كيف عالجت القصة الأميركية قضايا مجتمعها خلال القرن المنصرم؟

حروب الأميركيين والأزمات الاقتصادية وشبح فيتنام في قصص بالعربية مختارة من مجلد بـ775 صفحة

TT

إذا لم يكن بمستطاع القارئ أن يختار أفضل ما كُتِب من بين آلاف القصص الأميركية التي كتبت خلال القرن المنصرم، فإن الدكتور علي القاسمي بذل جهداً موفقاً في هذا المجال، وقدم لنا كتاباً جديداً بعنوان «مرافئ على الشاطئ الآخر» ضم اثنتين وعشرين قصة لبعض أبرز الأصوات القصصية الأميركية وأعلاها في القرن العشرين، محاولاً الاقتراب من أسلوب وتقنيات كل كاتب قدر ما تسمح به ترجمة النصوص الأدبية.

في مقدمته للكتاب يلاحظ القاسمي وجود تحول في القصة الأميركية في أواسط القرن، تجلى في التخلي عن تصوير أوضاع المجتمع والاتجاه إلى تصوير حالات الفكر، والانتقال من سرد الأحداث والوقائع إلى تحليل المشاعر والعواطف. وهكذا فإن الحقائق التي تقدمها القصص لم تعد بينة واضحة بل مغلفة باللغز والرمز، وأخذ القصاصون ينافسون الشعراء في استخدام الأخيلة الشعرية واللغة الموحية المموسقة.

لقد اعتمد المؤلف في هذا الكتاب الذي جاء بـ254 صفحة من القطع الوسط، ضمن منشورات أفريقيا الشرق في بيروت والدار البيضاء، على مجلد ضخم يحمل عنوان «أحسن القصص الأميركية في القرن العشرين» صدر بإشراف الروائي الأميركي جون أبدايك، واشتمل على خمس وخمسين قصة قصيرة مختارة من الإنتاج القصصي الأميركي في الفترة الواقعة بين عامي 1915و1998.

وكان أبدايك قد استعان بسلسلة تصدر سنوياً تحت عنوان «أحسن القصص الأميركية» أسسها الشاعر المسرحي أدوارد أوبراين عام 1915 بعد تخرجه من جامعة هارفرد ولم يكن عمره يتجاوز اثنتين وعشرين سنة يومذاك. وأخذ أبدايك يختار قصة واحدة من كل كتاب سنوي من كتب هذه السلسلة واضعاً نصب عينيه بعض المعايير، وأهمها أن تعكس القصص المختارة روح القرن العشرين عقداً عقداً، وأن تعبر عن الواقع الأمريكي بيئته وثقافته وشخوصه وقضاياه.

وفي مقدمته للمجلد الضخم الذي أصدره بـ775 صفحة، شكا أبدايك من أن معظم الأدباء الأميركيين ينتمون إلى طبقة مترفة تعيش في المدن الكبرى، وأنهم يأنفون ويترفعون عن الخوض في مشكلات الشرائح المحرومة من العمال والفلاحين في قصصهم القصيرة، وأن بعضهم كان يزاول الكتابة في مقاه باريسية فاخرة، كما كان يفعل أرنست همنغواي وسكوت فيتزجرالد وغيرتيتو شتاين وغيرهم فيتناولون حياة الناس البسطاء في أميركا بصورة شعبية مصطنعة بعيدة عن الواقع الفعلي. ولهذا لم يصر أبدايك على واقعية القصة معياراً للاختيار بقدر ما كان يتوخى في القصة التي ينتقيها أن تكون قصة حية، وجميلة، مقنعة، ومهمة من حيث كشفها عن الطبيعة البشرية.

ومع أن المجلد قد تضمن خمساً وخمسين قصة مختارة، فإن القاسمي عمد إلى اختيار اثنتين وعشرين منها، مركزاً على ما يجسد أهم قضايا المجتمع الأميركي، مثل الهجرة إلى العالم الجديد ومعاناتها النفسية والاجتماعية، والحروب وويلاتها وآثارها المدمرة خاصة أن الولايات المتحدة عاشت حروباً متواصلة في القرن العشرين أفظعها الحرب العالمية الأولى، والحرب العالمية الثانية، وحرب كوريا، وحرب فيتنام، وكذلك الأزمات الاقتصادية كتلك التي وقعت عام 1929، وقضية الحقوق المدنية أو نضال السود الأمريكيين والأقليات الأخرى من أجل إلغاء التمييز العنصري، وأخيراً الأمراض الفتاكة التي لم يتوصل الطب بعد إلى علاج شاف لها كالسرطان ومرض نقص المناعة.

كانت هنالك ضمن الاختيارات قصة واحدة لستة عشر كاتباً هم جيمس ثيربر، شيروود أندرسون، جون شيفر، هارولد بر ودكي، جويس كارول أوتس، رون كارلسون، باري حنّا، ليونارد ميخائيل، جون أبدايك، أليس آدمز، دونالد بارتلم، سوزان سونتاغ، توبياز وولف، تيم أوبراين، بام دوربان، وآن بياتي. إلا أنه اختار قصتين لأرنست همنغواي، وثلاث قصص لإسحاق عزيموف. حملت أولى قصتي همنغواي عنوان «شيخ عند الجسر»، وهي من نتاج الفترة التي عمل فيها مراسلاً حربياً أثناء الحرب الأهلية الإسبانية، وكتب خلالها روايته الشهيرة «لمن تقرع الأجراس؟». وإذ جاءت هذه القصة لتعكس بعض صور تأثيرات الحرب على الإنسان، فانها تناولت معاناة رجل غير منتم في السادسة والسبعين من العمر، كان آخر من ترك منطقته جراء القصف المدفعي، وذلك لرغبته في البقاء كي يرعى حيواناته. أما القصة الثانية «القتلة» فقد عكست واقعاً يتمحور حول مكيدة لقتل عجوز سويدي في مطعم أميركي لا لشيء إلا لإسداء معروف إلى صديق.

أما القصص الثلاث لإسحاق عزيموف فقد كانت قصيرة جداً وجميعها من قصص الخيال العلمي، واتسمت بمشاعر القلق والرعب. ففي قصته «اللاشيء» يتحدث عن خوف يعتري سكان إحدى المناطق من أن هنالك حفرة كونية سوداء صغيرة ستقضي على الكوكب الأرضي، فيكتبوا وصاياهم ويذرفوا الدموع على أكتاف بعضهم البعض، ويتبين فيما بعد ان الصخرة هي مجرد نجيم اعتيادي صبغه أحدهم باللون الأسود، ثم يُقتل هذا الشخص على أيدي الجماهير الغاضبة، ليس بسبب فعلته بل لأنه أعلن على الملأ انه سيكتب مسرحية عظيمة عن الواقعة برمتها تحت عنوان «جعجعة من الوداع بلا طحين». وفي أجواء مماثلة تأتي القصتان الأخريتان.

وتحت عنوان «الأشياء التي يحملونها» نقرأ للكاتب تيم اوبراين قصة تتحدث عن عذابات الجنود في حرب فيتنام، يعمد فيها إلى تكرار بعض الأحداث وبعض العبارات لشد القارئ والتأثير عليه. ونقرأ بين ثنايا النص: «كانوا يحملون كل العبء العاطفي الذي يشعر به رجال مقبلون على الموت. حزن، ورعب، وحب، وشوق ـ وهي أحاسيس ليست معروفة، وعلى الرغم من أنها ليست ملموسة، فإنها تتمتع بمركز ثقل معين خاص بها، لها وزن ملموس. كانوا يحملون ذكريات مخجلة. كانوا يحملون سراً مشتركاً عن الجبن الذي يصعب التحكم فيه، تلك الغريزة التي تدفعهم إلى الفرار، أو التجمّد، أو الاختفاء، ومن ناحية معينة يعد ذلك العبء أثقل ما كانوا يحملون، لأنهم لا يمكنهم أن ينزلوه ويتخلصوا منه، فهذا يتطلب توازناً نفسياً كاملاً واستقراراً أكيداً. كانوا يحملون سمعتهم معهم. كانوا يحملون معهم أشد أنواع الخوف التي تنتاب المقاتل، وهو الخوف من احمرار الوجه خجلاً».

وفي قصتها «الطريقة التي نعيش عليها»، تحدثنا الكاتبة سوزان سونتاغ عن أشخاص عديدين يتناقشون عن مرض فقدان المناعة «الإيدز» ولكنهم لا يسمونه، ويتحدثون عن صديقهم المصاب به ولكنهم لا يسمونه كذلك، فهم يقولون كل شيء ولا شيء في آن. ومن خلال الغمز واللمز واللوم المتبادل في محادثاتهم يستخلص القارئ موقف الكاتبة من الطريقة التي تعيش عليها هذه المجموعة من الناس. ومن القصص الأخرى التي تلفت انتباهنا قصة للكاتبة بام دوربان بعنوان «قريباً» تناولت فيها مشاكل كبار السن ودور المعجزة، مركزة على تعقيدات العلاقة بين امرأة عجوز وأبنائها الذين وضعوها في إحدى هذه الدور، معتمدة في ذلك على أحداث واقعية استقتها من اجتماع عائلي ضم بعض أقاربها وهي طفلة، وبقيت وقائعه حية في ذاكرتها.