نساء يترقبن المجهول من نوافذ الحلم والذاكرة

أول معرض في العاصمة المصرية للفنان التشكيلي جبر علوان

TT

يبدو لي جبر علوان في معرضه القاهري الأول الذي أقيم حديثا بقاعة «جرانت» وحمل عنوان «المرأة حالات وألوان» مهموما بما يمكن أن أسميه نوستالجيا المرأة. فالمرأة في اللوحات ليست مجرد حالة أو لون، بقدر ما هي محاولة عصية للإمساك بحلم، أو لحظة شاردة من غبار الزمان والمكان. لذلك يظل وجودها محفوفا بهواجس وملابسات الذاكرة، والحدوسات الخاطفة للعقل والعاطفة معا.

يتجلى هذا في لوحات المعرض حيث يحتل الجسد الأنثوي صدارة المشهد، ويكاد يشكل مصدر الضوء الوحيد، بل محور الايقاع، فالضوء ينهمر في بقع وحزم ضوئية مكثفة، متولدة غالبا من اللون الأصفر بكل درجاته الساخنة والباردة، بينما تشغل الخلفية ـ غالبا ـ ألوان ثقيلة ضاربة في الدكنة والنور المعتم، تتراوح بين الأزرق الرمادي والبني المخفوق بالأسود والأحمر والأخضر. وتتسم هذه المنظومة اللونية أحيانا بملمس صخري خشن، يتبلور من لدونة عجائن الأكريلك، وحزوزات وخدوشات السكين التي تتوزع أحيانا بنسب وزوايا محددة، وأحيانا أخرى تترامى بشكل عشوائي في نسيج اللوحات.

وبرغم وجود مساقط أخرى للنور في بعض اللوحات الا انها تظل مجرد نثار خفيف، وعنصرا غير حاسم في ابراز الوجود الحسي للشكل، وابراز مقومات وعناصر التكوين بخاصة الكتل والمساحات اللونية الصريحة التي تكسر حياد الخلفية، وتجعل الجسد في حالة من الحميمية مع نثرياته وأشيائه، كما تكسر لطشة التكرار التي قد تعترينا من كون الجسد نفسه لامرأة واحدة، تتعدد صورها وحالاتها وحضورها من لوحة لأخرى.

إضافة الى هذا يتجلى الجسد في اللوحات كمحور إيقاع، فبدونه ترتبك حركة العناصر، وتفقد الكثير من انسجامها الفني، فلو تصورنا الجسد ككتلة فإن العناصر الأخرى هي بمثابة مشغولات فراغ هذه الكتلة، كما يسهم الجسد في كسر العلاقة النمطية بين الكتلة والفراع ويضفي عليها دينامية مفعمة بالحركة والسكون معا.

يغيِّب جبر علوان في اللوحات ملامح الجسدية، ليضفي عليها حالة من الغموض والشجن، ويبرزها كحالة فنية ينفعل بها متأثرا في أسلوبه بنتف من التعبيرية الألمانية، وأعمال رامبرانت على وجه الخصوص، لكن هذه الحالة ـ مع ذلك ـ تومض في اللوحات بطزاجة لونية خاصة لها ايقاع موسيقي أخاذ، ومشرَّبة بمسحة من الحنان الشاعري، كما أن أشكاله في كل حالاتها تتسم بتبسيط سلس، وخطوطه برغم ما بها من صرامة ودكنة لونية، إلا انها ليست جهمة أو مصمتة، بل تنساب فوق السطح، وفي حنايا الكتل والأشكال بأناقة وتراخ موحيين، وكأنها في حالة تثاؤب، أو بين الحلم واليقظة، اضافة الى انه يحيطها بتدرجات عفوية شفيفة رزينة ليس بها تكلف أو اسراف. ينحاز جبر علوان للون، ويوليه أهميه خاصة على الرسم، بل أتصور ان الرسم في منظوره الفني يولد من اللون نفسه، ويستقي حيويته وحضوره من انثيالاته وانبثاقاته في تضاريس اللوحة، لذلك يبرز الجسد في اللوحات كحالة لونية، ولا يكترث جبر بالحدود المادية المرئية للشكل، وإنما يعمد الى طمسها وتهشيرها في طلاءات حالمة مشعة ومنطفئة، لها طابع حسي شهوائي ومخملي في الوقت نفسه.

ولعل هذا ما يبرر لي على الأقل هذا الشعور بالملل والسأم والحزن الذي يخيم على نسائه في اللوحات، وكأن ثمة احساسا ما بطعم الخطيئة يسيطر عليهن، ويطاردهن، ويجعلهن دائما في حالة من التوجس والانتظار.