الترجمة من العربية ومتطلبات السوق الغربية

إبراهيم الخطيب: الدول العربية لا تولي اهتماما لترجمة ثقافتها إلى الدول الأوروبية * رشيد برهون: الترجمة عن العربية تخضع لإيقاع بطيء ولا تتجاوز بعض المبادرات المتفرقة

TT

نشرنا في الحلقتين السابقتين من ملف «الشرق الأوسط» عن الترجمة من العربية إلى اللغات الأخرى، آراء عدد من الكتاب والباحثين والمترجمين من بلدان عربية مختلفة، تحدثوا فيها عن العوامل التي تتحكم في هذه العملية. وأجمع قسم من المشاركين على غلبة الانتقائية وغياب الموضوعية أحياناً، وتحكم عناصر ليست فنية في اختيار الكتب المترجمة.

هنا آراء أخرى من المغرب والعراق:

من المغرب يقول الكاتب والناقد والمترجم ابراهيم الخطيب «مع دنو أجل انعقاد معرض فرانكفورت الدولي للكتاب الذي سيكون العالم العربي ضيفه هذه السنة، يبدو من المنطقي التساؤل عن وضعية ثقافتنا في العالم اليوم، وعن حجم تلقي هذه الثقافة من طرف الغرب، وعما إذا كانت الترجمة من العربية الى اللغات الأوروبية تقوم بدورها في التعريف بالانتاج الثقافي العربي وما ينطوي عليه من اشكالات وقيم ورهانات. لقد أبرز تقرير الأمم المتحدة حول التنمية في العالم العربي أن انتاجنا الثقافي يعيش في فضاءات شبه مغلقة، وأنه يحيا ضمن نظام رمزي معزول عن رياح العالم وتغيراته الفكرية والعلمية والأدبية. صحيح أن عصر المعلوماتية أوجد حركة غير معتادة في اتجاه تقليص الفواصل الزمانية والمكانية للتواصل، إلا أن توجهات هذه الحركة مازالت موسومة بالتقلبات التي يفرضها واقع التبادل اللامتكافىء. لذا فإن انطباعي الشخصي هو أن ترجمة الأعمال الثقافية العربية الى اللغات الأخرى لا يعبر تماما عن حقيقة حجم الانتاج الثقافي العربي، وذلك لكون الثقافة المتلقية، وأعني الثقافة الأوروبية في مجملها، لا تتعامل مع ثقافتنا كثقافة منتجة لقيم ممتدة في الزمان والمكان، وإنما كإنتاج ظرفي محكوم باحتمالات تاريخية ليس إلا».

* جهود أوروبية وغياب عربي

* وحول العوامل التي تتحكم في هذه الترجمة يقول الخطيب «إن هناك عوامل متعددة تتحكم في عملية الترجمة الى اللغات الأوروبية. وفيما يتعلق بنصف القرن الأخير، يمكن أن نلاحظ أن الترجمة من العربية عرفت مدا وجزرا، وتصاعدا وتناقصا، بحسب ظروف موضوعية وذاتية مختلفة: يهمني أن أشير هنا مثلا الى حجم الانتظار الذي خلقته هزيمة 1967 وما واكبها من تعاطف ثقافي أوروبي مع المقاومة الفلسطينية بحيث غدا كل من غسان كنفاني وإميل حبيبي ومحمود درويش أصواتا أدبية معبرة عن هذه المقاومة، لذا ترجمت أعمالهم الى أكثر اللغات الأوروبية تمثيلية. أود أن أشير أيضا الى حدث حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل للآداب عام 1988، وهو الحدث الذي تحول في أوروبا الى اهتمام مثير، ليس بأدب هذا الكاتب فقط، وإنما بالابداع الثقافي العربي، وخاصة على صعيد الرواية. من جهة أخرى يمكن الإشارة، على سبيل المثال لا الحصر، إلى بعض المؤسسات الأوروبية الخاصة التي كرست جهودها لترجمة الثقافة العربية: هناك مثلا «دار سندباد للنشر» التي عملت إبان ستينات القرن الماضي على تزويد القارىء الفرنسي بآثار دالة ومنتقاة من الانتاج العربي المعاصر، وكذا التراث الاسلامي. وهناك مؤسسات عمومية أوروبية لعبت دورا بارزا في مجال ترجمة ثقافتنا: أذكر هنا «معهد التعاون مع العالم العربي» في مدريد، و«معهد العالم العربي» في باريس، اللذين قدما مساعدات سخية لبعض دور النشر الخاصة في اسبانيا وفرنسا قصد تمويل ترجمة ونشر الأعمال الثقافية العربية الى لغتي البلدين. بطبيعة الحال لا ينبغي أن نغض الطرف عن دور العامل الشخصي في سريان ثقافة الى ثقافة أخرى، رغم نسبيته، كما لا ينبغي أن نغض الطرف عن طائفة من الكتاب الذين أصبحوا يصوغون ابداعاتهم حسب متلقيها الأوروبيين أو حسب اهتمامات دور النشر هنا وهناك». وعن مسؤولية الدول العربية أو الأوروبية في الترجمة يضيف: «أعتقد أن الأوروبيين قاموا بدور لا يستهان به في سبيل التعريف بثقافتنا على امتداد القرن الماضي، سواء على الصعيدين العمومي أو الخاص. في الواقع إننا نطالب الغرب بجهود يجب علينا نحن أن نقوم بها. إننا نرى مثلا أن المراكز الثقافية الأجنبية في بلداننا تعمل على ترجمة ثقافة بلدانها الى اللغة العربية، وتشجع على ذلك، وتقدم مكافآت مجزية لمن ينجز هذه الأعمال، كما تتكفل بطبع الترجمة وتسعى الى تدعيم تداولها بإحداث جوائز ومكافآت شتى. فماذا فعلت الدول العربية في مجال ترجمة ثقافتنا الى اللغات الأوروبية؟. إننا نلاحظ أنها لا تولي اهتماما يذكر لذلك، مع أن هذا المسعى عامل حيوي لإشراع نوافذ ثقافتنا في العالم. إنه أيضا مسؤولية جماعية، إننا مولعون بالحديث إلى أنفسنا، علما بأن العولمة تقتضي أن نكون أندادا للآخر أيضا، ولن تتحقق هذه الندية إلا بمخاطبة الثقافات الأخرى عن طريق الترجمة».

* نقل الصورة النمطية عن الشرق

* من جهته يفضل الكاتب والناقد المغربي رشيد برهون الانطلاق من مجموعة من التساؤلات لمقاربة هذه المحاور المقترحة حول الترجمة فيقول: «ما هي السياسات الترجمية التي توجه اختيار بعض النصوص العربية من دون غيرها كي تجتاز الحدود مزودة بتأشيرة المرور نحو النسق الثقافي الجديد؟ بعبارة أخرى، لماذا تختار نصوص عربية من دون غيرها كي تترجم؟ وما هو نوع النصوص التي تتم محاباتها وإعطاؤها الأولوية إن لم نقل الامتياز لاحتكار السوق الغربية؟ ولكن أيضا ما هي الطريقة التي يتم بها تقديم هذه الأعمال إلى القارئ الغربي؟

قد يفهم من هذه التساؤلات أن هناك متنا مهما من النصوص العربية ترجمت فعلا إلى اللغات الأجنبية; وأن حركة الترجمة متواصلة للتعريف بالفكر العربي عموما والأدب العربي خاصة. في غياب إحصاء دقيق للمتن المترجم، وانطلاقا من بعض الدراسات المتفرقة التي اهتمت بهذا الموضوع، يبدو أن الأمر ليس كذلك، وأن الترجمة عن العربية تخضع لإيقاع بطيء ولا تتجاوز بعض المبادرات المتفرقة. كما أن هناك بعض الأسبقيات المرتبطة بثنائية المختلف والمؤتلف مع الذات حتى في علاقة الغرب المتقدم بما هو أجنبي عنه، وهذا ما يفسر رواج أدب أميركا اللاتينية في أوروبا مقارنة بالأدب العربي، لأن أدب أميركا اللاتينية يعد بدرجة أو بأخرى جزءاً من الثقافة الأوروبية، أما فيما يخص أدبنا، فالأمر مختلف، إذ تتدخل هنا عوامل لا علاقة لها بالاعتبارات الأدبية. ومن الطبيعي أن يكون أدبنا جزءاً من العلاقة المعقدة بين الشرق والغرب».

وعن العوامل التي تتحكم في هذه الترجمة يقول برهون «إن العلاقة المعقدة هي التي جعلتنا نتساءل عن السياسات الترجمية التي تحكم انتقال النصوص من العربية إلى اللغات الغربية. يبدو أن السوق الثقافية الغربية ما تزال تفضل الأعمال العربية والإسلامية التي تتعرف فيها على قيمها الفكرية والجمالية، لهذا فإن عبور النصوص العربية إلى الضفة الأخرى هو بمقدار ما تتضمنه من عناصر تستجيب لأفق انتظار قارئ لا يغادر مكانه. ولنتذكر كيف ترجم عنوان كتاب نوال السعداوي «وجه المرأة العاري: بـ Hidden face of Eve، أي وجه حواء المخبأ، وكأن كل الكتب عن النساء العربيات لا بد أن تتضمن عناوينها شيئا عن الحجاب. وفي السياق نفسه نجد أن النصوص العربية الأولى التي ترجمت إلى الفرنسية كانت تحمل في بنيتها عناصر تقربها من الأدب الغربي، فلا غرو إن كانت أول النصوص المترجَمة تنتمي إلى جنس السيرة الذاتية..وبالمقابل كلما اعتمد الكاتب العربي شكلا أقرب إلى التراث، كان من الصعب ترجمة كتاباته.

هناك إذن ميل واضح عند الغربيين إلى منح تأشيرة الترجمة إلى النصوص التي تستجيب لأفق انتظار القارئ الغربي، وهو أفق انتظار مؤسس على مجموعة من الصور النمطية عن الشرق عموما والعالم العربي خاصة. ولا غرو أن نجد في هذا السياق أن الكتاب العربي الذي حظي بأكبر عدد من الترجمات إلى اللغات الغربية هو كتاب «ألف ليلة وليلة»، لهذا فإن صورة العالم العربي التي تقدمها الترجمات تسمها الغرائبية الباذخة والحسية والسذاجة التي تطبع عوالم ألف ليلة وليلة.

ويضيف برهون :«إن واقع تلقي الأعمال الأدبية عبر المتابعة النقدية أو الترجمة يبين أن البحث عن المُـشاكِل والمؤتلف، سواء مع معايير الذات أو مع أفكارها المسبقة عن الآخر، هو الذي يتحكم في التعاطي مع المؤلفات المقبلة من الضفاف الأخرى. وبما أن الأمر كذلك، أي بما أن السياسة التي يتم من خلالها اختيار أعمال أدبية عربية كي تحظى بالترجمة ليست بريئة وإنما غالبا ما تحكمها معايير غير فكرية وأدبية، فإن العديد من الكتاب أصبحوا يفضلون تسهيل أمر عبورهم إلى الضفة الأخرى، لهذا نجد أن عددا كبيرا من الأعمال تكتب بالعربية، ولكنها تستهدف جمهورا غربيا. وتندرج هذه الكتابات فيما يسمى بالكتابة للتصدير أو الكتابة من أجل الترجمة كما يسميها بعض الباحثين. وهي تضم المؤلَّفات التي يصوغها مؤلفوها وعينهم على السوق الغربية، أي يكتبونها على مقاس قارئ يملكون عنه تصورا مسبقا. تقودنا هذه الملاحظات إلى إعادة النظر في تلك الجمل النمطية المكررة التي نتداولها عادة في شأن الترجمة، إذ نعدها عملية تلاقح ثقافي وانفتاح على الآخر وعلى الحضارة الإنسانية من دون أن نتساءل عن السياسات الثقافية التي تحكم عملية انتقال النصوص بين اللغات والثقافات. ولكن يجب ألا نظل سجيني التعميمات، إذ هناك من الكتاب العرب من يرفض أن يكتب وعينه على سوق الترجمة.

ومن جانب آخر، علينا أن نُنَسِّب أحكامنا ونخفف من وقع هذه الصورة القاتمة لعبور النصوص العربية، بالقول إن هناك وعيا متناميا لدى العديد من المترجمين الغربيين إلى ضرورة الانفتاح أكثر أو بالأحرى انطلاقا من منظور مختلف، على الثقافة العربية عبر التنويع في نمط النصوص المترجمة وعبر اعتماد أيضا ترجمة تحترم خصوصية النص المترجم وغيرته.

هذا فيما يخص ترجمة النصوص العربية إلى اللغات الأجنبية، أما في الجانب الآخر، أي فيما يتعلق بالترجمة إلى العربية، فمن بين الأسئلة الهامة التي تطرح في هذا المستوى، من هو المسؤول عن تشجيع الترجمة ودعمها؟ أهو الحكومات أم القطاع الخاص أم المفكرون؟ يستمد هذا التساؤل أهميته من كون أغلب الترجمات المنجزة هي نتيجة مبادرات أفراد، مبادرات تظل رغم أهميتها محدودة التأثير ولا تساعدنا على تدارك نقصنا في هذا المجال. الوضعية المثلى أن تتضافر جهود كل الأطراف: المثقفون لارتباطهم بحقل الفكر، هم إذن يقومون بعملية الاختيار، والدولة والقطاع الخاص يتكفلان بتمويل الترجمات.

* ضرورة الجهد الجماعي

* من الأردن، يرى رشيد أبو غيدا، وهو مترجم وروائي، أن ثمة عوامل أخرى غير القيمة الأدبية تتحكم في عملية الترجمة. وقد جرت العادة أن الترجمة لا تتم إلا بناء على طلب مؤسسة ثقافية ـ أدبية أوروبية في فرنسا أو بريطانيا مثلا، وتكلف جهة ثقافية عربية بإنجاز هذه المهمة، ولا شك أن الجهة العربية المكلفة بالترجمة أو اختيار المواد المنوي ترجمتها لا يمكن أن تكون موضوعية في خياراتها.

* وبناء على ذلك، ينبغي أن تكون الأعمال الأدبية العربية بكافة فروعها نتاج جهد جماعي تضطلع به مؤسسة ترعاها الحكومات العربية أو اتحاد الكتاب أو الأدباء العرب.

* ضعية الكاتب قبل الترجمة

* أما الباحثة والمترجمة وسام عبد الله، من الأردن أيضاً، فتعتقد أن ترجمة الأعمال الأدبية العربية تعبر، لا من حيث الكم ولا من النوع، عن الإنتاج الثقافي العربي على الإطلاق، فمعظم الترجمات تتحكم بها عوامل أخرى غير القيمة الأدبية، مثلا معظم من ترجمت كتبهم أما هم مقيمون، أو كانوا مقيمين، في دول الغرب. وفي حالات أخرى فمن فازوا بجوائز دولية لفتت الأنظار إلى نتاجهم.

وعليه فإن الكتب التي ترجمت كانت فعلا نتاجا لعلاقات شخصية، سواء مع دار النشر أو مع من هو في موقع يسمح له بتزكية الكتاب للترجمة بغض النظر عن قيمته أدبيا في الوطن العربي، وعما إذا كان هناك ما يستحق الترجمة اكثر منه.

لكن المشكلة ليست هنا، السؤال هو لماذا علينا أن نفكر بالترجمة قبل أن نفكر بوضع الكتاب في بلادنا؟ عدد الكتب التي تصدر أو تطبع في الوطن العربي هي الأقل في العالم قياسا بعدد السكان، لماذا علينا أن نهتم بأن يعرف العالم هذا الكاتب ويقرأ له إذا كان جاره القريب لم يقرأ له؟؟ وما جدوى أن يقرأ العالم ما نكتب إذا كنا نحن لم نطلع عليه.

إذا كان علينا أن نقوم بخطوة فاعلة حقا في اتجاه أن يطلع الغرب على نتاجنا، فعلينا أن نعرفه أولا، اسأل أي طالب جامعي عن أسماء لامعة في الأدب العربي وسوف يصدمك الجواب.

لقد أذهلني ذات يوم وأنا في إحدى جامعات النخبة أن معظم الطلاب لم يسمعوا بأسماء لامعة في سماء الأدب العربي، كيف يمكن لهؤلاء أن يكونوا رسلا إذا غادرونا لإكمال دراستهم العليا؟