في منتصف تسعينيات القرن الماضي كانت ثمة ولادة ميتة لمشروع مسرحي عراقي يتمثل واقعة كربلاء بتراجيديتها المعروفة والذائعة، ولكن المشروع ولد ميتاً لأسباب بمجملها سياسية، وبعض الأسباب الفنية. كان هذا المشروع حافزاً لي ولغيري لدراسة امكانية استثمار واقعة عاشوراء في المسرح العراقي ضمن ما يصطلح عليه بمسرح التعزية.
وبالطبع فقد صارت الظروف الحالية للعراق مناسبة كثيراً للعودة إلى الجذور التاريخية لفن التراجيديا في الشرق الأوسط، ومن ضمن تلك الجذور واقعة كربلاء بكثافة حضورها المأساوي وقدرتها على محاكاة العصور على اعتبار أنها تتناول الثنائية الأزلية ذاتها: الخير والشر، في سياق روائي متوتر ومثير.
إن البذور الأولى لمسرح التعزية في العراق لا شك تعود إلى الطقس الديني، والشيعي تحديداً، ومن الجدير بالذكر هنا أن هذا الطقس قد توقف تدريجياً في بداية السبعينيات من القرن الماضي حتى اختفى نهائياً بحلول العام 1979 عندما تسلم صدام حسين الحكم رسمياً. هذا العام شهد الكثير من الحوادث التراجيدية كانهيار الجبهة الوطنية وفرار المئات من الكوادر الوطنية والثقافية من العراق مخافة بطش النظام الحاكم الذي قتل واحداً من أهم علماء الشيعة وهو محمد باقر الصدر، وتكللت الوقائع التراجيدية تلك بالحرب العراقية الإيرانية (1980ـ 1988). وبالطبع فإن من سوء حظ المسرح في العراق قيام السلطات باعتبار طقس التعزية، وبضمنه مسرحه، من الموروث الثقافي الإيراني، وبالتالي صار حظر هذه الطقوس أمراً استثنائياً .
وبالرغم من أن جذور تفريس الكثير من الملامح الثقافية العراقية كان سابقاً للحرب مع إيران بعقود طويلة من الزمن، وربما بقرون كما يرى الكاتب سليم مطر في كتابه (الذات الجريحة)، فإن هذه الحرب أتت على ما تبقى من تلك الملامح، وصار الحديث عن ثقافة وطنية مقروناً بمدح رموز القتل والدمار في التاريخ العراقي! هكذا غُيّب الدور الحضاري العراقي الحقيقي، وبضمنه الحديث عن طقس مسرحي متوارث منذ مئات السنين، هو طقس التعازي.
أما البذور غير الطقسية لمسرح التعازي فقد كانت مبثوثة في الكثير من العروض المسرحية، وخاصة الشعبية منها، التي حاولت أن تعوض ذلك الغياب القسري للطقس الديني بحضور خجول على خشبة المسرح. لقد كان على المسرحيين العراقيين أن يكونوا حذرين جداً في تصديهم لإثارة من هذا النوع، إثارة حتى لو كانت بسيطة وهامشية في متن العرض، لإن هذه الإثارة قد تزهق أرواح من يقومون بها. محاولات كثيرة جرت من هذا النوع كانت بحق تمثل البذور، ولعل مسرحية الفنان كريم رشيد (الحر الرياحي) التي قدمت من على خشبة المسرح الوطني بكادر من طلبة كلية الفنون الجميلة بجامعة بابل أوائل عقد التسعينيات الماضي تمثل أبرز عرض مسرحي متكامل يتناول بصورة مباشرة بعض جزئيات واقعة عاشوراء. ومسرحية (الحر الرياحي) كتبها الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد قبل الحرب مع إيران بسنوات، ولكنها ظلت على رفوف المكتبات، وبالرغم من صلة كاتبها الوثيقة برأس النظام، إلا أن المشاريع التي قدمت للجهات المسؤولة من أجل انتاجها ظلت تواجه بالرفض دائماً. وكان الفنان عزيز خيون واحداً من أبرز المخرجين العراقيين توقاً لتقديم هذا النص، ولم يفلح أبداً. يتناول النص سيرة واحد من رجال الواقعة، هو الحر الرياحي ، الذي أوفد لإيقاف زحف الحسين ابن علي إلى كربلاء، فشده منظر الإمام وصلابته فانقلب ضد من أرسله وصار أحد فرسان الإمام ، في ثنائية تقابلها شخصية الشمر بن ذي الجوشن قاتل الإمام. استمر العرض لمدة يوم واحد، ولم تثمر بعده المحاولات لاعادته.
كان العرض بمثابة قنبلة كبيرة في وسط ركام من المنع، المنع الذي يخص بشكل استثنائي كل ما له علاقة بمسرح التعزية أو واقعة كربلاء. ولكن العام 1996 كان عام المحاولة الأبرز لصياغة عرض مسرحي عراقي يتناول واقعة الطف بتفاصيلها، وقد بوشر بأخذ الموافقات الأصولية الرسمية لإنتاج هذا العرض الذي تبنت انتاجه إحدى شركات الإعلان التجاري، ومن المؤكد أنها حسبت مقدار الفوائد المادية الكبرى التي سوف تحققها إذا ما أجيز العرض. وفي هذا السياق اجريت مقابلة صحافية مع الفنان سامي عبد الحميد في عمان عام 2001 وسألته فيها عن مسرح التعزية فأجاب ما نصه: (مسرح التعزية ارتبط بالدافع الديني، ولذلك فالمسرحيون يترددون في تحويلها إلى ممارسة دنيوية). وأردف بالقول إن تقديم مسرح التعزية في العراق اليوم يمثل استحالة، راجياً عدم نشر هذا الكلام خوفاً من انتقام السلطات، وبالطبع فإن الكثير من المسرحيين العراقيين كانوا يجمعون على هذه الإستحالة ، وبالرغم من ذلك كانت لهم محاولاتهم الخجولة في بث بعض ملامح التعزية في عروضهم، كما عند عزيز خيون وعواطف نعيم وغانم حميد وآخرين.
عرف العرب المأساة في أشعارهم أكثر من غيرها، وكانت الآثار المأساوية الأدبية قبل الإسلام تمثل معيناً لا ينضب بالنسبة للشعوب التي سكنت المناطق العربية قبل الفتح الإسلامي. وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن تراجيديا عشتار وتموز وتراجيديا كلكامش وتراجيديا الطوفان وغيرها تمثل مآسي كبرى جرى التعتيم عليها درامياً ، وفي أحسن الأحوال فإن تجارب مسرحتها وعصرنتها ظلت مجرد تجارب صغيرة لم تستطع أن تؤسس لمسرح تراجيدي في منطقة الشرق الأوسط، وينسحب الحال على الكثير من التراجيديات اللاحقة لعصر ظهور الإسلام، ولعل أبرزها تراجيديا كربلاء.
لقد عد كبير منظري الدراما، أرسطو، المأساة أحد ركني الدراما الحقيقية بالإضافة للملهاة، وقد استفاد المسرح الغربي بمفهومه المعاصر من هذه الثنائية، وكان فن التراجيديا فناً يمارس على الدوام في الحواضر المسرحية الغربية بالرغم من أنه جاء كما هو معروف من بطون الطقس الديني أيضاً.
وبالرغم من محاربة الكنيسة التاريخية العنيفة، فإن فن التراجيديا، وخاصة الإغريقية، ظل يقوى باستمرار حتى وصل المسرح إلى عهد وليم شكسبير صاحب أروع تراجيديات العصور وأكثرها حضوراً.. فهل تهيب المسرحيون في الشرق الأوسط من السلطات الدينية فخسروا مشروعهم التراجيدي الكبير المتمثل بمسرح التعزية؟
إن النظرة الطائفية للواقعة أسهمت في إضعاف القوة الفكرية والجمالية لإنتاجها درامياً، وبالرغم من أن بعض البلدان في منطقة الشرق الأوسط دأبت على تقديم مسرحيات التعزية، إيران ولبنان نموذجاً، إلا أن هذا التقديم ارتبط جدلياً بحضور المذهب الشيعي في البلدين (عادة ما تقدم مسرحيات التعزية في عموم إيران، أما في لبنان فتقدم في المناطق التي يكون لحزب الله الشيعي فيها وجود كثيف).. ويبدو الخلاف الطائفي كثيفاً في التعامل مع الواقعة .
التقرير الذي كتبه الفرنسي جوبينو حول مسرح التعزية في إيران يركز، بالرغم من أهميته الوثائقية، على طقسية العرض، ومن ذلك حجم مكان العرض وأزياء الممثلين والحضور النفسي الكثيف للواقعة في عقول المتفرجين والتبرعات التي تجمع من الأهالي من أجل تقديم الطقس والتقمص الحاد الذي يبديه الممثلون ولغة النص أيضاً.. فيما كتب المسرحي المعروف بيتر بروك عن فشل عرض من عروض مسرح التعزية عندما اقتلع من مكان عرضه الأول.
كان بروك قد شاهد العرض لأول مرة في إيران وأعجب به كثيراً فدعا القائمين عليه لإقامة عرضهم في لندن، ولكن العرض الجديد فقد بريقه وقوته عندما عرض في المكان الجديد بالرغم من أن الممثلين هم أنفسهم في العرضين وكذلك الديكورات والإكسسوارات وملاحق العرض الأخرى، وبروك يخلص من هذه الواقعة إلى القول بإن سر نجاح عرض التعزية يكمن في البيئة التي يقدم فيها والدفق النفسي الذي يرافق ذلك.
إن معالجة واقعة كربلاء مسرحياً ليست بالأمر المستحيل، كما كان يقول المسرحيون العراقيون بسبب من ضغط سياسة الرأي الواحد سابقاً، ولكنها مقرونة اليوم بنيات تقديمها، بمعنى تخليصها من التعبئة الجمعية لصالح الدراما، والدراما كفيلة بصنع مناخها النفسي الذي يوفر النجاح للعرض.
* شاعر عراقي مقيم في أستراليا