ثغرات فنية في حكاية كاتب السيرة

رواية جديدة للبريطانية أ. س. بايات انشغلت فيها عن القصص بسرد المعلومات

TT

قصة «الممسوس»، التي الفتها أ. س. بايات عام 1990، ونالت عنها جائزة «بوكر» للاداب، قصة داخل قصة، تحكي عن باحثين معاصرين، يحاولان اثبات قصة حب بين شاعرين من العهد الفيكتوري، مستندين الى الشواهد الأدبية. وكانت قصة متألقة، وموسوعية وكثيفة، كما كانت تنطوي في الوقت نفسه على قدر عال من الامتاع والتشويق.

وكانت تشبه لغزاً صينياً جاءت عناصره من يورغ لويس يورغ وجون فاولتر وديفيد لودج، لتكون صورة رائعة ومدهشة.

قصة بايات الاخيرة «حكاية كاتب السيرة» هي ايضا قصة داخل قصة حول باحث معاصر، يستخدم الشواهد الادبية هو الآخر، ليكتشف هذه المرة، الحياة الخاصة لواحد من كتاب السير، ولكن لسوء حظ القارئ فقد جاءت هذه الرواية غنية المعارف وكثيفة ولكنها ليست ممتعة أو مشوقة. وفي الجزء الأكبر من الرواية تتخلى بايات عن مواهبها الادبية النادرة لتدبج حكاية جافة، متحيزة ومزعجة، تنكفئ على اثبات نقطة فلسفية واحدة، هي ان الحقيقة التاريخية غالباً ما تفوت وتختفي نتيجة الولع الانساني بالنظام والترتيب.

تبدأ القصة بطالب دراسات عليا مجتهد اسمه فنياس تانسون، يقرر ان يهجر مهنته كناقد أدبي متخصص في ما بعد الحداثة، فقد اصابه الغثيان من اعادة التركيب والتشريع والحوار، واصبح يتعطش «لحياة مليئة بالأشياء» وبالحقائق. ويقرر ان يكتب سيرة ذاتية لأحد كتاب السير الذاتية. هذا الكاتب هو شولز ديستري شولز، مؤلف السيرة الذاتية، ذات الأجزاء الثلاثة، للسير ايلمر بول، المكتشف الواسع الثقافة.

ولكن فنياس لم يكن سوى باحث فاشل، فهو لا يبذل الا أقل الجهد للقاء الاشخاص الذين يعرفون ديستري شولز، ولا يلجأ مطلقاً لاستخدام الانترنت لجمع المزيد من المعلومات. والواقع أن الاكتشافين اللذين عثر عليهما صدفة، لم يساعداه في بحثه بل اصاباه بمزيد من التشويش.

الاكتشاف الأول كان حزمة وثائق يقال إنها لمحات سيرة ذاتية كتبها المسرحي هنريك ايبسن، والمصنف كارل لينايس، وعالم الاحصاء فرانسيس غالتون الذي يمت لتشارلز داروين بصلة القربى، وقد كان هؤلاء الرجال الثلاثة، حسب ملاحظة فنياس «طلاباً يدرسون، كل بطريقته، قضية ترابط الأشياء والناس».

أما الاكتشاف الثالث فيشمل كيساً من الكرات الرخامية، وآلة لإحداث الثقوب بالجمجمة، بعض الصور القديمة، وحزمة من الكروت مليئة بالمقتطفات والحكايا والتأملات، حول علم النفس والفلسفة والتطور والتهجين. وتصر بايات على اعطاء القارئ النص الكامل للمحات الثلاث للسير الذاتية ومقتطفات بعض الكروت كاملة ، ولا تتوقف فقط في حشد نصف الرواية بهذه المادة الثقيلة، بل تشحن صدر القارئ بالضيق، ونفسه بالسأم، وتصيب عينيه بالارهاق. وتصر كذلك على تسديد اللكمة اثر اللطمة، وهي تشركنا في محاولات فنياس اليائسة لفهم النصوص المستغلقة، والقاء بعض الضوء على حياة ديستري شولز من خلالها.

ولكن فنياس يفشل فشلاً ذريعاً في مسعاه، اذ تقوده كل الشواهد الى طرق مسدودة، ويكتشف اخيراً ان نصوص ايبسن ولينايس وغالتون، تطفح بالاكاذيب والتشويهات مما يحول السيرة الذاتية الى مسخ. كما يلاحظ كذلك ان الكروت يمكن ان تؤدي الى معان مختلفة لا يجمعها الا كونها اعتباطية.

ولا شك ان هذه المقاطع الطويلة يقصد بها السخرية من التدريب الاكاديمي لفنياس كمشرح للنصوص، مع ابراز المبدأ بعد الحداثي القائل ان المعرفة نسبية دائماً وانتقالية. ولكن المشكلة هي أن بايات تبذل مجهوداً خارقاً في اثبات نقطة لم تعد تغيب على احد.

واثناء بحثه عن تفاصيل حياة واعمال ديستري شولز، يلتقي فنياس بمجموعة غريبة من البشر، من بينهم فيرا، فنية الأشعة الفاتنة وابنة أخي ديستري شولز، ووكيلا السفر اريك وكرستوف، اللذان ينظمان رحلات ممعنة في الانحراف، ومصنفة النحل فولا، المتخصصة في لينايس، والشرير الذي زود فنياس بقائمة من مواقع الصور الفاضحة بالانترنت.

يساهم كل هؤلاء الناس في اخراج فنياس من برجه العاجي، واذاقته مرارة وحلاوة العالم الواقعي. فيكون علاقات غرامية بفيرا وفولا، ويشغل وظيفة لدى اريك وكرستوف، ويفكر في التحول الى أدب الرحلات.

ومع ان الفصول الأخيرة، الرومانسية، من «قصة كاتب السيرة»، تشهد على مواهب بايات القصصية والتصويرية والتعبيرية، فإنها تأتي متأخرة جداً، ولا تستطيع ان تشعل من جديد رغبة القارئ في متابعة مواعظ فنياس الميلودرامية.. انها تتضاءل أمام البناء الجبار، والوطأة الثقيلة لما فاتها من فصول.

* (خدمة نيويورك تايمز ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»)