تناقضات اللبنانيين في مباراة رياضية فوق خشبة المسرح

أسامة الرحباني يلامس البلوغ في «آخر يوم» مستخدما الواقع والإبهار

TT

جاءت مسرحيات منصور الرحباني المتوالية في السنوات الأخيرة وأعمال جيل الرحابنة من الشباب لتسد نقصاً فاقعاً في المجال الاستعراضي الغنائي في لبنان. ورغم ان هذه المسرحيات على تفاوت مستوياتها الإبداعية تصمد شهوراً متتالية ـ مما يعني ان لها جمهورها وطالبيها، مقابل أيام معدودات للأعمال التجريبية ـ إلا ان موقف المثقفين والنقاد منها يبقى فاتراً ضئيل الترحاب. وقد تميزت مسرحية أسامة الرحباني «آخر يوم» التي افتتحت عروضها منذ أيام على خشبة مسرح «كازينو لبنان» بمستوى فني عالٍ، وتقنية مشغولة بعناية، وأقل ما يقال فيها انها واحدة من أمتع الاستعراضات المسرحية التي شهدناها منذ سنوات، ومع ذلك فهي لم تقابل بالاحتفاء اللائق أو التشجيع الكافي، وكأنما الغناء عيب على المسرح والرقص مذمة.

لقد استوحى أسامة الرحباني عمله هذا من «روميو وجولييت» لشكسبير، وجعل منها حكاية لبنانية بامتياز، مستعملاً تفاصيل الواقع بوقاحته وتناقضاته ومسمياته رافضاً التورية والترميز، عازماً على وضع لبنان بجماله وقبحه على المسرح، معروضاً على ذائقة الناس. وقد استغل ظاهرة التحزب الطائفي وراء فريقي كرة السلة الرياضيين الشهيرين «الحكمة» و«الرياضي» لينسج حبكته. فالشاب نديم (يوسف الخال) ابن آل الراعي الذين يتمترسون وراء فريق «الحكمة» لتغذية مجدهم ومصالحهم والعمل على التفاف أبناء طائفتهم حولهم في مواجهة عائلة الصبية نسرين (رودي داغر) من آل مطر الذين يغذون من ناحيتهم الحقد والضغينة على الطرف الآخر باسم الرياضة. والشابان العاشقان المبتليان بعائلتين متباغضتين وحاقدتين يلتقيان خلسة على طريقة روميو وجولييت ويتناغيان على تلك الشرفة الشهيرة، ويتعانقان وكأنما حياتهما صارت واحدة، وينتهيان حين يصر الشر على تفريقهما إلى موت يجمعهما. وبهذا المعنى فإن الإبداع الرحباني لم يكن في رسم الخطوط العريضة بقدر ما تجلى في حياكة التفاصيل الدقيقة واللبننة الطريفة، وفي النواحي التقنية والفنية وفي الرقص واللحن والإخراج الذي قام به مروان الرحباني.

إنه عمل استعراضي حداثي بامتياز، أشبه بأسلوب برودواي منه بتراث منصور وعاصي وشريكتهما فيروز، والمقارنة بين رحابنة الأمس وجيل اليوم هو محض لجم لأسلوب جديد في العمل لا يستطيع ان يتجاهل عصره أو يتغاضى عن التغيرات المجتمعية الحاصلة في بيئته. واستعانة أسامة الرحباني بمصممة الرقص الأميركية المعروفة ديبي ألن آتى ثماره، ومعاضدة التجربة الأميركية هذه بعناصر لبنانية في الكوريغرافيا حقق الخلطة المطلوبة. وما لبنان إلا هذا المزيج الغريب الذي صدم المشاهدين والنقاد على الخشبة وكأنهم لا يلحظونه في معاشهم وتفاصيل يومهم. أما التركيز على ممثلين وراقصين شبان وعلى نفحة يافعة واضحة في اللغة والتطلعات، فقد أضاف إلى العمل روحاً ما كنا نراها من قبل. ولربما كان اختيار مؤديين غير محترفين لأداء دور البطلين الحبيبين مغامرة كبيرة بالنسبة لعمل ضخم بهذا الحجم (فريق عمل من 60 شخصاً) غير ان يوسف الخال (ابن الشاعر المعروف وحامل اسمه) بدا أشد إقناعاً من شريكته التي كانت تنقصها الليونة وبعض الرومانسية. ربما ان العيب الأكثر نفوراً في هذا العمل الخلاّق هو في طول مدة العرض (ساعتان ونصف)، اما الميزة الأجمل فهو جعل التجدد المشهدي، والإبهار عبر السينوغرافيا واللوحات الراقصة أشبه بتحدٍ متواصل. فما ان تملّ العين من مشهد حتى يستبدل آخر به. والمعترضون الغاضبون على اعتبار ان المسرح كان غائباً عن الخشبة والتمثيل هشاً يقيمون مقارنة مجحفة بين أعمال، قوامها الأداء بمعناه العاري والمجرد وأولويات العمل الاستعراضي القائم أصلاً على الإمتاع والإبهار. ومن الضروري هنا التنويه بممثلين أجادوا في «آخر يوم». فقد بدا متميزاً كعادته بول سليمان في دور الأب أيوب، وأبدع فادي أبي سمرا مؤدياً دور «أبو صطيف» وجاءت ندية وجذابة سارة حلو في تقديمها دور ماري جوزيه الفرنكوفونية المدّعية التي بالكاد تطعّم لغتها ببعض العربية.

في «آخر يوم» من التلوينات البصرية ما يستحق المشاهدة. فالمقطع الذي يمثّل مباراة في كرة السلة على وقع موسيقى إيحائية بديعة وبتعليق فذ من طوني بارود، الذي تعود مشاهدو التلفزيون تعليقاته الحية على مباريات كرة السلة الأكثر حرارة في لبنان هي ذروة في الإتقان والحيوية، وكذلك الحفل التنكري الذي تقيمه عائلة نسرين وتشارك به وجوه من كل طرز من السوبرمان إلى الفيل الآتي من أفريقيا، وتؤدي فيه الفرقة رقصة تعبيرية على أنغام أغنية تنتقد فيه حال المدينة: «ما في شي على الطبيعة. شو هالمدينة الغريبة، نسوان تحولوا رجال ورجال تحولوا نسوان». ويبدو المؤدون وهم بملابس صدرها ينتمي لجنس وظهرها ينتمي لجنس آخر، إمعاناً في نقد رجولة ضائعة وهوية مفقودة، بمثابة احتجاج ساخر وصادم. كثيرة هي اللقطات القوية والذكية، وممتعة الشخصيات التي جسدت اللبنانيين على تنوعاتهم: الشعبي السوقي، والمتفرنسة المتفرنجة، والمتشاوف المتغطرس، والمتزلم اللقيط، والشرطي المخابراتي، والقبضاي الجبان. استعراض لوجوه مبهمة ومعروفة كلها قابعة في بيروت آتية من أماكن كثيرة لتنصهر في بوتقة العاصمة الغنية باختلافاتها وتنوعاتها، والحزينة بسبب جهل هؤلاء بقيمة تبايناتهم.

لقد ضرب أسامة الرحباني، الذي كتب النص والأغنيات ووضع الألحان مع مراجعة منصور الرحباني، على وتر حساس بمسرحيته هذه التي من المفترض ان تلاقى نجاحاً كبيراً لأسباب عديدة، فهي ستجتذب أنصار الفريقين الرياضيين الأشهر في لبنان وهم ليسوا بالقلة، ولا بد ان الأغنيتين اللتين خص بهما الفريقين الرياضيين ستنتقلان للملاعب عاجلاً أم آجلاً. ثم ان المسرحية رومانسية أغنياتها في بعضها اقرب إلى أفلام حب السبعينات الأميركية الشهيرة التي طبقت شهرتها الآفاق، فبعد ان اختص المسرح اللبناني طوال العقدين الأخيرين باسترجاع مآسي الحرب والضرب والفساد السياسي، ها هو عمل نابع من أرض الواقع يعرف كيف يضفي على نفسه مسحة عشقية قوية ونفحة شاعرية حالمة، رغم نهله من نبع الطائفية المسموم. وما هو جلي ان هذا النمط الفني الاستعراضي الذي يمزج بين الألحان الشرقية والغربية ورقص الأحياء الفقيرة الأميركية بالشعبي اللبناني، وميول الكبار مع تطلعات الشباب يعني الناس من مختلف الأعمار وهو يصلح للمراهقين العاشقين كما المتقاعدين الباحثين عن مستراح من أخبار التلفزيونات الدموية. أسهب اسامة الرحباني في تصوير مشاهد رحيل الحبيبين لكنه فاجأنا بديكور خلاّب لكنيسة مضاءة من داخلها وشموع وأجواء حزن شكسبيرية كلاسيكية بامتياز.

لقد تعب المتفرج من جمود في المسرح عموماً ومواضيع مكرورة لجهة القصة والإخراج، وأمعنت المسارح التجريبية في إغراق متفرجها في أحزان ما عاد يطيقها. وعلينا ان نسأل لماذا هجر الناس المسرح وهل كانوا ليفعلوا لو وجدوا فيه متعتهم؟ وهل المتعة هي بالضرورة نقيض الفن والثقافة والإبداع؟ ألا يحق لنا في بعض الأحيان ان ندفع ثمن تذكرة لا لشيء إلا لنرى ما يبهجنا من دون ان ينهكنا بالضرورة ويزجنا في الإبهام والفلسفة وادعاء عمق المعنى؟