«أرلكينو.. خادم سيدين» كوميديا شعبية إيطالية تضحك جمهور القاهرة

TT

بمناسبة الاحتفالات الثقافية بعام مصر ـ إيطاليا 2003 ـ 2004 شاهد الجمهور المصري العرض المسرحي الإيطالي «أرلكينو.. خادم سيدين»، تأليف كارلو جولدوني وإخراج جيورجيو ستريلر (1921 ـ 1970) على خشبة مسرح الجمهورية التابع لدار الأوبرا المصرية بالقاهرة. قدمت هذا العرض الشهير فرقة مسرح بيكولو تياترو دي ميلانو ـ تياترو دي أوروبا ذات السمعة المدوية، والتي تحمل تاريخا فنيا مشرفا على المستوى المحلي الإيطالي والدولي أيضا.

أسس مسرح بيكولو تياترو بمدينة ميلانو الإيطالية عام 1947 بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بعامين، على يد جيورجيو ستريلر وباولو جراسي ونينا فينكي ليعلن نفسه كأول مسرح عام في إيطاليا متخذا شعار «مسرح الفن للجميع». وهو ما يعني مراعاة تخفيض أسعار التذاكر قدر المستطاع لتكون في متناول السواد الأعظم من الجمهور. واهتمت الفرقة بالتعرف على كلاسيكيات المسرح العالمي من تأليف العظماء من أمثال وليم شكسبير وأنطون تشيكوف وكارلو جولدوني، وللاستمتاع أيضا بأعمال مؤلفي المسرح في القرن التاسع عشر مثل صمويل بيكيت وبرتولد بريخت ولويجي بيرانديللو.

عاما وراء عام راحت فرقة بيكولو تياترو تحقق نجاحا ساحقا منقطع النظير، وأصبح مسرحهم واحدا من أهم المنابر الفنية في العالم أجمع. وفي عام 1991 اتخذ التياترو بيكولو اسم «مسرح أوروبا» أي اتحاد مسارح أوروبا التي تضم المسارح الرئيسية في العالم القديم، ويهدف إلى تأمين عملية التبادل والترويج الثقافي بين الشعوب من دون الالتفات لاختلاف اللغات هنا وهناك. ثم تطور نجاح هذا الصرح المسرحي بخطوات أكثر إيجابية وتأثيرا، عندما بدأ منذ عام 1999 استضافة مهرجان المسرح الأوروبي خلال فصل الخريف الذي يقدم من خلاله عروضا من مختلف أنحاء العالم من بينها عروض موسيقية وأخرى راقصة، إضافة إلى المعارض الفنية وغيرها من وسائل الإعلام الفني المعاصر.

أما بطل العرض الممثل المخضرم فيروتشو سوليري فيطلقون عليه لقب آخر الممثلين العظماء الذين قاموا بدور أرلكينو، هذه الشخصية المرحة المخادعة التي ساهمت بشكل كبير في تعريف الجمهور في كافة أنحاء العالم بتقاليد فن الكوميديا ديلارتي الإيطالية الشهيرة. والمثير أن سوليري جسد هذه الشخصية الممتعة الضاحكة الرشيقة لهذا الخادم أكثر من ألفي مرة على خشبة المسرح في كل قارات العالم، ومن خلال كم هذه العروض الهائلة تميز هذا الفنان بقدرته على إحياء القناع الذي يرتديه الخادم ليصبح شديد المرونة والحيوية من حيث الإمكانات التي يمنحها للممثل في التفاعل الصوتي والحركي.

أرسى فن الكوميديا ديلارتي قوامه الأساسي انطلاقا من المواقف المضحكة التي تعتمد كثيرا على سوء التفاهم، والشخصيات شبه السطحية من دون تعمق مقصود في الأبعاد وما شابه. مع ممارسة لعبة تبادل الأدوار بين الشخصيات مما يثير العديد من الملابسات المضحكة والأقنعة المعبرة، ويتيح الفرصة للرجال للتنكر في زي سيدات والعكس صحيح مع ضرورة تغيير طبقات الصوت والمنهج الجسدي ومرادفات الجنس الجديد للشخصية إلى آخر هذه المتطلبات المضحكة. كما يعتمد ممثل الكوميديا ديلارتي على الأداء الحركي الجسدي الصوتي المبالغ والملابس المزدهرة الألوان والتصميمات المضحكة بعض الشيء، كل هذه المواصفات الجامعة السابق ذكرها ستوفر علينا الكثير من تحليل عناصر لغة الكوميديا المطروحة عبر هذا العرض بفصوله الطويلة الثلاثة.

بدأ العرض في منزل السيد بنتلوني حيث يجري الإعداد على قدم وساق لزفاف سيلفيو ابن الدكتور لومباردي وكلاريتشي ابنة السيد بنتلوني، وهي التي كانت موعودة بالزواج من قبل من السيد فيديريكو راسبوني التاجر الشهير بمدينة البندقية والذي قتل قريبا في إحدى المشاجرات. ثم يدخل أرلكينو بمكره الحاد من دون تعمد الإيذاء معلنا نفسه خادما لفيديريكو القتيل، والذي لم يكن في واقع الأمر سوى شقيقته بياتريتشيييي التي تنكرت وجاءت لمدينة فينيسيا لمقابلة حبيبها فلوريندو رغم أنه قاتل أخيها. وبعد عدة محاورات ومداولات وشكوى أرلكينو المستمرة من الجوع أثناء انتظار سيده فيديريكو أو بياترتشي المتنكرة، فجأة أصبح بطل العرض خادما للسيد فلوريندو في نفس الوقت الذي تفتش عنه الحبيبة الهائمة بياتريتشي في كل مكان بلا جدوى، من دون أن يعرف أي من السيدين أن أرلكينو يعمل خادما للطرف الآخر. هذه هي المنظومة الدرامية التي تضم دائرة العلاقات المتفاعلة داخل الصراع الدرامي المرح الدائر هنا وهناك، وقد عمد مخرج العرض جيورجيو ستريلر تقييد سريان كافة الأحداث داخل إطار مستطيل مرتفع خطوة واحدة عن خشبة المسرحي الأساسية ومسطحها الأفقي الأول. وبالتالي أصبحت المسألة وكأنها لعبة داخل لعبة لها أكثر من نوعية متلق على أكثر من مستوى، حيث يجلس متلقي المستوى الأول خارج إطار المسرح الداخلي داخل الفضاء المسرح الأوسع والأرحب الخاص بمسرح الجمهورية متمثل في عازفي الآلات الموسيقية والشخص الممسك بالنص المسرحي يراجع الحوار مع الممثلين ويصحح أخطاءهم أحيانا، ويرشدهم لمنهج التمثيل الصحيح أحيانا أخرى. هذا بالإضافة لأي فرد ينتهي دوره في عالم اللعبة الداخلية نجده يسارع أحيانا بالنزول للفراغ الأساسي الأكبر وينضم لمن سبق ذكرهم، وبالتالي يتحول من ممثل إلى متلق أو من مرسل إلى مستقبل كأيقونة حيوية دينامية حية متحولة تضفي الكثير من الرشاقة والمرونة على العرض المسرحي، تهدف جميعا لكسر الإيهام وإعلان قوانين اللعبة المسرحية وعدم جديتها مهما حدث ومهما طال زمنها واشتدت صراعاتها. أما المستوى الثاني والأخير من التلقي فيتمثل فينا نحن متفرجي العرض، ومن حسن حظنا أننا نمثل الإطار الخارجي النهائي للعبتين أو العالمين معا بمنطق المسيطر على كل مقاليد الفرجة من كافة الزوايا. ومن أهم مميزات هذا العرض أن خشبة العرض للعبة المسرحية الداخلية مستطيلة منفتحة الأضلاع من كل جانب باستثناء الخلفية القريبة، التي وظفها المخرج مع تغيير ملابس فرانكا سكوارتشابينو وتوالي دفعات إضاءة جيراردو اونوفري للتنقل عبر العديد من الأماكن والأزمنة باستخدام أبسط الحلول البصرية التشكيلية الاقتصادية بالستائر الملونة المرسومة وقطع الديكور القليلة المتناثرة. وبمجرد انتقال الحدث من مكان لآخر تغطي إحدى الستائر الخلفية المسرحية القصيرة الارتفاع، مرسوماً عليها مثلا أدوات الطهو لتعلمنا أننا في مطبخ البيت مثلا وهكذا.. وكثيرا ما تبادل الممثلون اللعب مع أعضاء الفرقة الموسيقية القابعة في المستوى الأول للتلقي، وفى لحظة ما يتحد الفريقان لإنجاز اللعبة واستخلاص أكبر قدر من متعتها ليعزف من بالخارج ويغني من بالداخل على أنغام موسيقى فيورنزو كاربي المعبرة الشجية. ورغم متعة العرض المتوافرة والرشاقة المذهلة واللياقة الذهنية الجبارة لبطل العرض المخضرم، إلا أن الفصل الثاني كان من سلبيات العرض القليلة عندما جاء بطيئا متثاقلا في الإيقاع الداخلي محشوا بتفصيلات كثيرة وإسهاب مطول اعتراه الملل بعض الشيء في هذا العرض المشوق.