هوليوود تشوه مخيلة هوميروس وتحذف ثلاثة أرباع ملحمته

فيلم «طروادة» المأخوذ عن الإلياذة على مقاس براد بيت يفشل في نقل ثنائية الحب والمجد من الشعر الملحمي إلى الشاشة

TT

غني يا ربة الشعر غضبة آخيل بن بيليوس

وعواقبها التي عادت بآلاف الويلات على الآخيين

وأودت بجموع غفيرة من أرواح الابطال الباسلة الى هيدز

بعد ان تركت أجسادهم ولائم شهية للكلاب والطيور

لا بد ان عظام هوميروس تتململ في قبره غيظا ولا بد ان تكون غضبته على هوليوود أعظم من غضبة آخيل على ملك الملوك آغاممنون الذي سلبه حبيبة قلبه بريسيس وتركه يهجر القتال فيتغلب الطرواديون على الآخيين الى حين في المعركة التي صارت حدا فاصلا ومتداخلا بين تخوم الاسطورة والتاريخ. وحق لهوميروس ان يغضب، فالفيلم الذي أنتجته السينما الاميركية حديثا عن طروادة ووصل هذا الاسبوع الى شاشات العرض العام من النوع الذي يسيء الى الأساطير والى الحقائق التاريخية معا، وأكاد أقول والى الذوق بشكل عام، فالذين صنعوا هذا الفيلم الذي يقوم فيه براد بيت بدور آخيل أنزلوا الالياذة من عليائها وحولوا جمالها الادبي وغناها الملحمي الى مجرد قعقعة سلاح وآهات غضب وانتقام فاختفت الدراما الهوميرية وظهر مكانها في الفيلم فقر عجيب في تفسير خيالات ورؤى شعراء البشرية الاوائل المصوغة بطريقة ثرية الايحاء لمخيلات العصور كلها. لقد حذف الهوليوديون خلافات آلهة الاولمب وحروبهم وشقاواتهم مع انها ثلث الملحمة الهوميرية وشطبوا ثلث الأحداث التي لا يمكن فهم هوميروس من دونها، ثم قاموا بتغيير المصائر والاقدار فجعلونا نرى مينلاوس زوج هيلين المخدوع يموت بسيف هيكتور بعد مبارزة مع باريس مع انه في الالياذة يعيش ويسلب طروادة ويعود بالزوجة الخائنة بعد ان غفر لها زلتها التي استمرت سنوات عشرا هي عمر الحرب الطروادية. والمضحك انهم في الفيلم يجعلون هيلين تستقبله بالاحضان والقبل بينما هي في الملحمة تخجل منه ومن نفسها لانها ارتبطت به وتخجل من الطرواديات اللواتي سيسخرن منه ان اقفلت عليها باب المخدع معه وهي تخاطبه بعد انهزامه بما يليق بجبان يدعي البسالة:

عدت اذن من المعركة كم تمنيت لو انك مت هناك

مهزوما امام الرجل الاقوى الذي كان يوما زوجي

كذلك قتل الاشاوس الاميركيون المثقفون جدا أغاممنون قائد جيوش الأغريق ـ الآخيين مع انه في ملحمة هوميروس يعود ليموت في آرغوس على يد زوجته كلوتيمسترا وعشيقها وذلك أقل ما كان ينتظره منها بعد ان فضل عليها جارية في مشهد من ذرى الالياذة في فصلها الاول حين يرفض قائد الجيوش وملك الملوك اعادة كريسيدا ابنة الكاهن الى ابيها ويخاطبه بتلك العنجهية التي أغضبت كل من حوله:

لا تدعني اراك ثانية ايها العجوز قرب سفننا

لا تتلكأ ولا تعد مرة أخرى الى هنا

فقد لا يحميك صولجانك واوشحتك الكهنوتية

لن اعيد الفتاة وسرعان ما ستشيخ هناك

في بيتي في أرغوس بعيدا عن موطنها

وهي تغزل على النول وتشاركني فراشي

ولا يتوقف الأمر عند هذه الاخطاء الفادحة بحق الالياذة ولا عند خلط ابنة الكاهن بسبية آخيل وهما مختلفتان فالذين صنعوا الفيلم لم يدققوا حتى في المشهد الطروادي للمعارك، وهذا أقل ما تتوقعه من فيلم يحمل اسم طروادة خصوصا أن تلك المواقع معروفة في نص هوميروس وعند شراحه فقد كان في تلك المدينة بدل النهر الواحد نهران والكثير من مشاهد هوميروس تدور على ضفاف نبع سكاماندير وتل كاليكولوني وتمثال اليوس وهذه المعالم الاساسية كلها لا وجود لها في الفيلم الذي لا ترى فيه غير الاسطول الاغريقي وبوابة طروادة والضريح المطل على الشاطئ وامامه التمثال الذهبي الذي يحطمه آخيل في اول معارك الغزو التي تسفر عن اسر ابنة الكاهن خروسيس التي كانت في المعبد.

* ذهب ونساء

هذه المعركة هي التي يفتتح بها هوميروس الفصل الاول من الالياذة فهو قبل اختراع لقطات (فلاش باك) يستخدم ذلك الاسلوب ويعود ليشرح لنا تفاصيل سرقة هيلين الجميلة من زوجها من قبل باريس بن بريام ملك طروادة لكن في فيلم براد بيت الذي حذفوا ثلاثة ارباع الالياذة من اجل تبسيطه كما قيل يفتتح الهوليوديون ـ الذين لا يحترمون التاريخ ولا الاسطورة ولاعقول الناس ـ فيلمهم بعد تعريفنا على قوة آخيل الاسطورية بحادث خطف هيلين ويحاولون ان يشرحوا على لسانها كم تكره زوجها مع ان هوميروس ليس بهذه الواقعية الفجة فهو يلقي بتبعة حكاية الغرام بين باريس وهيلين على عاتق افروديت حامية ابن بريام الذي حكم لها بانها الأجمل بين آلهات الاولمب فوعدته بأجمل نساء الارض هيلين التي حجب للأسف جمال براد بيت في الفيلم جمالها الاسطوري فهذا فيلم على مقاس البطل صاحب الشعر الاشقر المسبسب الذي حاولوا ايضا تغليب قصة حبه للسبية التي أخذها منه آغاممنون على قصة الحب الحقيقية التي كانت سببا في غزو طروادة.

في الفيلم يختطف رجال قائد الجيوش فتاة آخيل بينما يكون في حوار ساخن مع قائدهم اما في الالياذة فهو يسلم بريسيس ذات الخدين الجميلين صاغرا في مشهد لا يشي بالحب بل بالحزن لفقدان غنيمة حرب ولا نكتشف انه يحبها الا في الفصل التاسع، أهم فصول الالياذة، وذلك من خلال حوار بينه وبين عوليس الذي يحاول اقناعه بالعودة عن قراره الخاص بعدم المشاركة في الحرب نكاية بقائد جيوش لا يعدل بين قادته وجنوده:

يأخذ كل شيء ويوزعه بعد ان يحتفظ لنفسه بالكثير

وكل عظماء الرجال الذين اعطاهم غنائم احتفظوا بها

الا انا وحدي من بين الاخيين أخذ حبيبة قلبي وتركها عنده

ليسعد بها لكن لماذا نقوم بمقاتلة الطرواديين

ألم يكن ذلك من أجل هيلين ذات الشعر الجميل

فهل أبناء أتريوس هم الوحيدون الذين يحبون زوجاتهم؟

ان اي رجل صالح يحب زوجته ويحرص عليها

وانا أحب هذه المرأة من كل قلبي

كسبتها برمحي فخدعني وأخذ مكافأة نصري ومجدي

اما عن حب ابناء أتريوس ـ مينلاوس وآغاممنون ـ لنسائهم وحب نسائهم لهم فتلك مزحة ثقيلة لا شك، فهيلين هربت من زوجها وزوجة آغاممنون أحبت عليه وشاركت في قتله بعد عودته مظفرا من طروادة تلك المدينة المنكوبة والمنذورة للدمار دوما، فقبل ان تحل بها لعنة هيلين سبق لهرقل، ابن زيوس ان دمرها.

والعجيب ان هذه المدينة التي ظنتها الاجيال أسطورة ومحض خيال كانت حقيقة واقعة أثبتت الابحاث الآركيولوجية وجودها فأثناء الحفريات التي قام بها العالم الالماني هاينريش شليمن قرب تل هيسارليك في تركيا عام 1870 اكتشف الحفارون المدينة التي دمرتها خدعة وحصان وامرأة فائقة الفتنة هربت من زوجها فتسببت حسب الملحمة في ترميل ألوف الزوجات من الجانبين.

لكن هل كانت حرب طروادة بسبب امرأة كما كانت حرب البسوس بسبب ناقة كما يقال؟

هذا رأي ينفيه حتى المولعون بالاساطير وتفسيراتها البسيطة للكون والاحداث، كما نفاها من حسن الحظ أحدث فيلم عن طروادة. فهيلين الفاتنة ذات الشعر الجميل لم تكن الا سببا واهيا وسطحيا اما في الاعمق فقد كانت تلك الحرب من اجل الذهب لا من أجل الحب لأن طروادة حليفة الحثيين أعداء الاغريق كدست الكثير منه وصارت تقيم تماثيلها من الذهب الخالص فلفتت اليها أنظار جيران متعطشين للنفوذ والذهب في أواخر العصر البرونزي الذي كان قتل الانسان فيه ـ تماما كهذه الايام ـ أسهل من قتل حشرة، فالقادة الذين يحركون الجنود كأحجار الشطرنج لا يبالون كثيرا بمشاعر الجنود ولا بحياتهم ما دام في آخر النفق العنيف القاني نساء جميلات وذهب كثير وتاريخ لا قلب له ولا ضمير.

* المعضلة الهوميرية

وقد حاول الفيلم كالافلام التاريخية كلها ان يوظف ثنائية المجد والغرام ليضمن النجاح ـ ولا أظنه سيدركه ـ فقصة حب آخيل لبريسيس التي طغت على قصة الحب الاساسية بين هيلين وباريس لم تكن مقنعة بل كان الأجمل منهما القصة الموازية لحب هيكتور واندروماكي فهناك ودون وهج الغرام بين اثنين نرى رجلا خضرمته الحروب وامرأة خائفة على مستقبل طفلها وأسرة متحابة تحلم بالسلام ليعيش طفلها في عالم لا تسحقه أطماع قادة طامحين للغنائم والاسلاب عبر انهار الدماء.

ان ندب أندروماكي ذات الذراعين البضتين ـ في الفيلم جعلوها عجفاء لتتماشى مع مفاهيم الرشاقة الهوليوودية ـ لهكتور بعد ان يقتله آخيل ويجره بالعربة خارج أسوار طروادة من أقسى المقاطع وقعا في الالياذة رغم وفرة ما فيها من عنف ودماء وطرق موت غريبة تفنن هوميروس في وصفها. ففي موقف الندب لا نرى عاشقة ترثي فتاها فحسب بل امرأة ترثي مدينة كاملة متنبئة بما ينتظرها من سبي ودمار واذلال:

لقد ذهبت من الحياة وتركتني يا هكتور الفتاك

ارملة في بيتك والولد وفي حضني رضيع

التعيس ابني وابنك اخشى الا يبلغ مبلغ الرجال

سيجتاحون المدينة وتنقلب اسوارها راسا على عقب

ذهب المدافع عنا والسبيات سيذهبن الى السفن الجوفاء

والآن الى المشكلة أو المعضلة الهوميرية التي وعدنا بالعودة اليها لثناء المقارنة بين يوليسيس جيمس جويس ويوليسيس هوميروس فما بين احداث الالياذة امام اسوار طروادة وبين هوميروس ثلاثة قرون فهو على الترجيح من القرن السادس قبل الميلاد وتدمير طروادة في القرن التاسع قبل الميلاد ـ الفيلم يزيد قرنين على هذا التاريخ ـ مما جعل الكثيرين يشككون في وجود شاعر جوال اعمى بهذا الاسم ولا اعرف لماذا يروي دوما مآسي المدن المنكوبة شاعر اعمى كما في حالة غرناطة التي تحولت ايضا الى مرثية على ربابات وقيثارات الشعراء الجوالين في القرون الوسطى. ثم هناك ثلاثة قرون اخرى بين هوميروس الذي كان يروي الياذته شفاها وبين تسجيلها كنص مكتوب في مكتبة الاسكندرية ايام مجدها في القرن الثالث قبل الميلاد ومع الاعتراف بقوة الفرضية التي تقول ان الالياذة لعدة شعراء وان كل ما فعله هوميروس هو جمعها معا يظل الاعتراف بفضله قائما وجد ام لم يوجد.

اما عن شخصه ووجوده فهو ايضا كطروادة حقيقة تاريخية فاسمه يرد عند المؤرخ هيرودتس الذي ينسبه الى جزيرة ايونيا في البحر الايجي في حين ينسبه آخرون الى جزيرة خيوس وفي الحالتين اغريقي ومن هنا سر تعصبه لابطال وطنه من دون ان يحط كثيرا من قدر الطرواديين حتى لا تكون بطولة اصحابه الاغريق مفرغة من المعنى.

ورغم هذه الاشارات التاريخية سيظل الشك بهذه الشخصية قائما كما هو الحال مع شكسبير الاحدث تاريخيا، فالثاني من رجال وشعراء القرن السادس عشر ومع ذلك يختلف الناس والباحثون الاكاديميون على وجوده الفعلي وينسبون اعماله لشخصيات ارستقراطية من عصره كانت تخجل ان تعترف بانها تمتهن الكتابة ولو عرفت ان الكتابة هي التي خلدته وأخفتهم لما ساورها اي خجل.

ومن المؤكد ان افلام اخرى سيتم انتاجها من وحي هذه الملحمة الخالدة ولعلها تكون أفضل صنعا وأقرب الى الفهم الهوميري الحقيقي فهوميروس يرى البسالة في العقل لا في العضلات وحدها لذا تعصب من بين جميع الابطال لعوليس وصنع له ملحمة خاصة (الاوديسة) ووضعه في مصاف آلهة الاولمب لأنه فارس يستخدم قبل عضلاته ورمحه وسيفه عقله.

ان غياب هذا الفهم للعقل الملحمي والمخيلة البدائية والرؤى الاسطورية يقف كما أظن وراء فشل فيلم طروادة فالأساطير طفولة العقل البشري النضر المتوثب وليست قعقعة سلاح ودماء وعنف وغنائم وسبايا فحسب كما اكتفى بتصويرها عباقرة هوليوود البارعون في مسخ كل ما هو غني وعميق وعذب في تاريخ الفكر الانساني وأساطيره الثرية والمليئة بالجمال والبلاغة والحكمة المقطرة.