثة في السعودية. بعد هذا هل يمكن أن يعتبر هذا الكتاب إضافة إلى مشروعك الثقافي؟

ـ صحيح، ملاحظتك في موضعها، هذا الكتاب من ناحية المشروع هو تنويع عليه، أو هو صورة من صور التحايل، لأننا أمام تغير جذري في طريقة استقبال القارئ اليوم في العالم كله للمنتج الثقافي، حيث بات المثقف الجاد محتاجا لإعمال الكثير من الحيل للوصول إلى الجماهير، وإحدى هذه الحيل استخدام أسلوب له طابع جماهيري، وإذا لم تلجأ إلى هذا فإن تزاحم الصيغ على أعين الناس وأسماعهم تجعل من الصيغة الأكاديمية التقليدية عائقاً أمام رواج وانتشار ـ وبالتالي وصول ـ الخطاب.

وأنا حاولت في «الخطيئة والتكفير» أنا أقرّب النظرية للقارئ، كما عمدت إلى وضع أكثر من كتاب وفق صيغة بعيدة عن الصيغ الأكاديمية مثل «ثقافة الأسئلة»، «رحلة إلى جمهورية النظرية» و«حكاية سحّارة».

كما أنني اعتقد أن غياب قدرة الكاتب على مفاجأة القارئ هي نهاية للكاتب، لذا فإن أسلوب هذا الكتاب مفاجئ للقارئ، لكن بطبيعة الحال الأسلوب ليس مقصوداً لذاته.

إذن فهذا التنويع مطلوب ومقصود ومبرر لأنني هنا اروي حكاية، والحكاية لا مكان فيها للمنهج العلمي وإنما للغرائبية وللدلالة الرمزية، إذ مكونات مادة هذا الكتاب هي أحاديث وإشارات صحافية ونحو ذلك من معطيات الثقافة الشعبية، لذا فالحكاية أكثر ملاءمة من المنهج العلمي.

* مزجت في الكتاب بين الاجتماعي والأدبي، ألم يكن من الأجدى أن تميز الحداثة الاجتماعية عن الأدبية فتجعل كل واحدة في كتاب مستقل، أو على الأقل في قسم مستقل؟

ـ أنا اعتقد أن هذا المزج كان ضرورياً، لأن المشكلة الرئيسة في تلقي الحداثة في المملكة هو السماح للتصور العام بالاعتقاد أن الحداثة أمر ينحصر في الشعر والأدب، ولذا تحدث البعض عن نهاية الحداثة، إلا أن الواقع أن الحداثة الحقيقية تمس كل الأنساق الذهنية، الفلسفية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية والإبداعية، أي أن النسق الإبداعي هو جزء من ميادين الحداثة، ومن هنا فإن حكاية الحداثة هي حكاية الصراع بين التحديث والمحافظة في كل هذه الأنساق، لذا فان الفصل متعذر في تقديري.

* عرّفت الحداثة بأنها التجديد الواعي، وأنا أرى أن هذا ليس تعريفاً يجمع ويمنع، وإنما هو شرط. أي انك لم تقدّم حداً يفصل الحداثة عن سواها من خلال تعبير التجديد الواعي، بل يعود كل شيء والحالة هذه مجالاً للحداثة. ما هو تعليقك؟

ـ نعم هذا صحيح، هذه الملاحظة سليمة تماماً، فكل شيء حداثة، كل مسيرة الإنسان هي مشاريع حداثية.

أما التعريف المنطقي الجامع المانع الذي تطلبه هو في الواقع غير موجود في أي مكان في العالم، ليس هناك إجماع على تعريف الحداثة، نحن هنا أمام حالة ثقافية ولسنا أمام مصطلح دقيق مثل السريالية أو الوجودية.

وهذا الاختلاف هو ما دعاني إلى إحاطة القارئ بتعريفي للحداثة على أنها التجديد الواعي، لكي أمهّد للقارئ أن كل ما سيأتيه من حكايات ضمن هذا الكتاب سيجمع بينها عامل مشترك هو التجديد الواعي، بمعنى أنها تجديد مفارق للنسق، وفي الوقت نفسه يكون تجديد يحتمل سؤال المستقبل ولا يكتفي بسؤال الحاضر، فالطفرة مثلاً كانت تجديداً والتزمت بسؤال الحاضر ولكنها لم تكن معنية بسؤال المستقبل، ولذلك كانت الطفرة حداثة شكلانية، فهي تجديد ولكنها تفتقر إلى الوعي.

* ظاهرة إيجابية

* استنادا إلى تعريفك للحداثة، هل هذا يعني أننا أمام ظاهرة ايجابية بالمطلق؟

ـ إذا توفر الشرطان معاً نعم، فأنت هنا أمام مشروع بناء لا هدم، مشروع لتغيير الظرف الإنساني الحالي والمستقبلي نحو الأفضل.

* ولكن على مستوى التجربة الممتدة تاريخياً وجغرافياً للحداثة هي عززت، ما لم أقل أنتجت، جملة من السلبيات مثل الجوع والمرض والفقر والحروب. فهل هذا معناه أن كل تجارب الحداثة إلى الآن لم تكن تجديداً واعياً؟

ـ لا أبداً، كانت تجديداً واعياً، لكنك أيضاً أمام ظاهرة بشرية، بالتأكيد لم تسع الحداثة إلى تعزيز ـ أو إنتاج ـ السلبيات التي أشرت إليها، ولكن هذا وضع طبيعي مثل صناعة الدواء، فالأصل أن الدواء يصنع ليساعد المريض ومع ذلك ثمة آثار جانبية للدواء.

فالحداثة أنتجت الكثير من التقدم العلمي والفكري والتقني والإبداعي، ولو نظرنا من البداية إلى السلبيات لما أحدثنا أي تقدم، ومن هنا فالظواهر البشرية تحتاج إلى تفهم حسابات الخسائر في إطار الربح الإجمالي، ومن هنا أتت مرحلة ما بعد الحداثة، وهي مرحلة محاسبة للحداثة وليست إلغاء لها.

لو حدث هذا عندنا في الفكر العربي لتقدمنا كثيراً، لكن طغيان السلبيات لدينا أعاق كثيراً من مشاريع التقدم والحداثة في العالم العربي، وخذ مثلاً الثورة التي هي في أساسها خطوة تقدمية ومشروع حداثي، إلا أن اختزالها في الانقلاب العسكري وانتهاز الفرصة للاستيلاء على السلطة وممارسة القمع والسرقة جعلها تجديداً غير واع، وبالتالي عادت حداثة شكلية، مع رجعية المضمون. وهكذا يمكننا تفسير موقف مثقف مثل الشاعر الجواهري الذي كان يبكي في آخر أيامه على النظام الملكي الذي كان هو شخصياً احد اكبر أعدائه.

* إذا كان مشروع الحداثة وجد مقاومة كبيرة كتلك التي وصفتها في الحكاية، ألست متوجساً من فشل «ما بعد الحداثة» أيضا؟

ـ بلى، ذلك أن النسق المحافظ لا يزال متمكناً منا، نحن العرب وليس فقط السعوديين، مهما بدا علينا من المظاهر الحداثة والنهضوية، وخذ مثالاً الحرب الأهلية في لبنان حيث سقطت كل الاعتبارات الحضارية من الديمقراطية المبكرة والحرية الإعلامية والاتصال مع العالم والمكانة الثقافية أمام الاعتبار الجاهلي الذي أدى إلى الاقتتال.

ومن هنا فإن النسق المحافظ دائماً ينتصر في حال المواجهة، وهو الأقدر على تجنيد كل الفضاء لمصلحته، لكن هذا لا يعني التوقف عن التفكير والأسئلة، حيث أن مشروع النقد الثقافي يسائل النسق ولا يكتفي بالتأريخ له أو لشخوص المرحلة، وهذا يقود إلى أن ممارسة النقد الثقافي يمكن أن تكون طريقاً صحيحة للنهوض بمشروع حداثي لأنه يكشف النسق الذهني للمحافظة.

فالحرب التي يشنها النسق على الحداثة لم تحدث مع التنمية، مع أن الحداثة والتنمية شيء واحد، لكن الذي جعل النسق المحافظ لم يستفز لمواجهة التنمية لأنه يظن أنها مشروع مواز للمحافظة، إذ هي مجرد تطوير وسائل، بينما الحداثة هي تطوير للذهن، لذلك اعتبر أن استبدال الجمل بالسيارة تنمية، واعتبر أن التجديد في الشعر حداثة، إذن بالنسبة للنسق المحافظ التنمية تعني تطوير الوسائل، والحداثة تعني تطوير الأفكار، وبالتالي فقد قبل التنمية ورفض الحداثة.

بينما الحقيقة أنه لا يمكن فصل الحداثة عن التنمية، فلا يمكن أن تسكن في فيلا مجهزة بأحدث أنظمة الإضاءة وأرقى أشكال الديكور وأنت تفكر داخلها تفكيراً عشائرياً، هذا معناه انك استبدلت الخيمة بالفيلا من دون أن تفهم أن ما حدث هو تطور نسقي وليست مجرد انتقال نوعي، وكما ذكرت في الحكاية أن الشوارع عندنا أعدت للسيارات، فهي وسيلة جهزت لوسيلة، وليست مكانا معدا لتنمية الإنسان، فنحن قبل التطور العمراني كنا نملك علاقة إنسانية مع بيوت الطين والأزقة، وتمت إزاحة تلك العلاقة ولم يوجد لها بديل، حيث لا نملك الآن علاقة إنسانية مع ناطحات السحاب والشوارع الحديثة.

* المعنى الاصلي

* التطور الذي حدث بفعل الطفرة كان تجاوزاً للنسق الساكن وتحولاً عنه، إلا انك جعلت من الطفرة ظاهرة سلبية، ألا تعتقد أن في هذا تراجعاً عن الموقف الحداثي الذي تتبناه؟

ـ بداية لا أصنف نظرتي للطفرة على أنها سلبية، وإنما نظرتي هي محاولة لتطبيق المعنى الأصلي للحداثة، إذ ان الحداثة تجديد واع في النسق الذهني وليست تحديثاً على مستوى الوسائل، كان من المفترض أن تؤدي حداثة الوسائل إلى حداثة ذهنية، وطالما أن ذلك لم يحدث في «الطفرة» فهذا معناه أن خللاً ما قد حدث ومنع جعلها تغييراً جذرياً، فهي أنتجت شوارع واسعة ووسائل نقل أسرع وبنايات فخمة ومكنّت الإنسان من الاتصال بالعالم، لكن الخلل كان عائداً إلى استخدامنا لليد الأجنبية في إنجاز الطفرة، فلو أننا اعتمدنا في إنجازها على الأيدي السعودية ربما حققنا طفرة علمية وتقنية تفوق ما تحقق في ماليزيا أو كوريا الجنوبية.

فما قدمته الطفرة لنا هو تغير ضخم على مستوى الشكل، من دون أن تنجح في تحقيق أي تغيير جوهري، فالعامل والبنّاء والفلاّح والراعي الذين كانوا يشكلون الجانب البشري في عملية الإنتاج المحلي، اختفوا مع بداية الطفرة، وتحولوا إلى سادة، بينما شكّل الأجنبي عنصر الإنتاج الجديد، فهو السائق وهي الخادمة، وهو العامل والمزارع البنّاء ومسؤول الدعاية والإعلان والمهندس والخبير وغير ذلك من المهن الجديدة.

فصنع هذه فجوة بين مجتمع ما قبل الطفرة الذي كان يتولى إنتاج حاجاته بنفسه، ومجتمع الطفرة الذي يعتمد كلياً على الآخر في إنتاج حاجاته، وقاد هذا إلى جعل مجتمعنا اليوم في لحظة دوران ذهني، فلا نحن قادرون على العودة إلى مجتمع ما قبل الطفرة، ولا نحن أسسنا لمجتمع ما بعد الطفرة.

وخلاصة قولي هنا أن تفصيلات الطفرة ومفرداتها متفاوتة ففي بعضها الكثير من الايجابيات مثل تدفق البعثات وتطور الجامعات ومأسسة الإعلام وتوفر أجواء اتصال واسعة مع العالم، ولكن في المحصلة النهائية ليست النتيجة ايجابية مع الأسف.

* أشرت إلى مواقف للملك عبد العزيز معتبراً أنها تمثل نواة حداثية، وهنا لي سؤالان الأول ألا تعتقد أن الكثير من المثقفين يلجأون إلى ذات الرمز التاريخي في محاولة لتأصيل نسقهم أو ما يدعون إليه، فكما تشير أنت (الحداثي) إلى مواقف هذا الرمز فثمة محافظون يمكن أن يستندوا إلى مواقف أخرى في سيرة المؤسس للتأكيد على أصالة النسق المحافظ؟

إلى ذلك كلنا نعلم أن الملك عبد العزيز كان قائداً سياسياً وتاريخياً، ومؤسساً لدولة. ولكن في مسألة تفسير بعض مواقفه بأنها حداثية أتساءل هل يمكن اعتبار ذلك وصفاً دقيقاً؟

ـ الرمز السياسي أو التاريخي ليس في الأصل مفسراً، فالتفسير خطاب في الثقافة والفكر لا في السياسة والتاريخ، وأي ظاهرة تفسر نفسها ليست بحاجة إلى من يفسر، وإذا كان ثمة ظاهرة أدت إلى تغيير النسق فهي تكون جملة ثقافية، لذا يهتم النقد الثقافي بإبرازها وربطها بالتغيير النسقي الذي أنتجته، والجملة الثقافية هي الحدث الرمز الذي يفسر ما عداه إذا نجحنا في استقرائه وتحليله، وهي دائماً أحداث مضمرة، فلو كانت بارزة لصارت عنواناً لا مجرد جملة.

بينما الأحداث الكبرى في الغالب لا تملك دلالة رمزية مثل التي تملكها بعض الأحداث العادية، أما مسألة التفسير الحداثي الذي قدمته في الكتاب فهو إضافة نوعية، وهذا هو الجديد. فموضوع توطين البدو مثلاً هو تغيير اثر في النسق الاقتصادي والفكري، فلم يكن لدى البدو علاقة بالمكان ولا بالمستقبل لأن المكان مؤقت، والوجود مؤقت، بينما أدى توطينهم في (الهجر ـ جمع هجرة) إلى إنشاء علاقة مع المكان، وكذلك المستقبل، فلم يعد البدوي ينتظر المطر ويسعى إلى مكان هطوله، وإنما صار يحفر بئراً في مكانه ليأتي إليه الماء، كما أنه صار يزرع ليأكل بعد أربعة اشهر في علاقة أخرى مكانية وزمانية.

مثلما أن توطين البدو كان معناه إدخال مصطلح الوطن إلى الذاكرة المحلية، من خلال ترسيخ هذا المعنى لدى البدو الرحل، مما سيقود إلى انتشاره لدى غيرهم من باب أولى، وعلى هذا يمكن قياس المواقف الأخرى المشار إليها في الكتاب.

* قدّمت مواقف الملك عبد العزيز على أنها بداية للحداثة في المملكة، أليس ثمة نقاط أبعد مثل معاهدة الدرعية؟

ـ لا، أنا هنا حددت الإطار الزماني والمكاني حين وضعت عنوان الكتاب، فالمملكة العربية السعودية ـ بهذا الاسم ـ دولة أسسها الملك عبد العزيز، وهذا لا يمنع أن يأتي غيري فيتحدث عن الحداثة منذ بداية الدولة السعودية الأولى، أو حتى الحداثة خلال العشر سنوات الأخيرة، اعني أنني وضعت عنواناً والتزمت به على مستوى المنهج ـ حكاية لا بحث علمي ـ والإطار المرتبط بمكان محدد وبزمان معلوم.

* التأريخ والسلوك

* في حديثك عن الموجة الثالثة تمحور الحديث حول كتابك «الخطيئة والتكفير» وكأنما هذه الرحلة هي حكاية الغذّامي مع الحداثة في المملكة، ألم يكن ثمة مشاريع حداثية مصاحبة؟

ـ لا اتفق مع هذه النتيجة، فأنا حددت شرطين لرواية الحكايات ضمن حكاية الحداثة في المملكة، الأول أن تكون الحكاية ذات دلالة رمزية، وبالتالي فكل حكاية لا تحمل دلالة رمزية جرى استبعادها، وكل حكاية تكرر دلالة تظهرها حكاية أخرى جرى استبعادها كذلك.

والثاني أن تكون الحكاية تتضمن رد فعل قويا، فأنا في هذا الكتاب لا أتحدث عن الحداثة نظرياً، ولا أؤرخ للحداثة، ولكنني أقدم سلوك النسق المحافظ في التعاطي معها، بمعنى أنني معني في هذا الكتاب برد الفعل على المشاريع الحداثية، لا بالمشاريع ذاتها. وقد يكون البعض ممن قدّموا محاولات في الاتجاه الحداثي يشعرون بشيء من الغبن لتجاهل محاولاتهم، ولكن عندما يتذكرون أنني شخصياً قدّمت خمسة عشر كتاباً، كما أنني ألقيت محاضرات وشاركت في ندوات ومحاضرات، ولم أتحدث عن كل ذلك في الحكاية قد يتفهمون أن الكتاب حكاية مجتمع لا أشخاص، وأنني تجاوزت الحديث عن محاولاتي مثلما تجاوزت الحديث عن محاولاتهم.

بل حتى «الخطيئة والتكفير» هي في الواقع هنا حكاية وليست كتابا، فانا لم اصف مشروع الكتاب أو اشرح النظريات التي تضمنها، أنا في حكاية الحداثة في المملكة أتحدث عن حكاية «الخطيئة والتكفير» الكتاب الذي كتبت عنه مائتا مقالة معه وضده، وقدّمت عنه أربعة كتب ضده وآخران معه، والآن سجلت عنه أربع رسائل للماجستير والدكتوراه في الجزائر والعراق ومصر والبحرين، بالإضافة إلى ردود الفعل له في خطب الجمعة وأشرطة الكاسيت، كما نتج عنه تكفير المؤلف واتهامه بالخيانة والعمالة والماسونية والسرقة العلمية. إذن حكاية «الخطيئة والتكفير» ذات دلالات رمزية، وقد أحدثت ردود فعل ضخمة جداً، فهي حكاية تنبئك عن النسق الاجتماعي في التعامل مع شيء رآه مهدداً له.

ومن ناحية أخرى إذا كان ثمة كتاب أثار ردود فعل مثل التي أثارها «الخطيئة والتكفير» وتجاهلته فعند ذاك أنا استحق اللوم.

* ما هي المعايير التي استندت إليها في تقييم الآخرين حين وصفتهم بالحداثية أو الرجعية والمحافظة؟

ـ ليس فقط الأشخاص ولكن حتى الأحداث تعود إلى التعريف: التجديد الواعي، كل ما عدا التجديد كان محافظة، وكل من رفض التجديد كان محافظاً، وكل تجديد يفتقد للوعي هو حداثة شكلية، كما تكلمت عن الطفرة.

* من الشروط المهمة للحكاية تبرير الشخصيات، ألا تعتقد انك ابتعدت عن تبرير مواقف الشخصيات المضادة لمشروع الحداثة، خصوصاً عند حديثك عن الموجة الثالثة؟

ـ لا.. الحقيقة أنا لم أتعرض للشخصيات وتبرير مواقفها، أنا رويت في الحكاية أحداثاً جرت بالفعل، والأمانة هنا في أن تكون كل الحكايات صحيحة وليست مفتراة، ومن هنا حرصت على أن يتوفر احد شرطين لكل حكاية أوردتها في الكتاب، فإما أن تكون الحكاية مسندة صحافياً، أو أن تكون حدثت أمام جمع من الناس، متجنباً عدداً هائلاً من القصص الشخصية.

ثم إنني سعيت إلى أن أكون مصدراً للحكايات بالنسبة للقارئ مؤمناً بأن الحكايات تحمل دلالتها الرمزية.

* بمناسبة الحكايات، حكاية (حمدوس) كانت حكاية غامضة وغير مفهومة، وبدت وكأنها رسالة شخصية لا يصح أن يكون محلها كتاب. هل هذا الاستنتاج صحيح؟

ـ إن كان ما تقوله هنا هو إحساس أي قارئ فمعناه أنني أخفقت، لأنني كتبت هذه الحكاية الغامضة ويقيني عال بأن القارئ سيفهم ما أريد قوله، لأنه لم يكن بإمكاني التوضيح لان ذلك يعني المساس بكرامة وإنسانية احد الأشخاص، وأنا في النهاية أقدّم ظاهرة كانت موجودة ولست أتحدث عن شخص بعينه.

* قائد الهجوم

* معظم الذين هاجموا المشروع الحداثي ـ وفقاً للكتاب ـ من غير السعوديين، فهل هي مجرد مصادفة؟

ـ ليس معظمهم وإنما بعضهم، الحقيقة ان المعارضين كانوا سعوديين وغير سعوديين، والجميع كان يتبع محمد عبد الله مليباري الذي قاد الهجوم على كتاب «الخطيئة والتكفير» وعلى مؤلفه، وكان الأصل في إساءة الظن بالكتاب وبمؤلفه وكان الباقون في الغالب يرددون ما جاء به.

والحقيقة أنني كنت اعرف أن ما يقوله حول كتابي غير صحيح، وكنت أظن أن الناس لن تلتفت إلى هجومه الحاد لأنه غير صحيح، إلا أنني اكتشفت لاحقاً أنني كنت واهماً فكثيرون تبعوا ما قاله واقتنعوا به، بل أن بعضهم كان يتأثر بالعناوين من دون أن يحمل نفسه مسؤولية قراءة ما تحتها.

إلا أن الملاحظ انه تم استخدام بعض الكتّاب العرب في الحملة على الحداثة ليشكلوا دعماً كبيراً، باعتبار أن الحداثة مشروع معاد للدين والوطن تتبناه القوى الاستعمارية، وبالتالي فإن هؤلاء الكتّاب ينبهون السعوديين إلى هذا الخطر الداهم بحكم خبرتهم إذ سبق أن عانت بلدانهم من الغزو الفكري الذي أتى به أشخاص باعوا أنفسهم للمستعمر واتوا يسوقون أفكاره ومعانيه.

* قوبل كتاب «الخطيئة والتكفير» بعاصفة شملت التكفير والتخوين والتجريح الشخصي، اليوم وبعد هذه السنوات تصدر «حكاية الحداثة» فماذا تتوقع؟

ـ (يبتسم) هذا صحيح لم أكن أتوقع حين كتبت «الخطيئة والتكفير» رد الفعل، إذ تجاوزت المعارضة ـ والقبول ـ توقعاتي.

الآن أتوقع رد فعل عنيفا، والحقيقة أنني توقعت هذا وأنا أُعدّ الكتاب، مثلما توقعه الناشر وتوقعه الدكتور عبد الرحمن إسماعيل الذي اطلّع على مسودة الكتاب قبل ظهوره.

لكن الفرق، كما أتوقع، أن الهجوم هذه المرة سوف يستهدف المؤلف ومن بعده الأفكار والحكايات، بينما في «الخطيئة والتكفير» كان الهجوم يستهدف الأفكار والنظرية ومن بعدها المؤلف.