رحلة يسوع المقدسية الأخيرة من حقل الزيتون إلى الجلجلة

فيلم ميل جيبسون الجديد المثير للجدل «آلام المسيح» التزم حرفيا بالنصوص الإنجيلية وتحاشى ذكر التواريخ الخلافية

TT

لوكان فيلم «آلام المسيح» حوارا في اطار العقائد لما نال ربع الاهتمام الذي يحيطه به الاعلام العالمي لكننا نعرف وهم يعرفون ان المغزى السياسي الكامن خلف هذه الرسالة التي جاءت على شكل فيلم تاريخي ـ يكاد يكون حرفيا لما في الاناجيل ـ هو الذي يحرك كل هذا الضجيج وكل ذاك الغضب، فقد ظن اليهود ان قيام بابا الفاتيكان بتبرئتهم من دم المسيح عليه السلام قبل اكثر من ربع قرن من الزمان أقفل بابا داهمتهم منه رياح كراهية كثيرة على مدار العصور، وها هو فيلم سينمائي لا يدّعي القداسة وليس له من السلطات الكنسية شيء يلغي كل ما قاله البابا المتسامح الذي تحرك وقتها كما قيل في تفسيرات قراره التاريخي في اطار تكريس التسامح والمحبة، فعيسى عليه السلام كما هو منسوب اليه في انجيل متى يقول: «سمعتم انه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك واما انا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم».

وقبل ان نستعرض هذا الفيلم والمناخ الدولي الذي ولد فيه لا بد من التأكيد بعد رسالته السياسية على انه حوار داخلي في قلب اللاهوت المسيحي، فالاسلام موقفه واضح من مسألة الصلب لقوله تعالى في الآية 157من سورة النساء «وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبه لهم وان الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم الا اتباع الظن وما قتلوه يقينا».

ان فيلم ميل جيبسون ليس عن حياة المسيح كلها بل عن الساعات الـ12 الاخيرة من حياته المباركة على الارض منذ ان أرشد يهوذا كهنة المعبد الى مكانه في حقل الزيتون الى ان حاكموه وصلبوه حسب الاعتقاد المسيحي، اما اللقطات المؤثرة التي تسبق تلك اللحظات عن العشاء الاخير وانقاذ المجدلية والطفولة في بيت يوسف النجار فتعرض عبر لقطات الفلاش باك ومعظمها يتذكرها يسوع في ساحة التعذيب الرومانية وعند أقدام الصليب على الهضبة المطلة على القدس التي تعرف بالجلجلة وفي روايات اخرى الجلجثة وقد صار الطريق المؤدي اليها الذي كان آخر ما يقطعه المسيح رمزا للعذابات الكونية بأسرها. ولا شك ان الغضب الصهيوني من مخرج ذلك الفيلم له ما يبرره فهو لم يخرج عن النص الإنجيلي ابدا وكانوا يريدونه ان يخرج ويدخل كما دخل غيره في تفسيرات عديدة، وهنا المشكلة الاولى فذلك النص واضح في ادانته لهم وفي تحملهم المسؤولية التاريخية (دمه علينا وعلى اولادنا من بعدنا). اما المشكلة الثانية فانه عرض بيلاطس البنطي الحاكم الروماني الذي تمت محاكمة المسيح في عهده بصورة فيها الكثير من التعاطف وتلك مسألة لا يد للمخرج فيها، فالمشهد المؤثر الذي يغسل فيه بيلاطس يديه قبل تسليم السجين لجلاديه ويقول: «انا بريء من هذا الدم انتم وشأنكم به» يرد ايضا بحرفيته في انجيل متى مع تفصيلات قليلة مختلفة في الاناجيل الاربعة ـ مرقس ولوقا وحنا ومتى ـ تتعلق باطلاق سراح القاتل باراباس وما جرى في العشاء الاخير وكلها صورها الفيلم تصويرا دقيقا وبطيئا ومغيظا لمن ظنوا انهم وضعوا هذه العقدة التاريخية خلف ظهورهم.

* لماذا لم يمنعوه..؟

السؤال الاساسي وسط هذه الضجة كلها لماذا لم يستطع الصهاينة بكل نفوذهم في اميركا منع عرض هذا الفيلم الذي يعتبرونه مسيئا؟ وللاجابة لا بد من لمحة تاريخية مبسطة فالمسيح من اليهود وكونه يهوديا كما ينص على ذلك اللاهوت المسيحي ساعد على دعم فكرة اقامة الدولة اليهودية في فلسطين كما أكد ذلك اكثر من كاتب منهم دوغلاس ريد مؤلف «جدل حول صهيون» الذي يقول حرفيا: «وغالبا ما استخدمت يهودية المسيح لقمع معارضة الذين يقاومون التأثير الصهيوني في السياسة الدولية لانه ما دام المسيح يهوديا فلا يجوز للمسيحيين الاعتراض على اي شيء تقوم به الصهيونية باسم اليهودية».

ويكمل هذا الفهم السياسي المبتسر فهم لاهوتي اكثر ابتسارا، فبعد ان انقسم العالم المسيحي بين كنيسة بولس وكنيسة بطرس جاءت رؤيا يوحنا التي لا يعتمد عليها المسيحيون الشرقيون كثيرا وألحقت في القرن الرابع الميلادي بالاسفار المقدسة وصارت تمثل فهما مركزيا للمسيحية الغربية وفي تلك الرؤيا التي تتحدث بعد خراب بابل ـ العراق عن المجيء الثاني للمسيح ليصرع الدجال ويقيد الشيطان ويقيم مملكة المحبة، لا بد من دولة يهودية يعود اليها المسيح وبذا صارت اسرائيل عند الاصولية المسيحية الاميركية والغربية عموما ضرورة للعودة الثانية فهي ليست هامة بذاتها بقدر ما هي وعاء للتحقق، لذا يستطيع الصهاينة ان يمنعوا ويحاربوا كل ما يمس أمن تلك الدولة لكنهم عاجزون عن محاربة رؤيا تنبع من داخل الكاثوليكية التي تغذي الاصوليات الغربية ـ وميل جيبسون كاثوليكي استرالي ـ خصوصا اذا كانت تلك الرؤية عقيدة ثابتة عند الملايين الذين يدعمون اسرائيل ويريدون بقاءها الى ان يعود المسيح فينتصر اليهود ويدخلون المسيحية ويهجرون موسويتهم ومن يرفض ذلك يباد في جملة من يباد من البشرية التي لن يبقى منها غير خراف الله المدموغين على جباهم وعددهم 144 ألفا، وكل هذه التفاصيل التي التزم بها المخرج بدقة لم تترك لهم منفذا لضرب المسيحيين بعضهم ببعض، فالفاتيكان في حكمه الجديد قال عن الفيلم انه ترجمة دقيقة للاناجيل وقطع الطريق على انشقاق لاهوتي يحدثه هذا الفيلم. وعودة الى بيلاطس الذي كانت طيبته ضرورية لاظهار شر كهنة المعبد فقد استغل المخرج ذلك التناقض بذكاء واظهر في اكثر من مشهد كيف حاول الحاكم الروماني في الفيلم والتاريخ المكتوب والاناجيل ان يبعد نفسه عن المشاركة في دم المسيح فارسله اولا الى هيرودانتيباس حاكم الجليل الذي تصادف وجوده في القدس ليحكم عليه بوصفه مواطنا جليليا من اتباعه لكن الثاني اعاده ليتلافى الخلاف مع كهنة المعبد من يهود القدس وحتى حين حاول بيلاطس في الاجتماع العام الاكتفاء بالجلد والحبس أحرجه الكهنة امام الجمهور وزاودوا عليه في حب القيصر فقد قالوا له حسب ما ورد في انجيل يوحنا: «ان أطلقت هذا فلست محبا لقيصر». وهنا يجب ان نتذكر انهم اضافوا الى تهم عيسى عليه السلام تهمة التشجيع على عدم دفع الضرائب للقيصر، وهذه التهمة الوحيدة التي يمكن ان تفهمها روما وواليها الوثني المتحدر من ثقافة هللينية عرفت تعدد العبادات والاوثان ولا يضيرها ان تضيف الى اصنامها وثنا جديدا مهما كان اسمه، وعليه فان يهود القدس في زمن بيلاطس ادركوا انه لن يستجيب لهم إن اكتفوا بالقول ان يسوع يطعن في عقائدهم فذاك كان متاحا في ازمنة الحريات الدينية لذا لا بد من تلفيق تهمة اضافية مفهومة تمس دخل الدولة وخراجها وتتيح اتهام الحاكم بالتقصير ان لم يعاقب مرتكبها.

ولا تأخذ مسألة الضريبة حيزا هاما من الفيلم، فالمخرج ركز على خوف بيلاطس من انتفاضة شعبية إن هو أغضب كهنة المعبد وقد انعكست تلك المخاوف في حوارات بيلاطس مع زوجته التي كانت متعاطفة مع المسيح قولا وفعلا، فهي التي ارسلت تحذر زوجها من الحكم بالموت على الرجل الصالح ثم قامت بعد جلده في واحد من اقسى مشاهد الفيلم باعطاء المريمتين (العذراء والمجدلية) شرشفا ابيض لجمع الدماء الطاهرة وتجفيفها من ساحة التعذيب الرومانية.

وكان الرومان يجلدون حسب عادات كل المحكومين قبل صلبهم او اعدامهم فذاك عصر الوحشية الحقيقية التي ظهرت في الفيلم بأبشع صورها، وهذا ما دفع البعض الى مقارنته بأفلام الرعب لكن جيبسون كان كما اسلفنا حرفيا ومخلصا للتاريخ والنص اللاهوتي في ترتيب مشاهده، والاثنان احيانا يتطابقان بسبب الغلطة التاريخية التي ارتكبها اليهود حين حاولوا دوما الضغط لكتابة تاريخ العالم القديم استنادا الى اسفار العهد القديم.

وقد حاول جيبسون وهو يقدم في مشاهد فيلمه المثير للجدل جلادين يضحكون ويعبثون، وهم يجلدون السيد المسيح ان يعكس مناخ ذلك العصر العنيف الذي كانت فيه الحساسية الانسانية في أضعف اطوارها وكان التعذيب والقتل يمارسان كنوع من التسلية والترفيه عن الجمهور وإن شئت ان تعرف ذلك المناخ وكيف كان المسيحيون يعذبون بعد اعوام من المسيح في عهد الامبراطور نيرون، فهناك نص عند المؤرخ الروماني تاسيتوس يحكي فيه عن السخرية الفجة من بعض المعتقلين «خاطوا عليهم جلود حيوانات ثم اطلقت عليهم الكلاب الشرسة لتنهشهم وبعضهم تم ربطه الى صلبان اشعلت فيها النيران ليلا وظلوا في أماكنهم كأعمدة انارة الطرق».

* رومانسية إنسانية

يبدأ الفيلم ساعة الغبش من حقل الزيتون الذي تعرفه المصادر التاريخية باسم «حديقة جيتسيميني» التي قال فيها المسيح لحوارييه، وهو يحس باقتراب الكأس التي طلب صرفها عنه، عبارته الحزينة الشجية «نفسي حزينة حتى الموت، امكثوا هنا واسهروا»، وفيما الكاميرا تنتقل بين الحواريين مع معلمهم في الحديقة ويهوذا مع الكهنة في المعبد يفاوضهم على تسليم المسيح مقابل ثلاثين مثقالا من الفضة نرى بالفلاش باك نبوءة عيسى عليه السلام بخيانة يهوذا الاسخريوطي: «ان واحدا منكم سيسلمني.. هو الذي اناوله اللقمة التي اغمسها فغمس اللقمة ورفعها وناولها يهوذا بن سمعان الاسخريوطي فقال له يسوع: افعل ما أنت فاعل وعجل».

اما النبوءة الثانية عن انكار بطرس له ثلاثا قبل صياح الديك والتي بدأت بوعد بطرس بأن يبذل نفسه في سبيل معلمه فقال له يسوع «لا يصيح الديك الا وقد انكرتني ثلاث مرات» فنراها على مراحل واحدة في المعبد بينما الكهنة يحققون والثانية في ساحة قصر الحكم، اما الثالثة ففي طريق الجلجلة الطويل المتعب الدامي الذي أعطى المخرج الفرصة لعرض جوانب رومانسية كثيرة من حياة يسوع الشاب والطفل والانسان المحب، فحمايته لمريم المجدلية بعد ان خط خطاً في الرمال وانقذها من الذين كانوا يريدون رجمها تتأخر نسبيا في اللقطات الاستعادية الانسانية التي كان يكسر بها المخرج خط العنف الرهيب الذي فرض نفسه على فيلم فظيع في دمويته ومعروف البداية والنهاية.

وربما كانت مشاهد المجدلية المحببة من الرجم الى القبر هي التي فرضت نفسها قبل جيبسون ومدير انتاجه على نيكوس كازانتزاكيس مؤلف «الإغواء الأخير للمسيح» حين كتب عن المجدلية في مذكراته «الطريق الى غريكو» بتلك اللغة الشاعرية الشفافة التي تعكس حبا دنيويا وآخرويا معاً فقال عنها في مونولوغ يسبق زيارة القيامة:

كتفاي الدنيويتان تطفران كجناحين

لكن الفجر يبطئ بالمجيء وانت ايتها الروح

لا تتعجلي قبل ان ارتدي ملابسي واذهب

انظري انني ألبس له كعروس وأتأنق

اقبل الكلمة بفرح وحزن كما لو انها رجل

وعندما اصل الى قبرك الحبيب يا مسيحي

عبر دروب مشكولة بالورد

سأتمسك بركبتيك الشاحبتين

مثل امرأة هجرها حبيبها

كي لا تتركني ابدا

لقد اثار فيلم «الاغواء الاخير للمسيح» قبل عشرين عاما ضجة كبيرة لكنها ليست مماثلة للضجة الحالية، فتلك كانت من مسيحيين استنكروا المبالغة في تصوير الجوانب الانسانية والحسية ليسوعهم، فالغواية الاخيرة للمسيح حسب كازنتزاكي في كتابه الذي يحمل الاسم نفسه عن الرؤى الخادعة للحياة البشرية السعيدة فآخر غوايات المسيح عند الجلجلة جاءت على شكل سؤال: ماذا لو تزوج وأنجب وعاش ليصبح عجوزا يتذكر صبابات شبابه السعيدة، وهو ينتظر احفاده على عتبة بيته المريح..؟

اما الضجة الحالية فهي من يهود وصهاينة غاضبين لا يجدون ضرورة عصرية للتذكير بالمسائل التي ثار عليها عيسى عليه السلام وحمل كهنة معبد القدس مسؤولية انتشارها بين الناس، فهم وحسب صرخة استنكاره التي ما تزال ترددها الاجيال حولوا بيوت الله الى مغارات لصوص.

وكانت التهمة ذاتها مع تهم اخرى قيلت بحقهم منذ عهد ارميا: «أتسرقون وتقتلون وتزنون وتحلفون كذبا وتحرقون البخور لبعل وتتبعون آلهة ليس لكم بها علم لقد أصبح هذا المعبد مغارة لصوص».

وفي انجيل متى يقول لهم يسوع: «... ويل لكم ايها الكتبة والفريسيون

المراؤون لأنكم تشبهون قبورا مبيضة تظهر من خارج جميلة وهي من داخل مملوءة عظام اموات وكل نجاسة لانكم تبنون قبور الانبياء وتزينون مدافن الصديقين وتقولون: لو كنا في ايام آبائنا لما شاركناهم في دم الانبياء فانتم تشهدون على انفسكم انكم ابناء قتلة الانبياء فاملأوا انتم مكيال آبائكم ايها الحيات اولاد الافاعي».

هذا هو الخيط الدرامي الاساسي الذي امسك به المخرج المتدين ونتيجة لهذه الخلفيات المعروفة بنصوصها لم يجد ميل جيبسون صعوبة في رسم ملامح المعسكرين المتصارعين بين الكهنة الذين كان يمثلهم ايام المسيح كايافاس ـ ينطقونها بالعربية قيافا ـ وبين عيسى وحوارييه وهكذا ظل الرومان بمثابة حكم بين الطرفين واضطروا لتنفيذ رغبة الكهنة الظالمين مع ان عواطفهم كانت مع يسوع المظلوم ويبدو ان القدس كانت تخضع تلك الايام لسلطة مزدوجة، فالحراس اليهود الذين قبضوا عليه في الحقل غير الرومان الذين تسلموه بعد التحقيق الدامي، وقد ميز جيبسون بين الطرفين بالملابس وخوذة الرأس المختلفة من دون ان ينجو من الخلط في بعض المواقع التي ظهرت فيها سلطة مشتركة اليد العليا للرومان الذين يستعينون في تلك المهمة بالذات بحرس المعبد اليهودي.

وتبقى ملاحظة تاريخية تلافاها جيبسون بذكاء حينما لم ينص على تواريخ محددة على الشاشة فأحداث فيلمه تجري ليلة الخميس وصباح الجمعة مع لقطة نورانية صباح الاحد لكنه لم يذكر تاريخ السنوات، فتلك مسألة خلافية لأن التاريخ الميلادي بدأ حين كان عمر عيسى عليه السلام ست سنوات وليس من يوم ولادته كما هو شائع أما ولاية بيلاطس البنطي فمعروف انها ما بين عامي 26 الى 37 للميلاد، وهنا ليست للصهاينة مشكلة مع التاريخ الدقيق في هذه الاعوام العشرة، فمشكلتهم الاساسية مع الرؤية ومع تجديد ذكرى زعيم الفريسيين قيافا واولئك الاجداد الذين صورهم الفيلم إخلاصا للنص بصورة يندى لها الجبين.