آخر ربيع

أفتيك إزاكيان **

TT

كان ذلك احد فصول الربيع تلك التي تحول الارض. كان سعدي* شاعر الفرح والحزن، قد رأى مائة ربيع كهذا.

استيقظ سعدي باكرا في ذلك الصباح. خرج الى البستان المزهر الى ضفة نهر «روناباد» ليسمع اغنية العندليب مجددا ويشاهد مجددا معجزة الربيع.

حدق الى حقل شيراز الذي زينته الطبيعة بهداياها من الزهور والغارق في نومه الصباحي. كان ضباب ابيض يغمره عطر.

جلس سعدي فوق سجادة جميلة تحت ياسمينة مزهرة. امسك ببرعم احمر مخضر بين يديه الراجفتين برهة وهمس برقة: «كما تبتسم عذراء شابة للعاشق الذي يعانقها، هكذا تفغر الوردة شفاهها امام نسيم الصباح».

رغم ان سعدي كان عجوزا جدا الآن إلا ان روحه كانت لا تزال ترى وتسمع، عبر اجفان وأذان نصف مغمضة، الاحداث والصور الرائعة لهذا العالم والاغاني وصمت المسافات المجهولة. فروح الشعر السحرية، طائر الزمرخت الذي عشش فوق اعلى جبل كاف في مملكة النجوم، كانت ما تزال تحدثه.

كانت عنادل بعيونه باسطة ريشها الرمادي تغرد مغنية رباعياتها الفاتنة، وهي تتحرق بنار الحب واغانيها تجد صدى لها في قلب سعدي.

جلبت الانفاس العذراء للنسيم تحيات الورود من تلك الورود البعيدة العاشقة، وفهمت روح سعدي إمارات البوح بالحب هذه.

«القلب العاشق يفهم دائما كلمات الطبيعة. الدنيا مليئة بالتناغم. ان نشوتها العاشقة خالدة». استذكر الكلمات التي نطقها منذ زمن طويل.

تنشق سعدي، وقد اطربته اغنية العندليب وجمال الورود الحمراء، عطرها الاسر، ومع النشوة التي انتابته اغلق عينيه، وكما في حلم شاهد الدنيا منعكسة في قلبه.

رأى انهار الهند الراكدة وقد زينتها نباتات اللوتس المقدسة.

رأى الفيلة الحكيمة المتأملة في الادغال. وفي قصور دلهي الذهبية رأي العذارى الجميلات، وقد زرعن زهورا قرمزية في شعورهن السوداء المائل لونها الى الأزرق.

رأى السهول العاصفة في توران والاشرار الرهيبين بسيوفهم المتوهجة، وقد حملوا عاليا على اجنحة العاصفة.

رأى الصحراء ايضا وقد صفعتها الشمس، والبدو الممتطين الجياد يطاردون الغزلان السريعة تحت العيون الحادة لنسور محومة.

رأى الاعاجيب الشهيرة في مصر والبلورات الزرقاء للبحار الشاسعة وعذارى دمشق ذوات البشرة المخملية والاجساد المومضة. كانت اذرعتهن الرخصة المداعبة تعانق سعدي الشاب كالطوق.

تنهد سعدي وفتح عينيه.

«ياللأسى، طارت سنواتي المائة مثل حلم عذب، كرؤيا ليلة واحدة. طارت السنوات كبرهة واحدة، فقد كنتن دائما رفيقاتي ايتها الحكايات الخرافية والعنادل والورود، وانتن يا اخوات الورد يا عذارى مترعات باليمن!».

انطلقت الشمس مبتعدة عن عنان السماء التي كانت تومض بالزهور والاعشاب والاوراق، والتمعت الصخور والجروف، فقد كان الليل قد القى غبار الماس فوقها كلها.

كانت تحديقة سعدي عميقة وهو ينظر الى السماء الزرقاء والطيور تحوم تحت نور الشمس.

نظر اليها باعجاب ورهبة.

«صحيح ان الدنيا معجزة، حكاية خرافية، انها رائعة وجميلة الى الأبد».

في كل يوم انظر الى الدنيا وفي كل يوم اصاب بالدهشة مجددا، وكأني اراها للمرة الاولى، الدنيا مألوفة، ولكنها رائعة وعتيقة انما جديدة ابدا، جديدة بجمال ابدي يصعب التعبير عنه ليس له من ند سوى نفسه.

نظر سعدي مجددا الى الدنيا ضمن المسرحية السحرية متعددة الاشكال للطبيعة ولاحظ حمامتين تخطوان بأقدام حمراء بلون المرجان فوق المرج الاخضر وهما تنقران وتهدلان، ومن جديد تلفظ سعدي بصوت عال:

«الدنيا مسحورة، وكل ما فيها واقع تحت سلطان العصا السحرية التي تحملها ساحرة غير مرئية، وقد تحول ذلك كله الى حكاية خرافية».

تندفع الدنيا الى الامام وتتهاوى وتتغير، ولكن ما الذي يعيد خلق وبناء هذه الدنيا الرائعة مجددا وينشر هذه الحكاية الرائعة امامنا؟

ما الذي يجعل الغزال وقد انهك الحب قلبه من الحب، يتسلق جاهدا الجروف الحادة ويكسر قرنيه على الصخور؟

ما الذي يجعل الوردة تفجر غمدها الزمردي وتبث أريجها العذب الى هذا الحد؟

ما الذي يجعل الانسان يطلع من المجهول فيكتسي لحما ودما ليفكر ويعاني ويحس بلهيب رغباتنا الحارق فلا يريد ان يموت ابدا؟

ايها الحب، ايتها القوة التي لا غالب لها، ايها المستبد العذب، لقد عرفتك منذ زمن طويل! ومع ذلك لم اتمكن قط من ان افهم كاملا عمقك وجوهرك!

*** كان حدس سعدي قد ابلغه بأن هذا سيكون آخر ربيع له.

آخر ربيع له! فتح باب الحديقة.

دخلت «نزيت» الشيرازية، محبوبة سعدي التي غالبا ما تزوره وقد اسلمت جسدها الابيض كالثلج امام مداعبات النسيم.

كان سعدي يحبها بكل قلبه الشاب الذاوي، بعد ان رسمها بحروف من ذهب في كتابه الخالد «غولستان».

اقتربت منه «نزيت» وذراعاها قد امتلأتا بالورود، حيته، وهي نفسها عطرة كوردة. كان الشاعر حزينا، وكان الحزن قابعا على شفتيه الشاحبتين.

ما الذي يحزنك يا اكثر الفانين سعادة؟

لم يرد سعدي احب توقك يا سعدي حزنك حكيم. ألم تقل شفتاك السماويتان بأن اللآلي تولد من الجراح وان عطر البخور عذب وهو يحترق؟

حدق سعدي فيها بابتسامة ذابلة.

انظر لقد جلبت لك وردا مخمليا من حديقتي.

امطرت سعدي بالورود ولمست وجه الشاعر الحزين بأناملها المومضة.

«الورود» التي اهديتني اياها ايتها العذراء السماوية كانت دائما افضل ورود في العالم وهي لم تذبل قط.

اجل يا سعدي. (لماذا حين يشم المرء عطر الوردة عليه ان يفكر في حياتها القصيرة؟ تذكر عطرها وسرعان ما تنسى انها قد ذبلت من زمن). كررت «نزيت» ما كان الشاعر قد قاله ذات مرة بصوتها الفضي. وسقط شعرها الذي يستدعي الاحلام على وجه سعدي وهي تجلس الى جانبه. ثم هب نسيم عطر عبر البستان وراح جناحاه القزحيان يرفرفان: كانا جناحي طائر الزمرخت الذي يرفرف في الهواء بينما راح سعدي يربت على شعر «نزيت» الحالم بيد مرتعشة.

رمى سعدي بنظرة من قاع روحه نحو الدنيا الاشبه بحكاية خرافية وقد اومضت من حوله، نظر الى الابتسامة المضيئة للعذارء الحسناء واحرقت دمعة حارة قلبه العجوز. ثم اخذ بيد الفتاة الصغيرة في يده قبلها وضمها الى قلبه المرفرف.

اكتبي كلماتي الاخيرة على اخر صفحة من كتابي «غولستان» بيدك الصغيرة:

«نحن لم نولد بإرادتنا ولكننا نعيش بذهول ونموت بألم».

ترجمة: توفيق الأسدي ----------

* سعدي الشيرازي (شيخ مصلح الدين) (1193 ـ 1291) ولد في شيراز. قضى عمره بين الدرس والسفر ونظم الشعر ومارس التصوف وكتب بالفارسية والعربية.

(**) افتيك إزاكيان: (1875 ـ 1957) شاعر وروائي وكاتب قصة وصحافي آرمني، نشر أول مجموعة قصصية له «أصوات مدينتي» عام (1946).