الشاعر أحمد مرسي وفن الإنصات

TT

قد يكون الإنصات ميزة أساسية من ميزات الشعر، ولكن الشاعر والفنان المصري أحمد مرسي يذهب بهذه الميزة إلى مدى أبعد ويبدو في مجموعته الشعرية الأخيرة «بروفة بالملابس لفصل في الجحيم» كأنه كائن لا يجيد سوى الإنصات ليس فقط إلى صوته الداخلي وإنما إلى صوت الأشياء والمكان وإلى تجليات الحياة.

ويشكل الصوت المدخل الأساسي في مجموعته الصادرة عن دار «ميريت» بالقاهرة ليقودك معه ليس إلى رؤية ما يراه وإنما لتجيد السمع لما تقوله الأشياء ولما يقوله المكان في كل تجلياته سواء في مدينة نيويورك حيث يقيم الشاعر أو في مدينة الاسكندرية مسقط رأسه.

وبطريقة فيها قدر من المراوغة يسحبك الشاعر أحمد مرسي في صيغة سؤال مفرط بالبساطة والعمق «صوت من هذا الذي يعوي/ في حنايا محطات الجحيم الساجي». وقبل هذا السؤال المراوغ يكون عازق الجيتار الأعمى الذي «راح يعزف شيئا لأرفيوس/ وسط ضوضاء القطارات كان يصغي إلى صوت هسيس/ كان يبدو ويبعد كالموجة/ في بحر أجوف» ليمهد الطريق نحو خرائب الروح لكائن لا يجيد سوى الإصغاء.

وبروفة أحمد مرسي «في فصل الجحيم» تختلف عن هلوسات ورؤى وجحيم الشاعر الفرنسي آرثر رامبو، فالأول غير معني بالرؤى ولا بالهلوسات ولا في البحث عن خلاص للبشرية.

أن جحيم أحمد مرسي من نوع آخر هو جحيم الصمت بامتياز الذي لا يخلو من سخرية مرة وأحيانا لاذعة. وهذا الصمت شكل أدوات الشاعر اللغوية والفنية فهو ينأى كثيرا عن أدوات البلاغة العربية السائدة في الشعر العربي المعاصر. فاللغة عنده تحمل سمات الصمت وهذه ميزة نادرة في الشعر. إنه يتعامل مع اللغة بأريحية بالرغم من تمسكه بالعروض الشعري فهو يزاوج ما بين المولونج والحكاية والسرد في لغة تتميز بالبساطة من دون روتوش أو محسنات، وتوحي بالبساطة ولكنها غامضة غموض الصمت.

وبما أن الشاعر أحمد مرسي هو فنان تشخيصي يقترب كثيرا من المدرسة التعبيرية الألمانية ومن واقعية الفنان الإيطالي جيريكو نجد هذه النزعة التشخيصية حاضرة بقوة في أعماله الشعرية التي بدأت مع مجموعته «صور من ألبوم نيويورك» واستمرت مع مجموعاته الشعرية الأربع التي كان آخرها «بروفة بالملابس لفصل في الجحيم».

الشاعر مأسور بالمكان/ المدينة يما تعنيه من أزقة وشوارع ومحلات ومقاهي وبشر فهو لا يطمح إلى إعادة صياغة مكانه الخاص وإنما يسعى بكل جهد أن يضعك في قلب المكان/ المدينة حتى في المراثي التي كتبها مثلا عن صديقه الفنان العراقي الراحل كاكيفيان أرداش أو عن بيت الشاعر إدغار الن بو الذي صادرته بلدية نيويورك.

وهو مأسور أيضاً بالمشهد ولا تخلو أي قصيدة من قصائده من النزعة المشهدية التي تحتاج إلى وصفها إلى نوع من لغة تتميز بالبساطة والمباشرة من دون التحرج من تسمية مكونات المشهد كمكان أو كحالة إنسانية:

«.ما الذي أوحى إليك بالسير قي عطلة عيد الميلاد وحدك/ المقاهي اليوم في سوهو وLittle Italy مغلقة حتى المكتبات/ ما الذي يغويك في الفيترينات/ وهل يعشق الشاعر مانيكان؟»

إنه يكتب لأنه يصيخ السمع «كنت ما زلت في مكانك/ لم تبرح ضفاف الأعراف/ حين هوت صرة رمل فوق بحيرة صمت/ تستحم الطيور فيها عرايا/ كنت عريانا في بحيرة صمتك سرا/ أقلعت من ميناء صمتك سرا / سفن الهجرة الأخيرة تعلوها/ صناديق الصمت مبحرة للجزر الغرقى في متاهة صمتك/ فلماذا تحشو الصناديق بالصمت».