كتاب مصريون يحتفون برواية تونسية

عالم الشرق العجائبي وقوة السرد والتجريب في رواية «النخاس» لصلاح الدين بوجاه

TT

استضاف «مركز الاسكندرية للابداع» الكاتب التونسي صلاح الدين بوجاه في ندوة أدبية نظمت أخيرا حول روايته «النخاس» التي عدها الشاعر العربي الراحل الجواهري من أهم ما قرأ من روايات عربية معاصرة.

شارك في الندوة الكاتب الصحافي مصطفى عبد الله، والشاعر أحمد فضل شبلول والناقدان د. فوزي أمين، ود. شوقي بدر يوسف، وأدارها الشاعر فؤاد طمان.

استهل الكاتب عبد الله مناقشته بقوله إن رواية «النخاس» قد أغرته بإعادة قراءتها وتقديمها في طبعتها الشعبية في مصر لعدة أسباب، أولها أنها تنتمي الى كاتب قيرواني استطاع أن يضع بصمة واضحة في تاريخ الرواية العربية في تونس، حتى أنه أصبح ثاني الأسماء التي تقفز الى الذهن عندما يرد الحديث عن الرواية التونسية بعد الرائد محمود المسعدي، الذي قدمه عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين للمشرق كله عندما نشر روايته الشهيرة (السد)، وثانياً لكونها رواية مربكة مريبة، تأخذ بقارئها في بعض مساربها،«فإذا ما اطمأن وأسلس القياد طوحت به بعيدا حتى يضيع منه المعنى فيدخل بيداء الغموض».

ويعتقد عبد الله إنه ربما يكمن هنا ثراء هذا النص الذي يثير قضايا الموت والميلاد والمتعة والألم والبداية والنهاية بنفس درجة إثارته للصراع المتقد بين الحضارات، حتى يتحول البحر في الرواية من رمز الى بؤرة صدام بين الشرق والغرب والشمال والجنوب. فالبحر، من ثم، هو الأداة والرمز في آن واحد.

ولأن حوض المتوسط ملتقى لحضارات وثقافات عدة، فإن «النخاس» تستدرج أجناسا وشعوبا، منها الإيطالي والأسباني والفرنسي والتركي واليوناني والمصري، فضلاعن التونسي طبعا، فتستدرج بذلك مناخات متعددة تغني الرواية، وتمدها بثراء فريد، وتتخطى بنا أحادية الأسلوب والأغراض للخوض في حوار حول جنس الرواية ذاتها.

ويستشهد عبد الله برأي للشاعر التونسي منصف الوهابي حول الرواية، إذ يراها تبدو على وشيجة بفن التوريق العربي، أو ما اصطلح له مؤرخو الفن الأوروبي بـ«أرابيسك»، حيث يسم التفريع الأصول، كما يسم التعريج الفروع، ويدرك التشعيب غايته قبل أن تنكفئ الحكايات على ذاتها مثلما في «ألف ليلة وليلة».

عالم عجائبي

ويقول الناقد د. فوزى أمين:«إن بوجاه يطرح في كتابته كل التقنيات، فسرده موصول بالتراث الشرقي ومتجاوز له في آن واحد، حيث نجد ألف ليلة وليلة وكافة أشكال السرد العربي، كما أنه يحاول تطوير الرواية العربية بعمليات لا تهدأ من التجريب كما بدا في روايته السابقة «مدونة الاعترافات». وما يلفت النظر إلى تلك اللغة الصافية التي تزاحم لغة الشعر وتقف على تخومه، ويضع الجمل في بنى متجاورة تضع النقيض الى جانب النقيض لتحفز ذهن القارئ. والصورة ليست أقل مراوغة، فهي تستعصي على التحديد. و«النخاس» تأخذنا الى عالم من السحر عجائبي وغرائبي، عالم مربك ومحير، والشخصيات زئبقية، ما أن تمسك بملمح من ملامحها حتى تجد أنك تقبض على سراب».

وهو يعتقد أن الرواية لا تصور واقعا معيشا، بل واقعا تخييلياً، أغنى وأثرى من الواقع المعيش، حيث يتوافر الوعي بالتاريخ ويفصح عن ذهنية الكاتب التي هي تجسيد لأفكار معينة كساها المبدع لحما ودما، ومن ثم فهو يؤثر أن يحرر شخصياته من إسار الزمن، ويسمها أحيانا بالتناسخ فهي عاشت وماتت غير مرة.

من جهة أخرى، يرى الشاعر أحمد فضل شبلول أن جوهر النخاسة عند الكاتب هو الرغبة في ولوج حياة الآخرين، والتلصص عليهم، وكشف بواطنهم.ويتساءل المحاضر عما إذا كان النخَّاس هو بطل الرواية الكاتب تاج الدين فرحات، أم الكاتب صلاح الدين بوجاه؟

ويبرز هذا السؤال، حسب المحاضر، فور الانتهاء من قراءة رواية «النخاس»، وبخاصة حياة بطلها والأديب تاج الدين فرحات الذي يتلقى دعوة من السفارة الإيطالية بتونس للمشاركة في حضور جلسة علنية تعقدها هيئة جائزة «مينالدو» للنظر في الأعمال الأولى المرشحة للفوز، وكان هو أحد المتقدمين لنيل هذه الجائزة، ولكنه لم يعرف هل فاز عمله أم لم يفز؟، ولكنه على أية حال قرر السفر إلى إيطاليا على ظهر السفينة «الكابو ـ بلاّ» العتيقة التي تذرع مياه البحر الأبيض المتوسط، جيئة وذهابا، والتي يوحي اسمها ـ وترجمته ـ «الرأس الجميل» أو «النهاية الحلوة» في دلالاته الإيطالية، وينطوي في الوقت نفسه على دلالة توحي بلا نهائية الرحلة من ناحية، وسحرها الطاغي من ناحية أخرى، كما يقدم في الوقت نفسه استعارته الدالة عن كوكبنا الأرضي».

تراث الحكي و مقولات السريالية

وحول جذور الكتابة ومعالمها في الرواية، يشيرالناقد شوقي بدر يوسف الى رواية بوجاه الأولى «مدونة الاعترافات والأسرار» التي ينحو فيها نحو عالم سردي مليء بظلال الموروث التراثي، وملامح الحكي المأخوذ من القص العربي القديم، وكتب التخييل، ومدونات الأخبار، واضعا هذا الشكل السردي التجريبي للقص في مستويين أساسيين يحملان عبق الماضي وغرائبية الحاضر وسحر البيان العربي. هذان المستويان هما مستوى الحاشية ومستوى المتن، وكلاهما إيهامي وإيحائي يدفعنا دفعا إلى استلهام شكل سردي له خصوصيته في الرواية العربية المعاصرة قد يكون مأخوذا من أغاني أبي الفرج الأصفهاني أو احدى مقامات الهمذاني، أو من بعض متون ألف ليلة وليلة حيث نجد في هذه التجربة الروائية الخصبة توظيفا يكاد يكون عفويا لهذه السمات جميعها في إطار عزف نغمة سردية تراثية على وتر روائي حداثي معاصر يجسده هذا المزج الأصيل للحاشية والمتن لهذا النص.

ويستنتج شوقي بدر أن بوجاه استمر في نصوصه الروائية التالية خاصة روايتي «التاج والخنجر والجسد» و«النخاس» في العزف على نفس الوتر، وإنتاج نمط من الإبداع الروائي يجسد فيه فضاءات جديدة للرواية العربية، يأخذ له من التراث خطوطا وأبعادا سردية متباينة في اللغة والحكي، والتأويل، ويغلفه بإطار مستمد من الشكل الروائي الغربي المعاصر ذي الأصوات المتعددة والرؤى الفضفاضة المتحررة. علاوة على ذلك فإننا نجد أيضا أن المعرفية والتوثيق التراثي في روايات صلاح الدين بوجاه هو الخط الأساسي الباحث فيه البطل عن الحقيقة المختبئة وراء آكام ومغاليق المدونات ومتونها وحواشيها أو المخطوطات القديمة بما تحويه من ثقافات معرفية ضاربة بجذورها في التراث العربي القديم.

ويرى بدر أن شخصية «تاج الدين فرحات» هى الشخصية المحورية في النص وهي شخصية تراثية تبدو غير عادية، وتذكرنا إلى حد كبير بشخصية «عيسى بن هشام» صاحب المحابر والأقلام في «حديث عيسى بن هشام» للمويلحي حيث يبحث « تاج الدين فرحات» عن المعرفة لذاتها، ويبتغى المجهول لفضوله الذاتي، وهو يحمل داخله أخاديد عميقة غائرة حددها النص بهذه العبارة: «مرسل على ظاهره، ورغائبه جمة، وتوقه كثير. نار عجيبة تستعر في أحشائه، تثير سواكنه، وتدعو إلى القول والإفصاح والجهر».

ويبرز ذلك بشكل أوضح، كما يرى شوقي،عند «غابريلو كافينالى» هذا الرجل العجائبي المخاتل الذي ترك مهنة طب الأسنان وتعلم فنون البحر والمخاتلة والسحر والشعوذة، وابنته لورا الفتاة اللعوب التي تحاول بشتى الطرق فك الألغاز التي تحيط بالسفينة خاصة ما كان يخبئه أبوها في غرفة القيادة وغرفة المومياء المحنطة والغرف السبعة الأخرى المغلقة على أسرارها.