العبرة ليست في ترجمة عمل ما وإنما في قراءته

TT

لا شك أن ثمة عوامل كثيرة منها تقنية ومنها تجارية تكتنف عملية ترجمة الأعمال الأدبية العربية إلى اللغات الأخرى، لكن تأثير هذه العوامل يضعف أو يلغى في حالة وجود العمل الأدبي المتميز الذي ينادي على من يترجمه وينشره.

ومن بين هذه العوامل توفر المترجم الكفء القادر على نقل مغزى العمل الأدبي وروحه إلى القارئ، ناهيك من المحافظة على تفاصيله وبنص شخوصه وكلماته. لقد قيل الكثير عن الترجمة الأدبية واختلف أصحاب الرأي بين من يعتبرها جنسا أدبيا يضاف إلى الأجناس المعروفة وبين من ينظر إليها بصفتها مجرد نقل آلي من لغة إلى أخرى. ولست هنا في معرض المشاركة في هذا الجدال المحتدم، ولكن يكفي أن أقول إن المترجم، مثله مثل الإنسان العادي، لا يكفي أن يتكلم أو يقرأ لغة ما لكي يصبح أديبا فيها يتصدى لروائعها الأدبية ويعيد صياغة إبداعات كتابها وشعرائها. فمعرفة لغة ما، مهما توسعت وتعمقت، لا تصنع من صاحبها مترجما أدبيا، إذ لا بد لمن يتعامل بالنص الأدبي أن يمتلك تلك اللمسة التي يسمونها إبداعا أو ذائقة أو حسا أدبيا لكي يتمكن من المحافظة على ومضة الإبداع في العمل بعد إعادة صياغته وتركيبه في لغة ومفردات أخرى، يضاف إلى ذلك ضرورة توفر حد من التفاعل بين المترجم والنص الأدبي المراد ترجمته، مع قسط غير قليل من الإلمام بالظرف الاجتماعي والفكري الذي ولد فيه العمل، ومعرفة كاتبه بالأديب الذي انتج العمل، وبموقع ذلك العمل من بقية نتاجه، ويفضل أن تكون اللغة التي ينقل إليها العمل هي اللغة الأم للمترجم الذي ينبغي له أن يجيد كذلك اللغة الأصلية التي كتب بها العمل.

ومن هنا تنشأ الصعوبة في الحصول على مترجم جيد يقدم ترجمة منصفة للأديب العربي وعمله، فالمترجم هنا أديب مرتين، مرة في استيعابه للعمل الأصلي ومرة في تمثيله وإعادة إنتاجه عملا أدبيا غير منقوص الإبداع في اللغة الثانية.

ومتى ما توفر لديك النص القادر على الانتشار، أو بلغة اليوم، النص العابر لحدود اللغة، والمترجم المبدع الذي يعيد صياغته في اللغة الثانية، فان العقبة التالية ستكون تسويقية، فلكي يقرأ العمل المترجم في اللغة التي ترجم إليها لا بد من تعريف سابق بالعمل ومبدعه، ولا بد من انسجام ذلك العمل مع الذائقة الأدبية والظرف النفسي لأبناء اللغة الثانية. لقد مثلت ترجمة كتاب «ألف ليلة وليلة» إلى الإنجليزية في القرن التاسع عشر حدثا أدبيا وثقافيا بارزا سحر القارئ الانجليزي وترك بصماته على أعمال كبار أدباء الإنجليزية وشعرائها، لكن ذلك كان أيام الإمبراطورية البريطانية والانبهار بالشرق وظهور المدارس الاستشراقية، وهي عوامل وفرت للكتاب أرضية الاستقبال الحافل الذي قوبل به، والسؤال الآن هو: هل كان لكتاب «ألف ليلة وليلة» أن يحقق نفس النجاح لو انه ظهر بالإنجليزية لأول مرة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر في أجواء معبأة ضد الثقافة التي ولد فيها وحمل طابعها؟

لقد توفرت للأدب العربي فرصة ذهبية على صعيد التعريف والتسويق عندما منحت جائزة نوبل للآداب للروائي الكبير نجيب محفوظ، فقد لفت الحدث الأنظار العالمية إلى أهمية الإنتاج الأدبي المكتوب بالعربية ممثلا خير تمثيل في أعمال محفوظ، وكان بوسع دور النشر العربية، رسمية كانت أم خاصة، أن تنفذ من تلك البوابة وتطرح في أسواق الكتاب العالمية أعمالا عربية بارزة مترجمة إلى مختلف اللغات، لكنها لم تفعل وأضيفت تلك الفرصة إلى سجل الفرص الضائعة التي يزخر بها سجل تاريخنا الذي يفتقر إلى المبادرة وسرعة الاستجابة.

لكن العبرة ليست في توفر العمل في لغة أخرى، إنما في عدد من يقرأه في تلك اللغة، والأمر نفسه يصح على اقتراح قيام مؤسسة عربية للترجمة ترعاها الحكومات أو جامعة الدول العربية أو أي جهة رسمية أخرى، فالكتاب سلعة استهلاكية، إضافة إلى كونه عملا أدبيا، وليس بوسعك أن تفرض كتابا على جمهور أجنبي بقرار رسمي صادر من جهة عربية.

ولكن إن توفر لديك كتاب مثل كتاب «داغستان بلدي» لرسول حمزاتوف أو «الساعة الخامسة والعشرون» أو «جسر على نهر درينا» لايغو اندريتش، فان العالم اجمع سيتدافع إلى ترجمته وقراءته بكل اللغات حتى لو كان كتب أصلا باللغة الداغستانية أو الرومانية أو الصربية أو أية لغة أخرى محدودة الانتشار.

* صحافية ومترجمة وصاحبة «دار الشمس للنشر» في بغداد المتخصصة بترجمة الأعمال الأدبية الأجنبية إلى اللغة العربية