رسام كاريكاتير سوري من النقش على المقابر إلى أروقة الأمم المتحدة

سعاد مكرم

TT

على شواهد القبور كان ينقش آيات العزاء وأسماء الراحلين، ناحتاً على الرخام بدايات موهبة، قدر لخطواتها الأولى أن تخرج من مقبرة. يتذكر رسام الكاريكاتير السوري رائد خليل عندما كان طفلاً لم يتجاوز العاشرة، لم يكن سوى الموت يحمل له الطمأنينة: «كنت افرح عندما أسمع أن شخصاً ما توفي، فهذا يعني أني سأنقش شاهدة قبر، وأقبض خمس عشرة ليرة سورية». ينهي رائد جملته تلك، بابتسامة هازئة من عبثية الحياة، كما هي رسومه التي تغلف المآسي الإنسانية بسخرية مرة. لا بد أن نصطدم بها في لوحة تظهر رجل بائس حافي القدمين ويضع إحداها على صندوق ماسح أحذية طفل أشد بؤساً وفقراً يمسح وجه القدم بإذعان!.

لا يتذكر رائد كيف تعلم الرسم، لكن لا يمحى من ذاكرته أول معرض فني، وهو في الصف الثالث الابتدائي: «لقد كان الافتتاح مهماً جداً». بالرسم قاوم حالة إلغاء عاشها باكراً، بسبب انفصال الوالدين، الأب استقر في دمشق مع زوجته الثانية في كنف حياة رغيدة، والأم عادت بأبنائها إلى السلمية لتعاني شظف العيش. كبر رائد على نشيج أمه المتألمة من إجحاف الزوج والزمن، مما عزز لديه الإحساس بالمسؤولية تجاه أمه، وهو يراقب عن بعد أشقاءه من أبيه يطلبون فيعطى لهم من دون حدود، في وقت كان يجهد فيه رائد للعثور على ريشة دجاجة أو طير تصلح للرسم، أداة تمكنه من رسم عالمه الخاص وتعوضه بعض الحرمان، الذي استعان عليه أيضاً بنحت شواهد قبور تتجاوز قامتها الصغيرة. عل والدته تشعر أنه لا يفتقد لشيء: «كنت أحس أنه يجب عليّ فعل شيء لأرد اعتبار أمي».

القسوة التي فرضت نفسها على موهبة رائد أبرزتها أيضاً، واكتشفها أستاذه الخطاط في الابتدائية: «أستاذي كان فناناً كبيرأً، علمني اختزال الرسم، عجوز يحمل عكازاً، يمكن تصويرها من خلال الرقم واحد إلى جانبه صفر. أغراني الكاريكاتور وساعدتني السخرية في مواجهة معاناتي الحياتية».

معلموه في المرحلة الابتدائية أول من رعوا موهبته، ودفعوه للمشاركة في مسابقات منظمة الطلائع للرسم، ونال من خلالها الريادة على مستوى القطر. دعمها اهتمام المسؤولين بمنطقته: «أكثر ما كان يفرح طفولتي علبة ألوان يرسلها لي مسؤول من منظمة الطلائع، في وقت كان فيه شراء الألوان، ترف لا طاقة لي به».

الكاريكاتور كفن يرتكز على المفارقة، كان وسيلة مثلى لاستساغة مفارقات الواقع، التي لا تفتأ تلاحق بعبثيتها رائد: «غالباً ما كنت أطرد من الصف لأني تسببت بإضحاك زملائي وإثارة شغبهم حين كنت أعرض عليهم خلسة ما أرسمه أثناء الحصة الدراسية».

بداية طريفة لطريق فنية حافلة بالدأب والنجاح، لم يعكر صفوها إلا التوقف عن الدراسة مع نهاية المرحلة الثانوية، لأسباب مادية اضطرته للعمل خطاط لافتات في مدينة حلب، لتبقى أمنية أمه أن تراه طياراً، غصة يزدرد بها كلما رأى طيارة: «أشعر بالحزن وأتذكر كلمات أمي(العلم يرفع بيوتاً لا عماد لها)، كلما رأتني منشغلاً بالرسم عن الدراسة، كان لديها تصور أن الرسام لا مستقبل له وقد يموت جوعاً».

رجل محني الظهر من الشقاء والفقر، يقف على المرتبة الأولى حاملاً طاقة ورد وآخر يقلده ميدالية ذهبية معلقة بحبل مشنقة. لوحة أخرى موضوعها الفقر والذي يكاد يطغى على باقي الموضوعات التي يتناولها رائد خليل في لوحاته، كموضوع يعتبره إنسانياً عاماً، يدرك معانيه وما تنطوي عليه من معاناة، طبعت في ذاكرته البصرية مشاهد ستشكل زاداً خصباً للوحات تسافر إلى مختلف أنحاء العالم.

من الصحف المحلية انطلقت رسوم رائد خليل مبكراً: «أول رسم نشر لي حول انتفاضة الحجارة عام 1988، وكان عمري 16 سنة، شعرت حينها أن العالم ضيق على فرحتي، حملت الجريدة أيام طويلة أتفاخر بها. في تلك الأثناء بدأت علاقتي بالأوساط الثقافية بدمشق، فكنت أجلس في مقهى الروضة، لأرسم الفنانين والمثقفين. في التسعينات تعرفت على مجلة «صباح الخير» اللبنانية، وخصصوا لي صفحة رئيسية إضافة لرسوم داخلية، بعدها رسمت في مجلات فلسطينية، إلا أنني انقطعت عن الرسم خلال خدمة العلم ثم عدت لأنشر في العديد من الصحف والمجلات الأجنبية. اليوم أعمل رساما رئيسيا في جريدة «النور»، إلى جانب الرسم في جريدة «البعث».

ما بين عامي 1988 ـ 2003، حصد رائد أكثر من أثنتي عشرة جائزة من مسابقات ومهرجانات محلية ودولية، منها سبع عالمية نالها خلال عام 2003، وآخرها كان اختياره من ضمن أفضل عشرة رسامين للكاريكاتير السياسي في العالم ضمن مسابقة رعتها الجمعية العامة في الأمم المتحدة. عن جوائزه يقول : «لا تهمني التصنيفات كثيراً، أعتبر نفسي فنانا محليا بمواصفات عالمية، أي نقطة ماء في محيط كبير، ما زال الطريق أمامي طويلاً، وقد لا أصل، إلا أنني سأبقى مستمراً في السير».

قد يرى البعض فيما حققه من نجاح وحضور أنه جاء سريعاً، لكن من يعرفه جيداً سيدرك أنه حرق المراحل بعصاميته وإصراره على حماية عالمه الخاص الذي بناه وحيداً، وبعيداً عن أي مؤثرات سلبية «رسمت لفترة طويلة دون أجر، كانت مكافأتي الكبرى، أن يقولوا لي أمامك مستقبل رائع».

أكثر ما يتوجس منه رائد، المفاجآت السيئة، ولهذا يفضل العزلة الآمنة على انفتاح مجهول العواقب، لا يتمسك بشيء، ولا يأسف على خسارة، تؤول إلى النسيان. المهم أن يبقى مستمراً بالرسم، لا تعنيه الشهرة، فلا يتشجع على السفر إلى أي احتفالية في بلد بعيد، يبدو له غامضاً، وهذه مفارقة أخرى تضاف إلى سلسلة المفارقات التي تحفل بها تجربة رائد الفنية، وأغلب ما حصده من جوائز عالمية، حصل عليها وهو قابع خلف شاشة الكومبيوتر; نافذته المفتوحة على العالم أجمع. إذا قلنا له إن ذلك غير كاف لفنان يتطلب عمله احتكاكا مباشرا واكتشاف مجتمعات وثقافات أخرى،أجاب: «أعمالي تشارك في غالبية المناسبات التي أدعى إليها، ليس من الضروري حضوري الشخصي».

سر الانكفاء كامن في ما قد يتعرض له فنان عربي ملتزم بقضايا أمته من جهات مشبوهة، ومن سخرية القدر أن حرصه البالغ لم يجنبه مفاجأة غير سارة تربصت له مؤخراً في شهادة التقدير الموقعة من كوفي أنان، حيث حملت الجائزة التي نالها من مسابقة الأمم المتحدة اسم الرسام الصهيوني رعنان لري، مما جعل رائد يصدر بياناً يعلن فيه أنه لم يكن على علم بهوية منظم المسابقة، لذا رفض شهادة التقدير وعدَّ اشتراكه في مسابقة ينظمها صهيوني أمر باطل و«لا يليق بمواطن عربي يتعرض شعبه للعدوان والأذى اليومي على يد إسرائيل، التي تحتل الجولان السوري وأجزاء أخرى من الأراضي العربية».

الفنان الذي نشأ على ظلم يحيط به من كل جانب، من الأب والطفولة والحياة ، كذلك في الاحتلال الذي ترزح تحته الأراضي المحتلة، فتح وعيه السياسي الذي يلخصه بأعمال تناهض الصهيونية، والدكتاتورية والقتل والتدمير وترثي دائماً الحرية الغائبة، لوحة لجزار يعدم القلم بمقصلة فتنطلق روحه محلقة بجناحيها كالصاروخ بعيداً، وأخرى لجندي يرسم طير السلام على الصاروخ قبل إشعال الفتيل. مخزون من ذاكرة الطفولة سيضاف عليه الكثير من أطياف الثقافة المختلفة: «رسام الكاريكاتير يجب أن يكون ملماً بأشياء كثيرة، اللوحة يجب أن تأتي تعبيراً صادقاً عن تفاعلنا مع المحيط وإلا كانت مفتعلة وكاذبة، لن يقبلها المشاهد. كلما رسمت أعيش حالة صراع مع الذات، الرسم الذي يحمل اسمي، هو أنا لا أحد غيري، وإلا لكنت منفذاً لا رساما».

رائد الذي شغلته الحياة بتفاصيلها المؤلمة، والتي لم يشاركه أحد في المعاناة منها، تسللت إلى رسومه لتكون مشهدية غنية بالتفاصيل الصغيرة، بنطلون الشحاذ لا تكفيه رقعة واحدة، المرأة الشقية لا بد لها من خطوط كثيرة في الوجه تترجم شدة البؤس، تفاصيل لتأكيد المبالغة الواقعية، مع أن التفاصيل تناقض مبدأ الاختزال الذي يقوم عليه الكاريكاتير، إلا أن رائد يراها لبلاغة التعبير، «أرى أن الحياة تكمن في التفاصيل، خط واحد بسيط لا يلتقط الحركة في المشهد، ما يخلق نقصاً غالباً يتم تعويضه بشرح مكتوب، وهذا يضعف اللوحة، المفترض أن تكون مكتفية بذاتها وتأخذنا إلى ما وراء خطوطها وألوانها. استخدام الكلمات في الكاريكاتير يفقده أهم مقوماته في التحريض على التفكير والاستفزاز الذهني».

رائد الذي يبدو لنا متواضعاً هادئاً، مهموم بتطوير تجربته، وتحقيق طموح يصفه بأنه بلا حدود: «في رأسي عشرات الأفكار لمشاريع تدعم ثقافة الكاريكاتير في بلدي».