أشْعِلُ قنديلا وأمضِي..

قصة قصيرة

TT

البرد ُقارس.

ثمّة مرجل مُتقدّ في نهاية النفق. في هجعةِ الليل، تُغلفني ظُلمة باسرَة كشرنقة.

أبحثُ عن بُؤرَة نور. أعثرُ على قنديل صدئ تحت سرير. أشعلُهُ.

أخرجُ منَ الباب الضيّق إلى زُقاق ٍ تفوحُ منه رائحةُ عفونة.

(عبثًا نحاول أن نُعطِّرَ مزبلة..!)

أسيرُ قُدُمًا لا ألوي على عودة.. تتهدّجُ أنفاسي. أتجهمُ. أتنهدُّ. أُبْصِرُ رُؤىً فاغرةً جراحها كعيون أطفال جائعين.

أفتحُ عينيّ على وسعهما.. أرى صخرة صمّاء تتناوشها الأيدي بالشواكيش لتفتيتها إلى حجارة صغيرة.. أمّا الحقائب المدرسيّة البالية فقد تناثرت على طريق الآلام كالطيور المذبوحة.

أرى بعض الوجوه الطاهرة تقف خلف اكشاك حلوى تقاوم اغراء الرائحة واغراءات العيد البائس.

تنادي ببراءة: «شارون يُضاعفُ الحصار ونحنُ نُخفِضُ الأسعار»..

أسمعُ.. جلجلة صرخة شرطي يطارد رغيف خبز طازج في يد طفل رثّ الملابس.. يشتهي أن يُفلت من قبضة الجوع ومن لعنة الثري الذي سرقَ رغيف خُبزه.. ومن سخط الشرطي العجوز المتفاني في نُبل أخلاقه.

اسمعُ.. مدير تحرير يُطلق وعيده في وجه محرّر انيق يلوّث الهواء النقيّ المغلف غرفته الرحبّة: «يا أخي.. كم مرّة سنكرر نظّف يديك للأكل لا للكتابة...!»

أرى واسمع.. نواح قبيلة تتهادى بحزن خلف نعش مُراهقة رموها بالحجارة حتى الرمق الأخير. وبعد الوفاة صمّوا آذانهم عن صرخة الطبيب: «هي عذراء يا ظَلَمَة...!»

***

أقتربُ أكثر وأكثر من المرجل المُتقدّ.

***

أتعثر بزعيم.

أصافح يدا ممتدّة لمعانفتي. يحتضنني فــَ.. أشعر.. بمدية حادة تختفي في حضن يده خلف ظهري. يدعوني للجلوس. يُشيرُ بغطرسة إلى كرّة أرضيّة على مائدته. يُحرّكها: شمالا ـ شرقا. جنوبا ـ شمالا بمزاجيّة أخطبوط.

بين الحركة والأخرى ينظر حوله ليتأكد من أن الأسلحة النوويّة في مكانها.

يعطسُ وأنفه في السماء. يكلمني بغطرسة طاووس:

«من يرضَى أن يعيش حشرة، لا يحزن حين تَدُوسُهُ الأقدام»

(لا أتكلم)

أصلُ نهاية النفق.

ألقي القنديلَ في زاوية كهف الصّمت الفاضح.

أخرج إلى النور.

تتهدّجُ أنفاسي. أتجهمُ. أتنهدُّ.

تطاردني رائحة عفونة قذرَة.

تبللني رطوبة وحل لزج مثير للاشمئزاز.

تُراني ..بدأت ....أغرقُ..؟!

* قاصة فلسطينية مقيمة في مدينة الناصرة