قاص يتمسك بالأوراق الرابحة للقصة القصيرة

أجواء شعبية في مجموعة «أوراق عبد الجبار الفارس الخاسرة» لمحيي الدين مينو

TT

هل القصة القصيرة بخير؟

سؤال أطرحه على نفسي كثيراً وغالباً ما اصاب بالإحباط، فالمجموعات القصصية كثيرة والمطابع تطرح العديد منها يومياً. ولكن قلما يعثر القارئ على قصة واحدة من كل مجموعة صالحة للقراءة، ولا اجرؤ على القول: ان تصل الى حد الإدهاش. وهذا يعود الى غياب النقد الجاد ونفور الدوريات من القصص واصحابها، مما أدى الى استسهال كتابتها واغراقها في الإنشائية وتسطيح الفكرة إلى درجة الابتذال. القصة القصيرة اذاً فن يحتاج الى جهد كبير ومكثف ومتابعة واعادة وتهذيب حتى تكتمل شروطها الفنية الخاصة بكل كاتب.

لم أكن أرغب في التنظير لكتابة القصة القصيرة، لأن مثل هذه الأمور يجب أن تكون معروفة لكل من يريد ان ينصهر في هذا الفن الجميل، ولكن ما دعاني الى كتابته هو مجموعة قصصية، صادرة عن اتحاد الكتاب العرب لـ «محيي الدين مينو» وهي بعنوان «أوراق عبد الجبار الفارس الخاسرة». ورغم تقليدية عنوانها وعدم شهرة صاحبها، الا أنها لفتت انتباهي منذ القصة الأولى، وعندما انتهيت منها، استعدت فترتها الذهبية، تلك التي كان يكتبها (زكريا تامر وجورج سالم وعبد الله عبد ووليد اخلاصي ومحمود عبد الواحد وحسن م. يوسف وغيرهم كثيرون).

ومحيي الدين يعرف أن القصة القصيرة تتألف من (حكاية) بسيطة، تلتم حول (حدث) يصعد بها ويتنامى، يساعده على ذلك (حوار) رشيق، يقوده أو يفسح له الطريق، حتى تنتهي القصة، فلا زيادة في الجملة ولا استطرادات جانبية ولا صور بلاغية، تدهش الكاتب قبل أن تدهش قارئه. يبدأ بجملة قصصية، تفكك الفعل بلغة مكثفة وجمل متوثبة متوترة، تقود الى الإحاطة بكافة جوانب القصة لتقديمها خالية من أية شوائب، ويكون ذلك بعد جهد مركب بذله القاص، احتراماً لقارئه كي يكبر بعينه:

«على زلزال استيقظت (خربة النمل)». بهذه الجملة يبدأ محيي الدين احدى قصصه، وكالحاوي الذي يبقي الأرنب داخل كيسه الأسود ويخرج يده فارغة في كل مرة، فإن الكاتب يمرر علاقات القرية ونسيجها الاجتماعي وبنيتها التحتية، من خلال هذا الخبر الذي انشغلت القرية كلها به. «اجهض الحوامل وأرجف البيوت ولحى الرجال، وفزعت العصافير وأجفلت الغيوم وضرب المختار الأرض بعصاه الغليظة» ص. 9 وما الذي حدث اذاً؟... لا شيء، مما يخطر على بال أحد، فقد انتفض شرف القرية لاختفاء حمارة المختار، ولكن بعد ان سجلت عدسة الكاتب لوحة بانورامية عن القرية وما يجري فيها تحت ستر الظلام وفي وضح النهار، من علاقات اجتماعية، بعضها معروف وكثير منها مغطى بقشرة الليل السوداء. ومحيي الدين مينو قارئ جيد لقصص زكريا تامر، لذلك سنجد تأثرا ملحوظاً، ليس بأسلوب زكريا ونمط كتابته فقط، بل بالمبالغات وادارة لعبة القص، ولكن من دون أن يقع في أسره، ويمكن القول ان الكاتب يجدد في طرائق السرد ويولد مواضيع جديدة من الحياة اليومية التي تحيط بنا ولكن في اطار المدرسة التامرية.

في قصة «حلم عابر» يضعنا الكاتب أمام رجل وديع، مسالم، يحب الحرية والشمس والصبر، ويحلم بامرأة جميلة وصدر هادئ ورغيف أبيض، وبسبب هذا الحلم يتعرض الى شتى الاهانات والضرب والتهم التي تؤدي به إلى الاعتراف بجرم لم يرتكبه وينال عليه أقسى عقوبة، يقابلها بسخرية سوداء، لأنه كان سعيداً بهذه النهاية التي خلصته من هكذا حياة، كان يعيشها.

هذه السخرية ستغلف معظم قصص المجموعة التي تنم عن روح تهكمية يتمتع بها الكاتب حتى في أشد المواقف قسوة.

تدور معظم قصص محيي الدين في دائرة الدفاع عن إنسانية الإنسان وعن كرامته ودرء الظلم عنه، في الوظيفة والشارع والبيت والسوق، يمنع عنه الأذى ويدافع عن آدميته، ضد تلك القوى التي تمارس طغيانها وجبروتها عليه وتحوله إلى (عجينة) مطواعة، ترضخ الى كل عمل يطلب منها، كما في القصة التي تحمل عنوان المجموعة، اذ يتحول عبد الجبار، شيخ سوق الخردة الى مجرد مخبر صغير، يغطي ضعفه بإيذاء الآخرين ولا يسلم من هذا الأذى جيرانه في السوق، عندما يواجهونه بحقيقته وتحوله الى منافق ومتملق، لكنه لا يتوقف عند هذا الأمر طويلاً، لأنه يصعد على جثثهم ببساطة.

وفي قصة «ما قاله الليلة لي» يجد الكاتب نفسه في أبي محمود الرجل الخائب الذي لا أمل له في زوجة ولا رجاء له في أولاد. يدور ويدور مثل بغل الطاحون ولا يحصد في النهاية الا الخيبة، وتبلغ المأساة الانسانية ذروتها، عندما يقول: «ماذا أعمل ايضاً؟ عملت عتالاً في سوق الهال، عملت بائع جوارب على باب الجامع الكبير، عملت مهرباً وقواداً ومخبراً.. ثلاثة آلاف لا تشتري اليوم قميصاً وبنطالاً وسبع أنفس تأكل الأخضر واليابس»، ص. 40. وتكون النهاية الفاجعة، عندما يبتلع جوف شاحنة القمامة احدى الحاويات ولا يكترث عامل التنظيفات الى الأنين المكتوم الذي كان ينبعث منها.

لم يقبل محيي الدين مينو إلا أن ينحاز الى بسطاء الناس، أولئك الذين يعيشون على هامش الحياة، يحمل اوراقه ويرصد تعبهم ولا جدوى حياتهم، وبعين المحلل الاجتماعي، يصور الظاهرة ويحلل اسبابها الموضوعية وغير الموضوعية، ثم يقترح الحلول التي غالباً ما تكون مأسوية، لكنه لا يغلق الباب تماماً، يتركه موارباً ليدخل منه النور ولو قليلاً، كما في قصة: (صورة الأب المعلقة على الجدار)، رمز السلطة البطريركية التي تريد للحياة ان تعود الى عصور الاستعباد، تغلق على المرأة الأبواب والنوافذ وتمنع عنها النور والهواء، وكان لا بد من انزال الصورة من فوق الجدار، لتبدأ الحياة بنثر اغانيها العذبة. ويستحضر الكاتب من التاريخ الأدبي والشعبي شخصية عنترة، على طريقة محمد الماغوط وعلي الجندي، وزكريا تامر، ليقدمه في مفارقات تحمل دلالات شتى، وتنم عن حضور ثقافي، معرفي، لتراث العرب وتقاليدهم الأدبية، وذلك من خلال مواقف عديدة، تقوم بها شخصية عنترة، فعلا وقولاً، وهنا تظهر شخصية زكريا تامر لتطغى بعض الشيء على لغة القص، ولكن دون ان تذوب فيه، كقوله: «خرج عنترة يوماً من «ديوان العرب» فرأى رجالاً بلا لحى ونساء كالدمى وصادف في طريقه شرطياً.. الخ» ص.57.

وتتضح أكثر في القصص القصيرة جداً، اذ يقول: «رأى نفسه شرطي مرور، ينفخ في صفارته، فتصيح توا الديكة وتبزغ الشمس» ص.65 وهي لغة السرد ذاتها التي طبعت اسلوب زكريا تامر ولكن لا بأس ان تستمر هذه المدرسة لعل الحياة تعود الى القصة القصيرة من جديد، وتعيد اليها القها الذي كان.

تبدو قصة «قرنفل احمر في مفرق الرأس» من أكثر القصص تميزا في المجموعة، وربما لهذا السبب أحب الكاتب أن يغلق مجموعته بها، وعلى طريقته في فتح الأقواس، فإنه يبدأها بـ «منذ فتحت عيني على الدنيا لم أر الا الأسود». ومن مفتاح القصة، كلمة «الأسود» يفتح القاص عوالم مجتمعه المحيط، بعلاقاته وتشابكاته، فيجعلنا نتعايش مع شخوص من لحم ودم، وبصفحات قليلة يقدم شريحة اجتماعية تنبض بالحياة ويرصد يومياتها، تلك التي تعيش في عالم ملون بلون واحد كثيف، «الأسود» الذي يغمر كل شيء، من ملاءة الأم الى رغيف الخبز، الى الطبيب الى الحلم، الى الخامس من حزيران، الى السياسة: «كان أبي شيوعيا وكان عمي عبد الباسط ناصريا وكان عمي الآخر عبد الغني بعثيا، لم يلتقوا يوما معا الا على مائدة العيد الصغير أو الكبير وربما التقوا مصادفة في عرس أو عزاء» ص. 83.

ويستطرد الكاتب في تشريح فئة اجتماعية، تغوص في مستنقع السواد والتخلف، لتكون جزءا من دائرة أكبر، وتتسع الدوائر لتشملنا جميعا، في حياتنا وعلاقاتنا المتخلفة التي لم ترتق بنا لنكون بشرا أسوياء نفكر بطريقة صحيحة على الأقل.

محيي الدين مينو في مجموعته الثانية، لا يبدو متسرعا في كتابة القصة القصيرة والنشر، انه يفضل ان يشرب قهوته على نار هادئة، ليحفر له مساراً في فن القصة السورية التي تغافل عنها الكثيرون، وهو يصر على معالجة القضايا الاجتماعية والانسانية والسياسية بسخرية مريرة، في قالب قصصي ينحاز الى الفن الخالص.

أوراق عبد الجبار الفارس الخاسرة (قصص) محيي الدين مينو دمشق ـ اتحاد الكتاب العرب 2000 93 صفحة ـ قطع متوسط