خصوصية الذات وإنشودة الطريد في مواجهة الآخر

«نص الهوية» كتاب نقدي يدرس البنية الفنية والرؤية الموضوعية في شعر محمود درويش

TT

يعكس نص محمود درويش الشعري خصوصية لافتة وقد جاء تميزه باعتباره نص هوية لمجموعة من الظروف المتضافرة أبرزها على المستوى الفني تفرد تشكيله الشعري وعلى المستوى الحياتي اتساع رقعة تجربته وخبرته مما جعل القصيدة لديه نموذجا لنص الهوية الفلسطيني الذي جاء انعكاسا لعلاقة صراع تحاول تهديد خصوصية الذات وتعمل على طمس جذورها وقمعها واستلابها.

وحاول الناقد الدكتور وليد منير خلال كتابه «نص الهوية قراءة في محمود درويش» دراسة العناصر التي ارتكزت عليها القصيدة عند درويش وتميزت بها وقال إن الذات في نص محمود درويش تمثل بوصفها تمثيلا للندوات التي تشترك معها في تأكيد هويتها المفقودة وتكتسب الذات القومية عنده أولويتها على الذات الطبيعية أو الذات الفردية وهو ما يتجلى في قصيدة «بطاقة هوية» من ديوان «أوراق الزيتون»: «سجل أنا عربي. ورقم بطاقتي خمسون ألف واطفالي ثمانية وتاسعهم يأتي بعد صيف.. فهل تغضب»، وقد تتحدد الذات أكثر عند درويش وتصبح الذات الوطنية مركزا لدائرة القول، وتكتسب ألوانها على الذات القومية والذات الطبقية والفردية جميعا، وهذا ما يظهر واضحا في قصيدة «عاشق من فلسطين» من الديوان نفسه ويقول فيها «فلسطينية العينين والوشم.. فلسطينية الاحلام والهم .. فلسطينية المنديل والقدمين والجسم، فلسطينية الكلمات والصمت» والتكرار هنا حسب رأي وليد منير بوصفه أداة اسلوبية له وظيفة دلالية مهمة تتمثل في الالحاح المستمر على الهوية وتأكيد بعدها المتصل بالأرض، والشاعر هنا يؤكد انتماء كل من العنصر الحسي والعنصر المعنوي الى جنسية الذات ويدخل العنصرين معا في دائرة المشترك من خلال التداعي في تعبير فلسطينية العينين.

وذكر منير ان الذات الطبيعية تأخذ مظهر الذوات التي تنتمي للهوية نفسها وإن ظلت تلك الهوية منسية وفاقدة الاسماء «أنا من قرية عزلاء منسية، شوارعها بلا أسماء. وكل رجالها في الحقل والمحجر يحبون الشيوعية» والسطر الأخير من القصيدة حذفه درويش في أعماله الكاملة المجلد الأول الطبعة السادسة وهذا له دلالة، ويذكر الناقد ان الذات الفردية عند درويش سرعان ما تنقلب أحيانا كثيرة الى عدد من الذوات فتصبح وكأنها المفرد الجمع في آن. ويتردد القول في تيار دائب هكذا بين الأنا والنحن ويتجلى ذلك في قصيدة «مطر» من ديوانه «عاشق فلسطين» والتي يقول فيها «يا نوح هبني غصن زيتون ووالدتي حمامة.. يا نوح لا ترحل بنا، ان الممات هنا سلامة» والشيء نفسه يمكن ملاحظته في قصيدة «قتلوك في الوادي» من ديوان «أحبك أو لا أحبك» ويقول فيها «يا أيها البلد البعيد هل ضاع حبي في البريد، لا قبلة المطاط تأتينا ولا صدأ الحديد، كل البلاد بلادنا ونصيبنا منها.. بريد».

وحدد الناقد وليد منير العنصر الثاني في نص الهوية عند درويش في وعيه بالآخر والذي يمثل بوصفه تعبيرا عن وجود الذات أو تعبير عن اغتصاب وجودها وفي الحالة الثانية يصير الآخر تمثيلا للاخرين، الاعداء غالبا الذين يشتركون جميعا في اغتصاب الوجود، وعلى المستوى الأول يمكن ملاحظة ان الآخر يصبح معادلا لقيمة الروح بالمعنى الأعمق للكلمة، ماثلا في الاستعادة التي تشبه الحلم، وهذا واضح في قصيدة «إلى أمي» من ديوان «عاشق من فلسطين»، حيث يتشبث درويش هنا بالماضي ويستحضره كما يتشبث في قصيدة «لا تتركيني» بلحظة في الحاضر وفي قصيدة «الرجل ذو الظل الأخضر» يرنو درويش الى لحظة في المستقبل.

أما على المستوى الثاني يذكر وليد منير ان صورة الآخر عند درويش تشي بنوع من القصور الذاتي حيث تصبح تصفية الذات فعلا يوميا تقريبا ليس مطروحا لاعادة النظر وهذا يتجلى واضحا في قصائد من مثل «جندي يحلم بالزنابق البيضاء» و«آلة تنفث نارا».

ويأتي الدكتور وليد منير في دراسته للقصيدة عند محمود درويش بعد ذلك الى العنصر الثالث ضمن مرتكزاتها وهو الوعي بالعالم ويمثل المكان عنصرا مهيمنا بين عناصر العالم وينقسم الى المكان الوطن والمكان المنفي، وينفتح هذان القسمان من المكان عند درويش على عناصر العالم الأخرى الطبيعية والزمن وعلاقات الوجود والفعل ومحتوياتها في منظومة تفضح سمتي الغربة، والاغتراب معا وكل هذا يتضح في قول درويش «جميل أنت في المنفى.. قتيل أنت في المنفى»، من قصيدة «أحمد الزعتر» في ديوان «أعراس»، وهذه القصيدة تأتي في دراسة وليد منير للوعي بالعالم عند درويش ضمن عدد كبير من القصائد تضمنتها دواوين «حصار لمدائح البحر» و«هي أغنية» و«أعراس».

وتحدث وليد منير بعد ذلك عن الوعي لدى درويش بوصفه جدلا وقسمه الى جدل الذات مع الذات، والذات مع الآخر مشيرا الى أن الآخر ينهض في صورته الموجهة بنوع من التوازن مع الذات الضد في تيار جريانها المزدوج، فالآخر الرفيق الصديق الحبيبة نوع من امتداد الذات الى خارجها والحفاظ على علاقة وجودها مع العالم لأنه تجسيد لحلم أو لقيمة أو رغبة وهذا حسب رأي منير يعني أن الآخر هو المكان الثاني للذات بعد نفسها، وهو انفتاح على المشاركة في الفعل الذي يكدح في اتجاه الحرية انفلاتا من قيد الضرورة، وهناك شكل من أشكال الوجد دائما ما يسم علاقة الذات مع الآخر، ومحمود درويش في اطار هذه العلاقة يكتشف الآخر الصديق من خلال المرثية، والآخر الرفيق من خلال فعل الخلق والولادة والآخر الحبيبة من خلال رغبة التوحد الصوفي، وبين الموت والخلق والتوحد تنبثق حركة البدء المنتهي عبر الأنا المتوحدة، وقد تتداخل وتتبادل حالات التكشف الثلاث بين الذات والآخر من دون ان يفقد مثلث العلاقة دلالته أو يتغير منتوجه الأخير في صورته الموجبة، والآخر في صورته السالبة، وتقف الصديقة أو الحبيبة اليهودية كي تضيف حالة رابعة متعادلة الشحنة، حالة من التردد الانساني في الاختيار.

ويذكر الناقد وليد منير ان هناك نوعا آخر من الجدل هو جدل الذات مع العالم وينتظم في شبكته الداخلية أنواع الجدل الأخرى بوصفها جدليات جزئية، لأن الوعي بالعالم يشمل في نسيجه دوما الوعي بالذات والطبيعة والآخر، والمكان والزمان ويمد خيوطه المتداخلة فيما بين هذه العناصر جميعا، ويشير الناقد الى انه اذا كان جدل الذات العالم ناظم الجدليات الأخرى فإن عنصر المكان هو مفتاح العناصر يمنحها سياقها الدال الذي تفهم من خلاله.

وخلال دراسته لنص محمود درويش تحدث وليد أيضا عن الواقع الاغنية والواقع الملحمة، وأشار الى أن الواقع الأول يتحول الى أغنية من خلال انعطافة انفعالية مباشرة نحو حدث بعينه أو واقعة بعينها وتستوعب الاغنية تفاصيل الحدث أو الواقعة عن طريق التكرار والتنوع والتداعي الناشئ عن عنصر تم عزله، عن بقية العناصر وتكثيف والتركيز عليه، وذكر وليد منير ان لدى محمود درويش نوعا من الغنائية الدرامية تتحدد من جدل الرؤي وتأخذ صورة التوتر الخفي بين الفاعلين مؤكدة على عنصر المفارقة تأكيدا يتوسل بالسخرية طريقة دالة على دلالة الموقف، وقال ان الامكانيات الخاصة للغنائية الدرامية عند درويش تتطور لتأخذ شكل الغنائية الملحمية في عدة قصائد منها «تلك صورتها» وهذا انتحار العاشق و«قصيدة بيروت» و«مديح الظل العالي».

وتحدث وليد منير عن الواقع بوصفه أسطورة في شعر درويش وقال انه يتجلى وفقا لثلاثة مخططات أسلوبية بوصفها طرفا من أطراف النص وبوصفها مركز النص كما انها في تجليها الثالث تظهر عندما يقوم محمود درويش بأسطرة الواقعة الحياتية.

وقد أفرد الباحث في كتابه فصلا خاصا للحديث عن اللغة لدى درويش أشار فيه الى أن «المرأة اللغة العالم» معادلة حلولية معروفة تأخذ عند الشاعر موقعا ثابتا له خطر دائم وتجليات لا حدود لها وهي تعكس من بؤرتها كل شيء سواها، وما وراء المرئي والمحسوس والملموس، كأنها صورة التاريخ في تحوله المستمرعندما يكشف عن المطلق الذي لا يتغير أبدا من وراء وقائعه الجزئية المتجسدة في عالم النسبي والجزئي والمحدود.

وفي فصل آخر عنوانه سيكولوجية العلامة الصوتية قال وليد منير مختتما مناقشته لنص عند درويش ان العلامة الصوتية لديه لها شأن يثير الانتباه ويدعو الى التأمل فهي تمتلك القدرة على اثارة الصور بقدر ما تمتلك القدرة نفسها على النفاذ العاطفي بوصفها فاعلة متزامنة مع الصورة المعطاة، انها انشودة الطريد، رحلة الشتات الاعظم مرثية الخروج الى المتاهة الواسعة والدخول الى المتاهة الضيقة عبر تاريخين من النزيف المتصل.