إشكالية الهوية الاسلامية ومبدأ الحوار مع الآخر

مداخلة الشيخ حسين شحادة في ندوة الحوار الإسلامي ـ الإسلامي

TT

نشرت «الشرق الأوسط» امس مداخلتي الدكتور التويجري والدكتور العبيد وتلحقهما اليوم بمداخلة الشيخ حسين شحادة الذي شاركهما في ندوة الحوار الاسلامي ـ الاسلامي وركزت مداخلة الشيخ شحادة على قضية الهوية وتجلياتها في العالم الاسلامي، وقد تحدث الشيخ حسين أحمد شحادة عن ذهنية الحوار المذهبي والوحدة السياسية وعن الحوار في الإسلام بوصفه كاشفاً للهوية وحافظاً لها، وبدأ بإضاءة مفهوم الاستقامة على كلمة التوحيد بسؤال: كيف يمكن أن يستوي فهم المثقف العربي والمسلم لأطروحة مثيرة للاشكال كأطروحة الهوية؟ واضاف: ربما يجدر لتحصيل مثل هذا الاستواء، أن نعترف أولاً أن النقاش الذي جرى حول أزمة الواقع الإسلامي وإشكال هويته، كان على الإجمال نقاشاً سالباً، أي أنه جرى بين النخب العربية ـ الإسلامية على أرض بدا فيها المثقف العربي وكأنه فرع محلي لما ترويه عنا ثقافة الغرب، كذلك أن نعترف ثانياً بأن ثقافتنا العربية ـ الإسلامية وقعت في التباس قديم جديد لم تغادره بعد، مؤداه عدم الفصل بين القرآن كوحي إلهي، وبين الفقه والثقافة كنتاج معرفي بشري، الأمر الذي انعكس بقلقه وهواجسه على آليات فهم الذات، وبالتالي على آليات فهم الآخر، وان إرادة عدم المعرفة والحوار باتت تتحكم بقوة في طريقة نظر اللاحقين لما انتجه السلف.

وعن الخطاب العلماني والخطاب الديني، ونزعة الانفراد في صياغة المشروع النهضوي قال الشيخ شحادة: والآن وفي ظل المتغيرات العالمية والقومية والمحلية سيتضح لنا تدريجياً أننا كأمة إسلامية نواجه في ما يتعلق بمهمة الاندماج الاجتماعي والسياسي، بأربع رؤى أو تصورات بديلة للواقع. رؤية تنطلق من مفهوم الانتماءات الخاصة، ورؤية توفيقية مهادنة للأنظمة السائدة، ورؤية دينية، ورؤية قومية علمانية.

وعلى إيقاع هذه الرؤى المختلفة وتناقضاتها بدا المشهد سجالياً وصراعياً فاعتبر العلمانيون أن ليست في الإسلام سلطة دينية وأن القائلين بها مقلدون للغرب وكهانته الكاثوليكية، فيما اعتبر الإسلاميون أن العلمانية مفهوم مستورد من الغرب بدون أي مناقشة موضوعية لكلا المفهومين بغية تبيان سيئاتهما وحسناتهما.

وحول الهوية المثال وتراكبات الهوية التاريخية قال شحادة:

من الواضح للمتأمل عميقاً في مسألة الهوية أن هوية الأمم والشعوب والأوطان والإنسان تتعرض لعوامل السقوط والتحات والتعرية فما من أمة استطاعت أن تحتفظ بكل مكونات ومقومات هويتها على مدى آلاف السنين، من هنا تحتفظ الهوية الإسلامية بوعيها للسنن التاريخية وفلسفة التاريخ، ذلك أن التاريخ لا يرحم وعوامل التعرية قد تجرد الجبل الشامخ من مظهره وطبيعته وقدرته على الصمود والعطاء، لكن الإنسان إلى جانب مقومات الأمة والوطن قادر على أن ينتصر على كل ظروف الاندثار والغناء بوعيه لمقومات هويته ومرتكزها، فبوسعه أن يجاهد ليحتفظ بسمات هويته وخصائصها، وبوسعه أيضاً ان يتخلى عن أمانته التاريخية وعهده الرباني فتندثر هويته وتنمحي كما اندثر قوم عاد وثمود.

وفي الهوية الإسلامية والتعددية تساءل المحاضر:

هل تتعايش الهوية الإسلامية مع صورة الآخر المختلفة فكرياً..؟ وهل الهوية الإسلامية بالتحديد صراعية أم تواصلية؟ وإلى أي مدى تقبل هذه الهوية ما نسميه التعددية الدينية؟ هذا السؤال يجتذبنا إلى الحديث عن موضوع مثير في أدبيات الخطاب الإسلامي والخطاب العلماني حيث يجري الكلام عن العقل الإسلامي بين الانغلاق والانفتاح، فالمنغلق على ذاته ومعتقده ينفي الآخر ولا يعترف له بحقه في أن يكون مختلفاً عنه، إذ الاختلاف في نظره هو نقيض الهوية وضدها.

وختم الشيخ شحادة بالحديث عن اختراقات الهوية الشرق أوسطية وخيار الوحدة الاقتصادية فقال:

والآن وعلى ضغوط الظرفية الراهنة كيف يمكن تخليص الهوية الإسلامية من التبعية والاستحواذ العسكري والاقتصادي والسياسي، أو نصير اسماً بدون مسمى.

ان خيارنا الوحيد يتأكد الآن وأكثر من أي وقت مضى بطلب الوحدة السياسية، الأمر الذي يتطلب تجاوز ذهنيات التصنيف المغلقة التي انتهت إلى تشظي الهوية بتطرف اليسار واليمين معاً وتراشق التهم تحت وطأة شعارات كتبناها بدماء مجانية كانت تسير لترسيم الحدود الفاصلة بيننا باسم تصنيف وجودنا القاتل إلى وطنيين وخونة، ثم إلى قوميين وقطريين وصولاً إلى استسلاميين وصامدين. وعلى مدى هذه التوظيفات السلبية للتنازع والاختلاف بالرأي تعرت الهوية من مضمونها لنحرم أنفسنا من نعمة غطائها الذي كنا نستتر به، وبسقوط هذا الغطاء ستظل آفاق المستقبل الإسلامي مفتوحة على جميع احتمالات الهزيمة، ووسيلتنا الممكنة للخروج من تبعاتها وأعبائها النهوض بولادتنا من جديد من خلال تأسيس الوحدة الاقتصادية وهي وحدة لا تتعارض مع مطامح ومصالح العولمة والتي يبدو من شركاتها العملاقة أنها تفضل التعامل مع مجموعات قادرة على التعاون على حل مشاكلها بدلاً من الارتباط بدول قطرية منفردة.

وفي ختام المقاربات التي قدمها الشيخ شحادة عن ازمة الواقع واشكال الهوية قدم عددا من المقترحات والتوصيات منها:

اولا: ان مبدأ الحوار لا يجيز لأي تيار مهما يكن حجم تمثيله وقوته ان يستبعد تيارا اخر مادام موجودا وفاعلا في قضية البناء والنهوض وأول خطوة حقيقية للاقتراب من حداثة عصرنا هي في كسر الحواجز التي تحول حتى الآن دون خوض حوار نقدي واسع في ساحة الفكر العربي الاسلامي المعاصر وحول اسئلة العصر لتنطلق منها الى اسئلة اختلافاتنا، فبعد قيام الدولة القطرية في المنطقة العربية دخل مشروعنا النهضوي في واحد من امتحاناته الخطيرة، هو امتحان التوفيق بين المصلحة القطرية والحفاظ على السلطة من جهة ومستلزمات العمل الوحدوي بين هذه الدول القطرية من جهة اخرى.

ثانيا: لا ينبغي للحوار ان يكون حوارا مشروطا سلفا إلا بشروط المصلحة العليا للامة إذ لا معنى لحوار اذا لم يكن لكل طرف من اطرافه حريته الكاملة في التفكير والتعبير عما يرى ويفكر فالحوار الاسلامي ـ الاسلامي الذي يقترحه الاسلام ويصوغ آفاق وجوده ويؤسس لقيامه الحضاري هو حوار لا يمكنه ان يعيش في الفراغ ولا يمكنه ان يعيش منغلقا على ذاته لانه لا يستطيع ان يقيم مشروعه الحضاري بمعزل عن اعتبار الآخر حيث الآخر الثقافي ـ الديني من منظور اسلامي ليس موضوعا للنفي المتبادل. انه مجال لتواصل ما، مجال لتفاعل وتعارف واغتناء وبالتالي فان ابرز خصوصيات ـ الهوية الاسلامية ـ كونها مفتوحة على العالم الى كامل حدوده الانسانية.

ثالثا: يجب ان يدرك الحوار من موقع العقيدة الاسلامية ان هذه العقيدة السمحة لا تمنع المسلم من صياغة علاقاته وتحالفاته المرحلية والاستراتيجية بما يمكنه من تقديم فرص افضل لتحقيق هذه العقيدة فلئن اختلف المسلم مع المسلم في شأن من شؤون العقيدة فإنه يلتقي معه في اهداف واسعة تتعلق بصميم اهتمامات الرسالة الاسلامية المباركة سواء على مستوى قضايا التحرر من الهيمنة الخارجية او مستوى التنمية والبناء.

رابعا: من اجل اثراء الحوار وانضاج وعي الحوار الاسلامي ـ الاسلامي لا بد من تشخيص موجباته وموضوعاته ولا يخفى ان أي مشروع للنهوض والتحرر الشامل يقترحه هذا الحوار ـ لا بد ان تشارك فيه جميع القوى والتيارات التي تلتقي على ضرورته فينهض الجميع بمسؤولياتهم المشتركة لوضع اسس مشتركة لا يحققها الا قيام حوار جدي وعلى اوسع نطاق فكيف نسقط هذا الجدار المصطنع بين ما اسميناه نقلا عن ـ الاعلام الغربي ـ بالتنويريين ـ والظلاميين..؟ اوليست ازمة التمسك بنقل افكار ومفاهيم الخلافتين الاموية والعباسية، يوازي مأزق تمسك العلمانية اليوم بنقل الفكر الاوروبي الحديث باتجاهاته القومية والليبرالية؟

خامسا: ان العلاقة التباينية بين التيار الاسلامي والتيارات العلمانية فوتت على الفكر العربي الاسلامي خصوصا وعلى الفكر العلماني بشكل اخص فرصا غنية بآفاق الابداع والحيوية لم يفوتها المفكرون والفلاسفة العرب والمسلمون تجاه الفكر اليوناني خاصة في القرنين الثالث والرابع الهجريين.

سادسا: في هذا الفصل من تحديات الوجود والمصير اقترح تأجيل الحوار حول المسائل المذهبية بين الفقهاء وتأجيل الحوار حول المسائل الفلسفية بين التيارات الاسلامية وخصومها في الداخل لا اعتقادا مني بعدم اهميتها بل ربما كانت اهميتها وخطورتها هي السبب في الدعوة الى تأجيلها، فالحوار المذهبي او الفلسفي يتطلب مناخا وظروفا لا تتسم بمخاطر التحديات التي نواجهها في اللحظة الراهنة، من هنا أرى ان اختيار موضوعات الحوار يجب ان يتسم بقدر كبير من الدقة وان يخضع لنظام اولويات تحدده الرغبة المشتركة في انجاح الحوار الاسلامي ـ الاسلامي وتوسيع دائرته.

سابعا: ان مشكلة الهوية الاسلامية تتجلى في غياب صيغة شمولية متعالية على منطق الاستئثار بحق الاجتهاد وامتيازات الفقهاء، فالمادة البشرية للساحة الاسلامية بحكم تنوع انتماءاتها المذهبية والسياسية والقومية لا تتحمل أي صيغة منغلقة على مذهب فقهي بعينه أو على قومية بعينها أو على نظام سياسي بعينه فلا بد لجلاء الابعاد الجغرافية والثقافية والسياسية لهويتنا من صيغة فيدرالية تحتفظ لكل فريق اسلامي بخصائصه وتتيح لكل طائفة ان تنمو تحت سقفها بعيدا عن طابع المجاملة او طابع التخاصم الذي ساد معظم اشكال الحوار الاسلامي طوال القرن الماضي وليس بوسعنا تأسيس قواعد لهذه الصيغة الشمولية لهويتنا إلا اذا خرج الحوار عن أطره التقليدية وإلا اذا قام على قاعدة الازمات الاجتماعية وعلى قاعدة السعي الى تأسيس مجتمع مدني تتكامل فيه العناصر الضرورية لمجتمع الحوار بوصفه مطلبا اسلاميا وقوميا وعلمانيا على حد سواء.

وختم الشيخ شحادة توجهاته قائلا: اعتقد اننا إذ وقفنا على منبت الاسلام كصوت داخلي ينبض داخل النفس البشرية نفسها في ما يسميه القرآن «بالفطرة» التي استقر عليها الناس جميعا سندرك بملاحظة مدارها الروحي والنفسي والعقلي انها وبالرغم من ثباتها تستوعب آفاق التغير والتجدد لأنها في جوهر بصيرتها المعرفية ضامنة لوعي التضاد والتناقض بين الافكار والاشياء.