نقلة عصرية لروائع كلاسيكية في معرض خطاط عراقي

TT

من يعشق الخط العربي لا يتوقف عند جمال تكويناته وانحناءاته وتناغم حروفه فحسب بل يتعدى المنظور منه للفلسفات الروحانية والمعارف الثقافية المرتبطة فيه. ومما لا شك فيه ان اهم ما يميز هذا الفن هو انه رمز للتلاقح الحضاري الذي كان سبباً في وصول الحضارة الاسلامية الى ما وصلت اليه في عصورها الذهبية وهذا ما نقلنا اليه معرض الخطاط والمهندس المعماري طه الهيتي في غاليري ChelseaGreen في وسط لندن، والذي شمل 47 مخطوطة تنوعت ما بين آيات قرآنية وحكم مأثورة وبيوت مختارة من الشعر القديم والحديث. وهو المعرض الاول في لندن للفنان الذي سبق ان اقام معرضاً شخصياً في بلده العراق. في هذا المعرض الذي شهد اقبالاً ملحوظاً خلال الايام السبعة التي اقيم فيها كان الحضور مزيجاً من العرب والغرب. وقد حضره السفير الاردني في لندن تيمور داغستاني، وكلارك تيرنس آخر السفراء البريطانيين في العراق قبل الحرب، وشخصيات أخرى عربية وبريطانية. عن بداياته يقول الهيتي: «وعيت على جمال الخط العربي مع بداية وعيي على الدنيا فقد كانت الكتابة تطربني وبدأت ارسم الحروف منذ سن صغيرة جدا حتى قبل ان استطيع قراءتها، وفي الصف الثالث الابتدائي بدأت اخط مما دعا والدي في ذلك الوقت الى اخذي الى المكتبة وشراء كراسة محمد هاشم الخطاط التي شغفت بها وتعلمت منها الكثير مما جعلني اعتبره معلمي الاول، ولو انني لم اتعلم منه مباشرة ومع الوقت اصبحت الخطاط الرسمي للمدرسة في المتوسطة».

وقد تتلمذ الفنان فيما بعد على يد الخطاط عباس البغدادي الذي يدين له بالكثير ويقول عن ذلك: «تعلمت من عباس البغدادي الصبر والتأني وكيفية التنفس اثناء الخط ومن حسن حظي انني نشأت قريباً من المدرسة البغدادية التي يعود لها الفضل في التطور الاهم لهذا الفن». وغير البغدادي هناك هاشم الخطاط وعباس البغدادي ومثنى العبيدي، ومحمد أوزجاي الخطاط التركي. ومن المعروف أن الاتراك ابدعوا بفن الخط ولا سيما خط «الثلث» وكانوا اكثر من حافظ على التقاليد المتوارثة الخاصة بهذا الفن وهو الخط المفضل للهيتي الذي يرى فيه امكانيات ابداعية كبيرة. يقول عن ذلك: «انني ارى في خط الثلث تحدياً ابداعياً كبيراً فكل حرف فيه ما لا يقل عن اثني عشر شكلاً مختلفا مما يعطي متعة اضافيةً للخطاط، حيث يمكنه التنوع في شكل الكلمات المكتوبة. لقد ابدع الخطاطون الاتراك بخط الثلث ولكن علينا ألا ننسى تاثير المدرسة البغدادية عليهم، فقد رحل الخطاط الاماسي الى تركيا واسس اول مدرسة تركية، فالشجرة التركية تعود الى الاماسي ولكن الاتراك حافظوا على التقاليد المتبعة بهذا الفن».

والفنان الهيتي هو مهندس أيضا. وهو يرى أن علاقة المعمار بالخط علاقة قديمة وحميمة بدءاً بابن مقلة، الوزير العباسي الذي «هندس» الحرف ووضع له قوانين تضمن تناسبه جمالياً ووظيفياً في «نظرية الخط المنسوب» ومروراً بالخطاط التركي مصطفى راقم الذي فكك الجمل ليعيد بناءها من جديد ، كما ربط ابن خلدون ما بين الخط العربي والعمران واعتبره مظهراً حضارياً مادياً لا يكون الا بتوفر سمات حضارية معينة. وعلق الهيتي على ذلك بقوله «لقد سجل التاريخ نقلة تطورية في عهد العباسيين، فما فعله ابن مقلة بالخط العربي يشبه ما فعله الخليل الفراهيدي في الشعر والأوزان، لقد شهدت العصور السابقة لابن مقلة تطوراً للخط منذ ايام علي بن ابي طالب رضي الله عنه، الذي انتبه للخط لضرورة القرآن، ولكن استطيع ان اقول ان التطور بدأ بطيئاً ثم اسرع كثيراً في العهد العباسي ثم تباطأ مرة اخرى. واتفق معك ان هناك توقفاً في تطور هذا الفن وان كان هناك تطور بسيط لغرض جمال الحرف وبخاصة الزينة المصاحبة لخط الثلث».

لم يقتصر فن الخط وبخاصة الثلث على الزينة المصاحبة له بل اقترن منذ القدم بفن آخر هو فن الزخرفة الاسلامية وقد زينت معظم لوحات الفنان طه الهيتي بزخارف نباتية رائعة شغلتها خطيبته الفنانة فاتن فاروق التي فضلت ممارسة هذا الفن الذي يتطلب الكثير من الصبر والمهارة، على مجال دراستها في تصميم الازياء. والواضح ان الانسجام الشخصي بينهما انعكس على عملهما الفني معاً. سألنا طه عن مستقبل فن الخط العربي وما اذا كان هذا الفن مهددا بالاندثار مع انتشار المدرسة الحروفية في الفن التشكيلي فقال «لا ارى ذلك، فالحروفيون ليسوا بالخطاطين وهذا لا يقلل من شأنهم، فابداعهم في الفرشاة والالوان قد يكون اكثر من ابداع الخطاط وتبقى هذه مسألة مهارات مختلفة، فمهارة الخطاط تكمن باستخدامه للقلم ومهارة التشكيلي في استخدامه للالوان، وهم استخدموا الحرف موضوعاً للوحاتهم للتعبير عن فنهم لا للتفاني باتقانه ولكلٍ جمهوره والتنوع في الفن مطلوب».