لماذا صار مالئ الدنيا (شاتم) الناس؟

العدوان واضح والسادية صارخة والناس هدف دائم وزهير بن أبي سلمى رائد نظرية التلقي في الشعر

TT

لأن الشاعر فنان ينفرد في سلوكه وأحاسيسه ومواقفه، نراه موضع لوم ونفور أحياناً، أو تقريع وتجريح ممن يحيطون به، ومن الاصدقاء مخلصين أو حاسدين، ومن الحبيبة، حقاً أو باطلاً، وفي أكثر الأحيان، يكون الفنان أو الشاعر في حالة تأهب للدفاع عن النفس، كأنه متهم أو أن اللوم يوهم بارتكابه جرماً، أو أنه مستسلم لا يهمه ما يدور حوله، أو ينأى عن المخلوقات التي تحيط به، أو يشبعها شتماً وازدراء، كما فعل المتنبي.

لكن الشاعر، طوع ما يمليه عليه إحساسه، ينطق عن دواخل نفسه شعراً من ما يُحدث لدى بعض الناس موجة من الغيرة لأنهم لا يستطيعون أن يبلغوا شأوَه ولا يمتلكون موهبته أو يفهموه أو يدركوا مرامي إبداعه، وكأن الشاعر نكب بالناس أو أنهم ابتلوا به، وتزداد الحالة سوءاً فتورث الشاعر العزلة والأسى والهرب من الآخرين العاجزين عن بلوغ ما يجري في ذهنه وحياته وطموحه وتطلعه إلى الكمال، وما يحيط به من خيبات وإحباط، وأساه المميت لنقص يرافق البشر في كل شؤونهم ومنازعهم أو غباء يطغى على أكثرهم. أليس أرفع وسام يمكن أن يقدم إلى الشعراء تقديرا لبطولتهم وكونهم من الرافضين أبداً ألا يصبحوا نزلاء المصحات العقلية؟ تاركين جانباً أنهم لا ينالون التقدير والاعتزاز في حياتهم، إلا أن فريقاً من الشعراء، لهذا وذاك، لم يحسنوا الظن بالمتلقين، ولا اعترفوا بأنهم سبب ذيوع شهرتهم، ربما لأن سلطة المتلقي لم تكن آنية مباشرة كالممدوح وآلاف دراهمه التي تنهال على رؤوس الشعراء إذا ما استطاعوا أن يثيروا نرجسيته ويخففوا من وطأة دونيته ويطمئنوا نقصه وتصوره بأن الأفلاك تدور حوله فقط ومن أجله حسب، أو ربما يكون ذلك، رد فعل للإعراض الذي يلقونه من الناس أو الهزء أو الحسد.

لم يترك الشعراء الناس وشأنهم، ولم يكف الناس عن ملاحقة الشعراء، كل يحاول أن يوقع بالآخر، لماذا؟..

خابت آمال دعبل الخزاعي حين لم يعلقه أحد بمشنقته، التي حملها على كتفه خمسين عاماً، هل نجد في هذه الخيبة سبباً لقوله:

ما أكثر الناس لا بل ما أقلهمو

الله يعلم أني لم أقل فندا

إني لأفتح عيني حين أفتحها

على كثير ولكن لا أرى أحدا

إذن لمن يكتب هذا الشاعر؟ هذه المواقف من الناس التي لا تكف عن التقريع، هل يرى الشعراء أنها تفصح عن مكامن ما يشكون من كوارث حقيقية أو متوهمة؟ هل العلة فيهم أو لدى الناس؟ هل لحساسية الشاعر دور في دفعه إلى شرك الآخرين؟ إن دعبل الخزاعي نفسه قد وجد أحداً وآحاداً، منهم رجل صديق يخاطبه بقوله:

بدأت بإحسان وثنيت بالعلا

وثلثت بالحسنى وربعت بالكرمْ

ويسرت أمري واعتنيت بحاجتي

وأخّرت لا عني وقدمت لي نعمْ

إن ذم الناس غرض قائم، لكنني لم أجد المصنفين يدسونه بين الأغراض الشعرية، لعلهم يعلمون أنهم جزء من أولئك الناس وأنهم أيضاً المقصودون بالذم، ويشغل أحد كبار شعرائنا موهبته بذم الناس، كنا نود لو يعرض عنهم، وينصرف إلى إبداعه، وهو شامخ مدل بتفوقه:

أذم إلى هذا الزمان أهيله

فأعلمهم فدم وأحزمهم وغدُ

وأكرمهم كلب وأبصرهم عمٍ

وأسهدهم فهد وأشجعهم قردُ

وهو القائل ولا ندري كيف نسوغ قوله أو نجد له فيه عذرا:

أي محل أرتقي أي عظيم أتقي

وكل ما قد خلق الله وما لم يخلقِ

محتقر في همتي كشعرة في مفرقي

أو قوله:

واقفا تحت إخمصي قدر نفسي

واقفاً تحت إخمصيَّ الأنام

أو تحويله الناس إلى بعران:

لو استطعت ركبت الناس كلهمو

إلى سعيد بن عبد الله بعرانا

فلماذا؟ إنه عدوان واضح وسادية صارخة والمتنبي مالئ الدنيا و(شاتم) الناس يستطيع أن يمحق من يعكر عليه صفو أيامه بسيفه وشعره، لماذا لم يطبق في حياته ما جاء بأبيات يؤكد فيها انه لا يولي الناس اهتماما:

إن الكِذاب الذي أُكاد به

أهون عندي من الذي نقلهْ

فلا مبال ولا مداج ولا

فان ولا عاجز ولا تُكَلَهْ

ودارع سفته فخرّ لقىً

في الملتقى والعجاج والعجلهْ

وسامع رعته بقافية

يحار فيها المنقح القُوَلهْ

أو يرى ما رآه المعري:

وزهدني في الخلق معرفتي بهم

وعلمي بأن العالمين هباء

وإن أشبع الناس تقريعاً:

قالوا: العمى منظر قبيح

قلت: بفقدانكم يهون

والله ما في الوجود شيء

تأسى على فقده العيون

أظن أن المتنبي كان مبتلى بعقدة (القطيع) يرى نفسه متفوقاً حين يوغل بالموازنة بينه وبين الآخرين، ويأسى لأنه ينتمي إلى الفصيلة ذاتها بغبائها العام، فكيف يتساوى، مع من يزدريهم، خليقة؟ ولكنه ينسى أن هناك نخبة، وان فريقا ملأوا أكثر ديوانه مدحا، ويحاول شعراً أن ينأى عن القطيع أو يصبح في الأقل راعيا (لذا أهان نفسه كثيرا بطلبه ولاية من كافور).

وللشريف الرضي موقف شديد:

الناس حولك غربان على جيف

بلهٌ عن المجد إن طاروا وإن وقعوا

ويحب نزار قباني بيت الخزاعي:

إني لأبحث في عينيك عن قدري

وعن وجودي ولكن لا أرى أحدا

ولدى أحمد الصافي النجفي سؤال:

عيني ترى ما لا يرون وعينهم

ما لا أراه ترى ففي أي عمى؟

وكانت اتجاهات تشير إلى اهتمام الشعراء بالمتلقين واحترام أولئك لهؤلاء، وإلا لماذا كان زهير بن أبي سلمى ومن شابهه يخشون الخطأ؟ ويبقون النص حولا عسى أن يكتشفوا فيه ضعفاً لا يليق بهم وبمتلقيهم؟ هنا يبرز دور المتلقي وصلابة النقد في تبرئة النص المقدم إليه من العيوب، قبل ظهور نظرية التلقي وما إليها بزمن بعيد.

واتجاهات أخرى تدل على احترام الشعراء للناس ومحبتهم وبحثهم عن اصدقاء من بينهم، بالرغم من الشتائم التي وجهت اليهم قديما وحديثا، وللصداقة والصديق مكانة لدى الشعراء، وللوفاء والجفاء سطوة، وللفنان إحساس دفين بأن يفعل ما يشاء، يتمرد، يخرق السجف، يهتك الأصول، وعلى الآخرين من الأصدقاء، والأحباب والأعداء أن يجدوا العذر دائماً وأن يدللوه (كطفل أهلوه ما هذبوهُ) وأن يشعروه بأنهم هم المذنبون، لا يهنأ إلا إذا كانت البشرية كلها في أعلى مــــراحل نضج الطب النفسي.

أما أبو تمام فيود أن يشرب أخلاق خدينه فينتشي ثم يعب آدابه فيثمل، وإذا غضب كان الحلم ستاراً وحاوياً ومطوقاً، ولكن من أين يأتي الشاعر بهذا الصديق:

من لي بإنسان إذا أغضبته

وجهلت كان الحلم رد جوابه

وإذا طربت إلى المدام شربت من

أخلاقه وسكرت من آدابهِ

وأراه يصغي للحديث بقلبه

وبسمعه ولعله أدرى بهِ

ويعود الشعراء إلى شتم الناس ويكثر فريق من اتهام المرأة الحبيبة بالهجر والإعراض والرجل والصديق بالهرب والنفور، يفضي إلينا الطغرائي:

إذا قلت إني قد ظفرت بصاحب

سكنت إليه خانني وأرابا

أقلب عيني لا أرى غير صاحب

ظننت به الظن الجميل فخابا

وكان قال:

فلا صديق إليه مشتكى حزني

ولا أنيس إليه منتهي جَذَلي

وسبق امرؤ القيس الشعراء إلى الشك في الصداقة والصديق مما يشوه العلاقات الطيبة بين البشر:

إذا قلت: هذا صاحب قد رضيته

وقرت به العينان بدلت آخرا

كذلك جدّي ما أصاحب صاحباً

من الناس الا خانني وتغيرا

ويقول ابو فراس الحمداني:

بمن يثق الإنسان فيما ينوبه

ومن أين للحر الكريم صحاب

وقد صار هذا الناس إلا أقلهم

ذئاباً على أجسادهن ثياب

وجميل ألا ينسى النخبة من أولئك الذئاب، ولأبي نواس:

أيها المنتاب عن عُفُرِهِ

لستَ من ليلي ولا سَمَرِهِ

لا أذود الطير عن شجر

قد بلوت المر من ثمرهِ

ولابن الرومي عتاب:

يا أخي يا أخا الدماثة والرقة

والظرف والحجا والدهاءِ

يا أخي هبك لم تهب ليَ من

سعيك حظاً كسائر البخلاءِ

أفلا كان منك رد جميل

فيه للنفس راحة من عناءِ

ولبلند الحيدري: يا صديقي/ لمَ لا تحمل ماضيكَ/ وتمضي عن طريقي .