روجيه عساف: ليتوقف القطاع الخاص عن ابتلاع الأموال بجشع وبلا شبع

المخرج المسرحي اللبناني لـ«الشرق الأوسط»: فرصتنا الوحيدة لنبقى على قيد الحياة هي الخارج

TT

ما معنى ان تصبح بيروت بلا مسرح، والثقافة بلا معيل؟ والاعتبارات الرسمية اللبنانية رهينة مصالح الطوائف والملل؟ وكيف يتدبر المسرحي أمره حين يكون عليه أن يعمل معجزة من لاشيء؟ وأين ذهب رواد المسرح اللبناني؟ لماذا اختفوا عن الساحة رغم ما نسب إليهم، وما زال ينسب من عبقرية؟ ما سبب استقالة القطاع الخاص من دعم الثقافة في لبنان؟ وما هي النتائج المترتبة على هذه الاستقالة؟

حول هذه الأسئلة كان حوارنا مع روجيه عساف، الرائد المسرحي اللبناني الوحيد الذي مايزال شاباً وحيوياً، وحاضراً بقوة على الساحة المسرحية، ومصّراً على بعث الحياة في صحراء القحط الراهن. مع نهاية يوليو (تموز) الحالي، يغادر عساف وجمعيته الشبابية «شمس»، التي أسسها منذ خمس سنوات لاحتضان الفنانين الشباب، «مسرح بيروت» التاريخي، ليصبح هذا المسرح (الرمز) لمرة جديدة في مهب الريح، ويبدأ عساف مع الجيل اليانع قفزة مغامراتية صعبة، هي لو علم المسؤولون، من ألمع المغامرات التي يمكن أن تعيشها مدينة تبحث عن كينونتها، وهنا نص الحوار:

* يقال انكم تتركون «مسرح بيروت» هرباً من اهتراء المكان؟ ثم ما سيكون مصير هذا المسرح التاريخي؟

ـ من الأساس حين أنشأنا جمعية «شمس» كان لها أهداف منها تحفيز أعمال مبدعين جدد، وتحقيق الالتقاء بين الفنون على اختلافها، وفتح المجال أمام الطلاب الذين ليس لديهم من الفرص الكثير، هذا عدا إيجاد مساحة تعارف في مجتمع مجزأ ومبتلى بالطائفية، وعدم القدرة على التعبير المستقلّ. ومن أهداف «شمس» تأسيس مركز أو دار ثقافية، تتسع لأنشطة من أنواع مختلفة، محاضرات، عروض، محترفات، وأهم من ذلك كله إقامة مركز للدراسات وتوثيق الكتب والأفلام وخصوصاً المسرح الذي تضيع ذاكرته من دون أن يهتم أحد بها. الآن توجد فرصة بعثورنا على مكان رحب المساحة، لكن المعقول في ما يخص التمويل هو أكثر من الموجود، ومع ذلك نسعى لتحقيق هدفنا، وبأمل كبير. أما بالنسبة لـ«مسرح بيروت» فهو يحتاج لبعض الصيانة، ونحن على استعداد لتأمين العمل فيه خلال المرحلة الانتقالية، وفي حال وجدت مجموعة تود أن تأخذ مكاننا فسنساعد في ذلك تقنياً على أقل تقدير.

* هذا المسرح هو آخر مسارح الستينات التي ما تزال على قيد الحياة وهو مهدد بالفعل، وقد اغتيل «التياترو الكبير» واحترق «مسرح شوشو»، ألا ينبغي على وزارة الثقافة ان تلتفت إلى هكذا أمر، وتدعم لناحية الترميم على الأقل؟

ـ يتوجب علينا الحفاظ على «مسرح بيروت» بكل الوسائل. ونعرف وضع وزارة الثقافة، وميزانيتها الصغيرة وآليات العمل المعاقة. على أي حال كل الدوائر الرسمية في لبنان ملتزمة بالمتطلبات الطائفية والسياسية. ووزارة الثقافة مثلها جميعاً لها اعتباراتها المللية.

* وهل للمسرح طائفة؟

ـ وزارة الثقافة لا ترفض لنا دعماً معنوياً نطلبه، إنما المساعدات المالية هزيلة جداً. وأود أن أفسر بان المسرح والفنون في لبنان نشآ على عاتق القطاع الخاص، فهو الذي أخذ على كاهله ان يجعل من بيروت عاصمة ثقافية عظيمة في الستينات والسبعينات. هذا القطاع اليوم عنده أموال تفوق ما كان يملكه حينها، لكنه لم يعد يكترث أبداً للشؤون الفنية أو التربوية أو الثقافية. هناك تراجع كبير في هذا المجال. والمطلوب أن يعوا قليلاً ويتوقفوا عن الجشع وابتلاع الأموال بلا شبع. أموالهم من أين أتت؟ لا أريد محاسبتهم، لكن ليوظفوا جزءاً منها في القطاع المحلي، وما أقوله يسري على كل القطاعات.

*هؤلاء تجّار بالدرجة الأولى والمسرح ليس له مردود، وبالتالي ليس بالإمكان لومهم للتمنع عن توظيف أموالهم بلا مردود؟

ـ المسرح ليس له مردود مالي، لكن مردوده الاقتصادي على البلد معروف، أليس لهم رؤية اقتصادية. من قبل كانوا يبادرون من تلقاء أنفسهم. ما هي لجنة «مهرجانات بعلبك؟»، هي مبادرة أشخاص. لا تحلمي ان يتمكن فنان من خلق مجتمع مع أدوات إنتاج لا سيما في الوقت الراهن، حيث ان الترويج والإدارة الإعلام والإعلان عن الأعمال الفنية هي وظيفة قائمة بذاتها، تحتاج الى درجة عالية من الاحتراف، هذا كله مكلف. بعض الدول تقوم الجهات الرسمية فيها بهذه المهمات كفرنسا والبلدان الاشتراكية سابقاً. وهناك دول مثل أميركا تلقي بتبعة مسؤوليات من هذا الصنف على القطاع الخاص،وهي الحال عموماً أيضاً في إنجلترا، حيث تسهم المؤسسات مقابل إعفاءات ضرائبية معينة.

* هذا يعني ببساطة ان ثمة خللاً عضوياً. لقد سارت الأمور بتلقائية في الستينات وتغير الوضع اليوم لأن الأمر متروك لسجية من يريد المساهمة، في الكويت مثلاً يفرض على القطاع الخاص بموجب القانون تمويل الثقافة، لماذا لا نحذو حذوهم؟

ـ سأكون قاسياً بعض الشيء. كيف نطلب من الدولة ان تفرض شيئاً على القطاع الخاص، في حين إن القطاع الخاص هو الذي يملك الدولة. الصحيح ان الدولة في خدمة القطاع الخاص وليس العكس. بصراحة أكبر: من هي الدولة إن لم تكن مجموعة من المتمولين. هل يفرضون الضرائب على انفسهم ومن يرغمهم على ذلك؟

* هذا عملنا نحن؟

ـ من نحن، إذا كان القصد الفنانين. فالشعب الجائع وسائقو التاكسي، والمدرسون المغبونة حقوقهم لم يفلحوا في إرغام أحد. نحن ذاهبون إلى تدهور، هذا واضح في كل المجالات حتى الزراعية والصناعية والتجارة بمعناها المتواضع. المدارس والجامعات الرسمية تعاني بدورها. الفنانون لا يأتون سوى في آخر اللائحة. وقد نكون أفضل حالاً من الآخرين لأننا ببعض الاجتهاد نستطيع ان نبني شبكة علاقات مع الخارج.

*مع الاتحاد الأوروبي مثلاً

ـ نعم ومع الخليج والدول المتوسطية. ليس لنا فرصة لنبقى على قيد الحياة في هكذا ظروف موضوعية سوى الخارج. ليست آلية مريحة وأمينة لكنها خطوة قد تخلق وضعاً يفرض نفسه.

*ثمة ما يحيّر، سمعنا نضال الأشقر تنعى المسرح وهي تغلق «مسرح المدينة» ثم سرعان ما سمعنا انها تعدّ مسرحاً جديداً. وأنت تتحدث عن التردي بسوداوية ويأس لكنك تعدنا بمشروع طموح. وتخرج اليوم من مسرح صغير إلى مركز ثقافي كبير، كيف نفهم هذا التناقض؟

ـ تناقض ظاهري. عملت دائماً بشكل مختلف عن الآخرين. وما أعرفه جيداً انه حين تمر أزمة وتبقين متجمدة في مكانك تموتين. وإذا بقيت جمعية«شمس» في «مسرح بيروت» قضي علينا، يجب ان نخرج إلى مكان آخر. المغامرة فيها جاذبية كبيرة. ومن الأسهل ان أطالب بإمكانيات لخلق مركز كبير وطموح على أن نطلب تمويلاً لمجرد الاستمرار. قد نفشل لكن على الأقل نكون قد حاولنا. من ست سنوات كان الوضع تعيساً جداً، كان ثمة فراغ. أخذنا مبادرة وشكلنا «شمس». كنا عشرة أشخاص دفع كل منا 100 الف ليرة(75$)، وبمليون ليرة انطلقنا وعملنا على مدى خمس سنوات، لأننا خلقنا وضعاً مقنعاً. الآن المحنة ذاتها تتكرر، وأمامنا طريقان: إما ان ننتظر جمع تمويل كافٍ لنبدأ وهذا يستغرق وقتاً طويلاً، أو نؤسس لمركز بلا امكانات ونقنع الآخرين بأنه ضروري ويلبي حاجة، وهذا طريق أصعب لكنه أسرع. وإذا فشلنا نكون قد خسرنا سنة من العمل، وقد ننجح وينتصر الجنون.

* لك رصيد كبير بإمكانك استثماره؟

ـ بمقدوري ان أنام على هذا الرصيد واستخدمه لدعم مسرحية أو مسرحيات شخصية، لكن ليس هذا الطريق الذي يجعل الحياة تنمو، وأفضل توظيف رصيدي في مشروع جماعي ينتشلنا جميعاً.

* لم نعد نسمع شيئاً عن الرواد من أبناء جيلك باستثناء نضال الأشقر، جلسوا في بيوتهم واعتبروا ان المسرح مات؟

ـ لم يعملوا مثلي. مسرحهم هو الذي مات، لأن الظروف تتغير، وعلى الإنسان ان يتعلم، والمعلم غالباً يرفض ان يتعلم. هناك جوانب من المسرح ماتت ولم يعد لها ضرورة، لكن المسرح عموماً هو أكثر حيوية اليوم من ذي قبل. إنما التجارب المسرحية التي تشكل نقاطاً حيوية وتحفيزاً هي تلك التي كسرت الحدود بين الفنون من رقص وموسيقى وإضاءة. تغيرت كيفية معالجة المواضيع. أن أخبر الآخرين قصة لم يعد هدفاً. مطلوب أن يشعر المتفرجون بأحاسيسهم وأحوالهم، يريدون أن يكونوا داخل العرض لا خارجه في قلبه لا على هامشه. بهذا المعنى النشاطات المسرحية تنمو بشكل غريب. وما من محترف ندعو إليه إلا ويأتيه الناس بشغف، يريدون ان يكونوا جزءاً من العمل.

* كيف يفسر ان يكثر عدد الراغبين في اعتلاء الخشبة ويقلّ عدد المتفرجين؟

ـ المشاركة تخلق نوعاً جديداً من المسرح، ليس مبنياً على انفصال بين الممثل والجمهور. الناس يحبون ان يروا انفسهم وزملاءهم يمثلون، ويفرحون بذلك. إنما إذا بقي الوضع على المستوى الذي نرى فهو هزيل بالطبع، وكي يتغير الأمر يفترض ان نعطي بعداً فنياً وثقافياً لهذه التجربة كي تنضج. المسرح الجديد لا يطلع من الكتب والمسرحيات القديمة، وإنما من اللغة الحقيقية للناس، لذلك نرى بعض الأعمال تنجح نجاحاً نوعياً.

* تقول ان المسرح ينمو في لبنان والعالم، ونرى في بيروت عروضاً كثيرة لكنها للأسف مشرذمة، إنها ُنتف مسرحية؟

ـ تماماً، لأنها بلا بلورة، وتفتقر لأن تراكم مع ما قبلها. هناك انقطاع بين الجيل الحالي والذي سبقه، بسبب الحرب رغم ان المسرح لم يتوقف أثناء الحرب. لكن جيلاً بأكمله حرم من فرصه العمل الجاد، وبالتالي فقدنا همزة وصل بين جيلنا وجيل الشباب الآن. الجيل الجديد بلا ميراث، خاصة وان المسرح في لبنان لم يوثّق، ولم يدرس بما يكفي. يسمعون عن جيل الستينات وحين يرون أعمالهم يصابون بخيبة أمل كبيرة. المسرح ابن لحظته. مدهش هذا الفن بما عاشه من ثورات وتحولات. ففي القرن العشرين عاش الشعر انقلاباً كبيراً لكن المسرح عرف على الأقل انقلابات أربعة ضخمة، في بداية القرن مع الواقعية المطلقة الطبيعية، ثم مع السريالية ومع برشت ثم أرتو وبعد ثورة 1968 والآن مع التقنية الحديثة والـ«برفورمنس» والـ«مالتيميديا». المسرح حاضر لكل جديد أما المسرحيون فلا.

* أنت أقرب المخرجين الرواد إلى الشباب، والألصق بتجاربهم، ما تقول في اتهامهم بالسطحية وعدم الثقافة؟

ـ نعم هم بلا ثقافة لكنهم ليسوا سطحيين. علاقتهم بالواقع وأنفسهم عميقة بسبب المعاناة التي يعيشونها، لكنهم لا يملكون الأدوات التي تملأ كل الأبعاد. ليس ذنبهم، انه ذنب من حرمهم من نعمة ارتياد مكتبة، أين المكتبات العامة في لبنان؟ وهو ذنب التلفزيون الذي يجهّلهم. أستطيع ان أشهد ان التلفزيونات تساهم بشكل مصمم على تلوث الثقافة.

* التلفزيونات تريد ان تربح...

ـ وبائع المخدرات يريد ان يربح. ومن يبني في مكان يشوه الطبيعة يريد ان يربح. والتلوث في سبيل الربح غير مسموح. والتلفزيونات لا يحق لها ان تستهتر بالناس. كان بمقدورهم ان يجمعوا أرباحا كبيرة ولكن ليس بهذا القدر، مقابل ان يهتموا ولو قليلاً بتثقيف الناس.

*هذا منطق المرحلة..

ـ هذا المنطق كان موجوداً باستمرار إلى جانب منطق آخر. وفي المجتمعات المتوازنة يبقى الخيار مفتوحاً للإنسان بحيث لا يكون ثرياً بفحش أو فقيراً بإدقاع. في لبنان سدت المنافذ أمام هذا الخيار، نعيش حالة اختناق. لقد عمّروا بيروت ولم يتركوا فيها مكاناً للناس، بعد أن حولوهم الى زبائن. انا أذهب إلى وسط بيروت كزبون لا كمواطن. هذا ليس تلوثاً!؟ لذلك أقول ان القطاع الخاص خان دوره.

*البعض يعتبر ان بيروت تستعيد دورها من خلال المؤتمرات، والأنشطة الكثيرة التي تشهدها؟

ـ هذه كذبة، لأنها أنشطة غير مبنية على حاجات الناس. وإلا لماذا يهاجر الشباب ان كانت بيروت مزدهرة إلى هذا الحد.

* البعض لا يقلقه إغلاق المسارح بالجملة في بيروت، ويعتبر ان العمل المسرحي يمكن ان يقدم في قبو وليس بحاجة لأماكن خاصة؟

ـ صحيح وخرافة في وقت واحد. في المراحل الريادية الأولى هذا ممكن، بانتظار جهوزية الأماكن أو قد تكون طريقة يفضّلها بعض التجريبيين الذين يحبون أن يقدموا شيئاً مختلفاً. أما إقفال الأماكن، كما نشهده الآن، فهو موت للمسرح. خلال عصر النهضة في أوروبا اشتغل الفنانون في الشارع، ثم أقاموا مسارحهم. في انجلترا وإسبانيا أغلقت المسارح في القرن السابع عشر لأسباب دينية واقتصادية، وحرم جيل كامل من المسرح تقدّم خلالها الفرنسيون وصاروا نموذجاً يحتذى بالنسبة لهؤلاء. عدم وجود مسارح لا يعيقني شخصياً عن تقديم مسرحية، لكنه يمنع قيام حركة مسرحية مدنية حديثة.

* تنتقل بجمعية «شمس» التي أسستها للشباب في الأساس إلى مكانٍ جديد، وكأنما تؤمن بأن مقدورك أن تواجه بالجيل الجديد تحديا كبيرا، رغم أننا لم نر مواهب كثيرة؟

ـ ليست المواهب كثيرة هذا صحيح، لكن العناصر الموجودة تستطيع أن تؤمّن الاستمرارية. نعم أشعر بأنهم قادرون وهذا مجرد شعور سنختبره في الفترات المقبلة. أعرف أننا سنمرّ بمرحلة صعبة أواخر الشهر الحالي.

فبمجرد أن يصبح المركز صالحاً لا ستقبالنا سنرحل، وأقول صالحاً لا جاهزاً، إذ لا خشبة هناك ولا شيء على الإطلاق. قد نبدأ بحفلات موسيقية، نعرض أفلاماً، أو نقدّم تجارب مسرحية صغيرة من دون مسرح. لا بد من بداية ومجازفة وتحدٍ لهذا الجمود القاتل وإلا فليس أمامنا سوى الفناء.