عندما يبسط مدرس التاريخ الماضي على صفحة الحاضر

عبد الحي مودن يسرد روائيا تشابك آليات القمع ومؤشرات الانتقال الديمقراطي في مغرب السبعينيات

TT

هل يحتاج الانسان الى منفى مجازي لمواجهة ذاته؟ وهل هو مضطر الى ابتكار حنين مؤلم حتى يستعيد توازنه؟

تشكل المناسبات فرصا سانحة لمراجعة النفس، أو استرجاع أحداث نسيت وآن أوان تذكرها، أو استخلاص رؤى معينة من الماضي تصلح لمقاربة اشكالات الوجود، هنا والآن.

ذلك ما حفز أستاذ التاريخ أحمد الغزواني، غداة اختتام السنة الدراسية، لتهيئة «خطبة وداع» قرر أن يتحدث فيها الى تلامذته بصدر مفتوح، ويثير انتباههم الى الاسئلة المحرجة التي تستبد بوجدانه. ذلكم أيضا هو سياق البداية المثيرة لرواية عبد الحي مودن «خطبة الوداع» التي صدرت أخيرا بالرباط (2003) بعد مرور سبع سنوات على صدور روايته الاولى «فراق في طنجة».

يتعلق الامر بنص متشابك تشابك الماضي والحاضر في معيش الراوي، لكن خيوطه السردية رصفت بعناية كبيرة. تتقاطع هذه الخيوط فوق مدى زمني يمتد من أواسط ستينات القرن الماضي الى نهاية الالفية الثانية، وهي الفترة التي شهدت أبرز التحولات التاريخية التي عرفها المغرب المعاصر منذ اقرار حالة الاستثناء (1965) وحدوث الانقلابين العسكريين الفاشلين( 1970 ـ 1972) وانفلات آلة القمع العمياء ضد المعارضين اليساريين، الى بروز مؤشرات الانتقال الديمقراطي في مطالع التسعينات، مع ما واكبها من انفتاح أبواب مساءلة العهد الماضي وسعي الى احداث قطيعة مع مخلفاته.

إن عنوان الرواية يحيلنا، ولا شك، على خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم في صحبة الوداع، بيد أن قرينة الدلالة هنا ليست دينية، وإنما وجودية ترتبط بلحظة حاسمة في مسار بطل الرواية كان عليه فيها وضع حساب نهائي لحياته. لقد كان الغزواني يريد القيام بذلك من خلال خطبة وداع يفجر فيها «البركان الذي ما انفك يتوعد بالانفجارA ( ص3)، لكن سعالا مفاجئا يحول دون ذلك. وبما ان الاسباب المحايثة للاختناق المفاجئ لم تكن بديهية، فإن ما ترتب عنها من علامات الاستفهام يدل على أن الامر مرتبط بحالة انحصار يعاني منها البطل، ولا يمكن النفاذ منها إلا بمواجهة حقائق الحياة كما هي، وليس كما يود تخيلها.

لقد اكتشف أحمد الغزواني أن مواجهة الذات لا يمكن أن تتم إلا عن طريق فحص ذلك الدفق المتسلسل من الأحداث والوقائع التي تشكل مصيره: أحداث ووقائع ترتبط بالحاضر اليومي، كما ترتبط بالماضي الذي يمتد الى الوراء ثلاثة عقود ونيف. ترتبط بزوجته زينب التي هجرها منذ سنة، وظل على موقفه المتذبذب منها، خجلا من عقمه وقحولة عواطفه، كما ترتبط بصديقه سعيد المرزوقي الذي اختفى، وصديقه خليل جليس المقهى، وكذا بأوهامه التي يزيل بها معيشه وسط غبار شقته وفوضاها، حيث يدمن على مشاهدة المسلسلات التلفزية ويتسقط مصائر شخصياتها باهتمام غريب.

لكن إذا كان أحمد الغزواني يتعمق في التفكير في ماضيه حتى لا يعكر عليه صفو الانغماس في «رتابة الاشياء« (ص 6) إذ «لن يخرج من الفراغ إلا الفراغ« (7)، فإن الماضي لا يلبث أن يقتحمه: هكذا تهاتفه من أميركا ابنة صديقه المختفي سعيد المرزوقي، واسمها ليزا، مقترحة عليه مساعدتها في وضع سيناريو أو كتابة سيرة تشخص حياة أبيها الذي لم تره قط، مقابل تعويض محترم ستقوم بتحويله الى حسابه الخاص. يشكل هذا الاقتراح المفاجئ ما يشبه الحصوة التي تعمل على تحريك المياه الراكدة، وخاصة مياه تلك الصداقة القديمة التي جمعته بسعيد المرزوقي، والتي انطلقت في اكتوبر (تشرين الاول) سنة 1967، وبلغت ذروتها في 5 يوليو (تموز) 1970 عقب لقائهما عند أسوار شاطئ المهدية حيث عمدا الى حفر اسميهما على أحد الاسوار تعبيرا عن قوة صداقتهما وصلابتها.

كلاهما كان غريبا عن مدينة القنيطرة: فقد جاء أحمد الغزواني من قرية المسقة، الواقعة في أعالي الجبال، قصد متابعة دراسته الثانوية في المدينة المذكورة، بينما جاء سعيد المرزوقي رفقة أمه الحسناء من الدار البيضاء عقب مغادرتهما لها لأسباب غامضة. لقد كان أحمد الغزواني صبيا طيعا، متهافت الارادة، عاجزا عن مقاومة سخرية أترابه وعنفهم، لكن سعيد المرزوقي سيتمكن من بسط جناحي حمايته عليه، وبذلك دخلت صداقتهما منعطفا حاسما غدا فيه الغزواني منبهرا بصديقه، ليس بسبب قوته الجسمانية وصلابة إرادته فقط، وإنما أيضا بسبب سلاسة منطقه وصرامة مواقفه السياسية التي لن تلبث أن تمهد له الطريق الى السجن إبان حملة الاعتقالات التي طالت الماركسيين المغاربة في سبعينات القرن الماضي، الامر الذي سيثير في وجدان الراوي مخاوف جمة، بل سيقذف به في متاه الاسئلة المتناسلة حول جدوى المخاطرة، خاصة وأن جسده لا يسعفه على تحمل عواقبها.

حينما يستحضر الغزواني صورة صديقه، والاسئلة التي تحيط باختفائه، والرسائل التي يتوصل بها منه من دون أن تكون معنونة ولا ممهورة، تستيقظ في ذاكرته الخاملة أشباح ذلك الماضي الذي كان فيه شخصا قلقا، لا يستقر على قرار، فيتذكر أيام الضياع والتشرد والبحث عن الشهوة في جسد البارميد فاتي، زوجة الضابط الأميركي العامل بالقاعدة الجوية بالقنيطرة، وكذا في الدنو الاثم من جمال السيدة ليلى، أم صديقه سعيد، مع ما واكب ذلك من تعرفه على أقران جدد، أبرزهم خليل، موظف المصرف، المستقر في حياة زوجية لاتريم، سمسار السيارات المستعملة، الذي يعتبر الحياة تسلقا وانسياقا مع الممكن، ولا يرى من جاذبيته غير جاذبية الربح الذي تتيحه سمسراته من على ناصية مقهى «ايلدورادو». يشكل خليل، في الواقع، ما يشيه المعادل الموضوعي لشخصية سعيد المرزوقي الذي كان ينشد التغيير السياسي عن طريق إحداث قطيعة مع بنية النظام المتسلط، ويبرمج حياته ومستقبله المنظور وفق هذا الهدف.

تنفيذا للاتفاق الذي حصل بينه وبين ابنة صديقه، يشرع أحمد الغزواني في تفحص الوثائق التي أخفاها في حقيبته ووضعها في حجرة المهملات بقبو العمارة التي يقطن بها، وكذا الاتصال ببعض رفاق سعيد، وأمه ليلى التي عادت الى الدار البيضاء، وجلاديه القدامى الذين استتابوا، أملا في التأكد مما إذا كان سعيد المرزوقي قضى نحبه في السجن أثناء الاعتقال، أم لاذ بالفرار، أم تم تهريبه لقاء صمته وتخليه عن رعونته السياسية. يتقدم البحث ببطء وتلكؤ رغم الحاح ليزا وتعدد مكالماتها الهاتفية، وخلال فحص الاوراق والوثائق وقراءة ما وراء أسطر الرسائل مجهولة المصدر التي يتوصل بها، يسترجع أحمد الغزواني مشاهد معتمة من حياته الماضية، وخاصة تلك الليلة الماطرة التي قضاها مع أم صديقه حين اقتحم بيتها عنوة في غيبته، كما يتذكر كيف وشى بصديقه على نحو ملتبس لدى رجلي الشرطة اللذين كانا يتعقبانه ويهمان باعتقاله. فهل فعل ذلك انتقاما منه لكونه غازل خليلته فاتي التي امتدحته كيدا فيه؟ أم حتى يخلو له الجو مع الام الحسناء؟ أم خوفا على نفسه من عذاب لا قبل له به؟

هناك غموض منصب يلف هذه الذكريات المؤرقة، مثلما يلف شخصية ليزا التي يبدو أنها كانت ثمرة العلاقة العابرة التي جمعت بين سعيد المرزوقي وفاتي إثر ذهاب هذه الاخيرة الى أميركا بعد انتهاء مهمة زوجها في القاعدة الجوية بالقنيطرة. هكذا تتقاطع في نهاية الرواية إشارات وردت على ألسنة بعض مخاطبي أحمد الغزواني، فيستنتج أن سعيد المرزوقي تم تهريبه من المعتقل بتدخل من أحد ضباط الجيش، كما يستنتج أنه سيحل بنفس المكان الذي سبق لهما اللقاء عنده قبل ثلاثة عقود، وبالضبط يوم 5 يوليو (تموز) 1970، فيقرر السعي للانفراد به عند أسوار المهدية المطلة على شساعة المحيط الاطلسي، رغم المخاوف التي اعترته من امكانية مطاردة الشرطة له هناك، خاصة وأن صديقه خليل أخبره أن السلطة وضعت حسابه البنكي تحت المراقبة بسبب التحويلات التي وصلته من أميركا. وعند حلول الظلام المشبع برطوبة الامواج، سيلتقي الصديقان من دون أن يبصر أحدهما وجه الاخر، فيدور بينهما حوار صريح يعبر فيه سعيد المرزوقي عن ثباته على المبادئ التي ناضل من أجلها، وفي نفس الوقت يبدي استغرابه من عدم تحققها على أرض الواقع.

وعندما يسأله الغزواي عما إذا كانت طموحاته لم تتأثر بتوالي السنين، فإن سعيد يجيب بأن هنالك فئرانا عنيدة أخذت تحفر لها ثغورا مقلقة في وجدانه، وأنه متعب من ترحاله الدائم ويتطلع الى العودة، يتعانقان وسط الظلمة ثم يختفي سعيد، فيخلد صديقه الى النوم في ذلك البراح الصاخب كما فعل من قبل. وفي صباح اليوم التالي يتمكن من مشاهدة باخرة وهي تمخر عباب المحيط في اتجاه المجهول.

يبرز ارتهان أحمد الغزواني نفسه إلى ماضيه أن حياته كانت سلسلة من الاسئلة، وأن الاجابات التي ينشدها ظلت منفلتة، وأن أي خطاب وداع كان عاجزا عن استيعاب حالة الحي الوجودي التي يود الخروج منها، وبما أن المكالمة الهاتفية المقبلة من أميركا بسطت الماضي على سطح الحاضر، فان أحمد الغزواني لم يجد بدا من النظر الى حياته على شكل رواية أو سرود متعددة المستويات، يتداخل فيها الذاتي والموضوعي الراهن والمنسي، الرغبة والواجب، لكن عليه اكتشاف تمفصلاتها، والتنسيق بينها، حتى يتجلى له معنى حياته واضحا لا لبس فيه. هكذا كان يعمل، بين آونة وأخرى، الى تأمل التقابلات، والتقاط الدلالات، واستبطان فقرات من رسائل صديقه سعيد المرزوقي، قصد استحضار لحظات ضائعة بامكانها القاء مزيد من الضوء على بعض المراحل المصيرية. لقد أدرك بأن الحياة التي قطعها خطوة خطوة كانت سديما مربكا، وأن السير فيها مجددا سيتيح له امكانية رؤية نفسه ككائن موضوعي كان شاهدا رغم أنفه على تاريخ مؤلم، وأن بؤس حاضره وعزلته نابعان من عدم استطاعته الحسم في المكان الذي سيشغله ذلك التاريخ من حياته، وأين سيضع حقيقة علاقته بسعيد المرزوقي من صورة مصير يوشك أن ينفتح على الصمت والنسيان.

إن القارئ ليقف مندهشا أمام قدرة عبد الحي مودن على لملمة خيوط «خطبة الوداع»، وتقطيعها وتقديم بعضها وتأخير بعضها الاخر، علما بأننا لم نشر إلا الى أبرز تلك الخيوط. لا يتعلق الامر بروائي محترف، بل بباحث وأستاذ للعلوم السياسية مهتم بحوار الثقافات، ولم يسبق له، قبل صدور «فراق في طنجة» أن ألمح الى ما يؤكد اهتمامه بالرواية. كما لم يسبق له أن مارس القصة القصيرة في طريقه الى امتلاك ناصية التعبير الروائي. لكن الرجل، فيما يبدو، قارئ متتبع للرواية الاجنبية، وخاصة الأميركية فضلا عن كونه متعدد المواهب. وحين نعلم اهتمامه بالموسيقى وحذقه لمنظومة السلالم الموسيقية، يغدو من السهل ادراك أسباب سيطرته على مكونات هذا النص الغني الذي يعتبر خطوة متقدمة في مجال الابداع الروائي بالمغرب.

* كاتب وناقد من المغرب