نصر حامد أبو زيد صدّ مهاجميه في بيروت وخذل أنصاره

الهجوم على الباحث المصري المثير للجدل لم يتوقف وتصفيق العلمانيين كلما صد هجوماً كان يذكّر بمباريات كرة القدم

TT

خرج نصر حامد أبو زيد من اللقاء المفتوح الذي جمعه بحشد من المهتمين بمساره الفكري المثير للجدل، في «مسرح المدينة» ببيروت، مساء الخميس الماضي، بنتيجة تذكّر بالمثل القائل: «لا مع ستي بخير ولا مع جدي بخير». فقد تبين سريعاً ان الجمهور الغفير الذي افترش الأرض بعد أن نفدت المقاعد جاء، في غالبيته بأفكار مسبقة. فالإسلاميون حاضرون لوضع النقاط على الحروف، وإحراج الرجل، وإبراز جنوحه عن سواء السبيل، وتلقينه الدرس الذي يستحق، أما العلمانيون (كما سموا أنفسهم) وهم يذكّرون بوجودهم كلما ابتعد الميكروفون عنهم، ويطالبون بحقهم في الكلام والاحتجاج، فقد ظهر، من سياق الكلام، أنهم حضروا بحثاً عن المفكر الذي يثأر لهم من مناوئيهم. ولا بد، هنا، أن نذكر بالفئة الصامتة التي آثرت الاستماع إلى الكلام، وهؤلاء يصعب تحديد وجهتهم. لكن ما حدث أن الإسلاميين خرجوا متأففين ساخطين، والعلمانيين على عطش، لأنهم لم يتمكنوا من استدراج الرجل إلى الإجابات الشافية بالنسبة لهم، لا بل ان بعضهم صُدم من حرص أبو زيد على الموازنة العلمية والرؤية الموضوعية التي لا تتناسب وزخم الحماسة التي جاءوا بها.

مسكين نصر حامد أبو زيد، فقصة تكفيره وتفريقه عن زوجته، وما كُتب من قذف به وبكتبه، هو ما يعرفه الناس عنه. وقد بدا واضحاً كالشمس أن من قرأوا كتبه هم أقل من القليل، وان غاية الذين تحملوا عناء الانتقال إلى المسرح (والاهتمام بالمفكرين نادر) ان يعرفوا «بالعربي الفصيح» هل هو مؤمن أم كافر؟ هل هو مسلم أم مرتد؟ وبهذا المعنى عاد الجميع على أعقابهم خائبين.

مسكين نصر حامد أبو زيد فهو في وادٍ وجمهوره اللبناني وربما المصري في وادٍ آخر، هو مشغول بالقراءة اللغوية الألسنية والأنثروبولوجية للإسلام والنص القرآني، وهم يطاردونه على جبهة الإيمان. وسوء الفهم بين أبو زيد والقارئ أو السامع العربي كبير. ففي الحوار المفتوح الذي شهدته بيروت، بدأ أبو زيد كلامه متغزلاً بجمهوره قائلاً: «مجرد حضوركم بهذا الزخم يزرع في قلبي حقولاً من الحب»، مطالباً الحضور من خلال الحوار بأن يشعلوا معه شمعة من النور لا التنوير، معتبراً ان كل الأسئلة مشروعة، وهو نفسه محمّل بالأسئلة «أريد ان أشارككم فيها بوصفي مواطناً، نريد أن نقمع أي محاولة تمنعنا من التساؤل، حربنا الحقيقية هي ضد الذين يريدون حجبنا عن التساؤل». لكن هذه المقدمة الندية، لم تمنع السؤال الأول من ان يكون مبطناً باتهام، يتبعه سؤال آخر يستفهم عن سبب إنكار أبو زيد لأسباب النزول. أنكر الرجل ما نسب إليه وجهد في شرح وجهة نظره، التي هي في نهاية المطاف، لا تأتي بنتائج بعيدة عما ذكره العديد من المفسرين الكلاسيكيين الذين سبقوه بقرون. لكن أدوات أبو زيد العلمية وطرقه التأويلية والمصطلحات التي يستخدمها تجعله عصياً على الفهم من جمهور غير مطلع على أدوات النقد الحديثة المعروفة في أوروبا وأميركا منذ عقودٍ طويلة. ولا نبالغ لو قلنا ان كل مصطلح كان يمكنه خلق بلبلة، وكل تفسير وإجابة كانا يجران سؤالاً أو أسئلة تدور في الحلقة ذاتها. فالقرآن «نص تاريخي»، مصطلح اختلط أمره على بعض السامعين، وكان الأصعب منه شرح القصد من ان القرآن «منتج ثقافي». قال أبو زيد تكراراً ان القرآن من مصدر إلهي، وهو لا ينكر ذلك، والقصد من المصطلح الأول ان اللغة العربية عند نزول القرآن كانت محملة بالدلالات ولها مرجعيتها وجاء النص الديني ليحملها بمعان جديدة، وبهذا المعنى فالقرآن «منتج ثقافي»، ثم أصبح بعد ذلك هو المنتج للثقافة، أما القصد من تاريخية النص فهو انه نزل في وقت محدد، ونزل منجما، وبعض القصص التي فيه هي شواهد تاريخية من الواقع، ثم ان عملية جمع القرآن هي عملية تاريخية أيضاً. لكن الهجوم على أبو زيد لم يتوقف، وتصفيق العلمانيين كلما صد هجوماً كان يذكّر بمباريات كرة القدم حيث يجلس المشجعون ولا هدف لهم سوى التهليل كلما تم تسجيل هدف في مرمى الخصم. لقد كان الحوار الحقيقي المنفتح الخلاق هو الضحية لذاك اللقاء المفتوح على سوء الفهم بين كل الأطراف، والمحتقن بسوء النيات والاستفزاز. وكأنما كل فئة كانت تتربص بالأخرى، وكل متكلم ينتظر السامعون ان يلصقوا به «التصنيف» الذي يتناسب وهذه الزمرة أو تلك. حسناً لقد قال نصر حامد أبو زيد انه «حان وقت افتتاح سوق حرة للأفكار كما ابتدعنا سوقاً حرة للدولار» ولكل ما لذ لنا وطاب. لكن كان على الجالس في تلك القاعة المتشنجة، بعد ان أفلتت الأمور من عقالها، وصرخ أحد الحاضرين شاتماً آخر مطالباً إياه بالخروج من القاعة، ان يسأل: «أوليس نصر حامد أبو زيد هو نفسه أتى وكأنه استعد سلفاً للحرب قبل السلم. ألم يبالغ في العصبية والانفعال، ألم تكن ردوده على من اشتمّ في أسئلتهم رائحة تشكيك، أقرب إلى العدوانية منها إلى التسامح والاحتواء». لقاء من هذا النوع يحتاج أولاً إلى عميق معرفة، وإلى رغبة في الأخذ والرد للوصول إلى إجابات متصالحة قدر الممكن، لكن الجمع انفضّ وكل يُغني على ليلاه.

نصر حامد أبو زيد كان واثقاً من نفسه أكثر من أي وقت مضى، وقد قال بوضوح ان «لا أحد يستطيع إعادة محاكمتي لأنه لم يحاكمني أحد، وما حدث أصبح وراء ظهري».