محمد الأسعد: ظاهرة الأدب المكشوف نتاج انعكاسات ثقافات أخرى

TT

إن هذا النوع من الكتابة هو في وقت واحد ظاهرة مقحمة على الأعمال الروائية العربية بقصد لفت الانتباه إلى اسم الروائي وتحقيق الرواج، ونتاج السياق الطبيعي لتطور فن الرواية العربية.

ويتضمن هذا النوع من الكتابة جوانب أخرى، أكثرها جدارة بالنظر إنه نتاج انعكاسات مرآة آداب ثقافات أخرى لا نتاج تأمل شخصي في النفس وفي الفن الروائي.

إنه من القصور تفسير أي ظاهرة، فيزيائية أو فكرية، بسبب وحيد، كالقول بالنسبة إلى هذا النمط من التناول الكتابي إنه إما نتاج إقحام أو نتاج تطور طبيعي. وفي السياق نفسه، أنا لا أضعه بين خيارين; إما أن يكون انعكاسات مرايا ثقافات أخرى أو نتاج تجربة شخصية. إنه كل هذا وربما أكثر، ففي العالم المعاصر بخاصة تضاءلت أهمية حساب الأسباب والعناصر على أساس الخيار بين إما / أو. هذا أساس أثبت محدوديته في عدة مجالات فيزيائية وفكرية واجتماعية، وأصبح أداة وعي وتحليل قاصرة أمام التعقيد المذهل الذي كشفت عنه العلوم في الإنسان وفي العالم من حوله. الظواهر لا تتشكل ولا تظهر ولا تفهم بهذه الطريقة، بل بطريقة أخرى هي طريقة النظر إلى الكل لا الأجزاء المنفصلة ظاهريا، أي اعتبار الظواهر نتاج جملة علاقات لا يكون أحدها منفردا هو السبب الكافي، أو له من الحقيقية والأولوية ما يتقدم به على غيره.

ما هي العلاقات التي ترسم مناخ ذهنية الروائي ؟ تلك التي تجعله يقحم الأمور في نصه إقحاما، أو تجعله ضحية انعكاسات مرايا، أو تجعل عمله جزءا من عملية تطور فن الرواية، أو تجعله نتاج تأمل شخصي إبداعي؟ هذه علاقات عديدة، ولا يمكن حسابها بدقة رياضية أو الحديث عنها بمعزل عن طوابع الروائي الاجتماعية والثقافية. للروائي العربي، الناضج والناشئ على حد سواء، حياته في الألفاظ والحياة، أي أن له نصيب من الثقافة ومن المعاش، وله نصيب من وعي المعاش والألفاظ أيضاً. وفي هذا نجد تمايزا واختلافا بين الروائيين في المدى، أي في المسافات، وفي العمق، أي في القدرة على النفاذ إلى الجوهري، ونجد اختلافاً في الطموحات وفي تصور كل روائي لنفسه ورسالته أيضاً.

من الصعب الحديث عن هذه الظاهرة بعمومها، لأن تقدير الضرورة الفنية من عدمها في ما أطلق عليه «ظاهرة توظيف عنصر الجنس والمس بالمقدسات» لن يكون دقيقا إلا في تناول كل رواية على حدة، أي تناول النصوص لا تناول ما يقال حولها. وهذه هي الطريقة المأمونة لنتجنب الإيحاء المضمر الذي يحمله تكييف البعض للقضية بقولهم «إن عنصر الجنس والمس بالمقدسات لا تستدعيه ضرورة فنية ويبدو مبالغا فيه».

إن لكل نص خصوصياته في نطاق نوعه الأدبي أو غير الأدبي، وأن الزج بقضايا الأخلاق والمقدسات في غير مجالاتها، سواء كانت أدبية أو علمية، يشير إلى فوضى فكرية وشعورية في الحياة العربية. وما نلاحظه في ما يثار أحيانا من أقاويل حول النصوص الشعرية والروائية، هو أن غالبية الثائرين على ما يسمى «عناصر جنسية مقحمة» و «ومساسا بالمقدسات» هم أناس يقحمون في نطاق الفنون والآداب ما ليس من مقتضياتها، وما لا يتعلق له برسالتها. وألاحظ أيضا أنهم من خارج نطاق هذه الفعاليات مدفوعين بدوافع سياسية أو عقائدية، أو بدوافع ساذجة. وكل هؤلاء على اختلافهم يجمعهم الجهل بمعنى الفن، والفن الروائي بخاصة، بوصفه نشاطا معنيا بالحياة الإنسانية ومعنى هذه الحياة لا طرح سياقات ايديولوجية. إنهم جاهزون يعتقدون أن معنى كل شيء مكتمل، ولا وظيفة لأي إبداع إلا في تمجيد هذا الاكتمال الوهمي.

هناك روايات رديئة، سواء تعلق الأمر بإقحام عناصر جنسية أو غير جنسية، وسواء تعلق الأمر بالمس بالمقدسات وغير المقدسات، فالإقحام نفسه مبدأ مضاد للفن، والمقدس هو ما يقدسه أناس معينون لا الناس جميعا. ولكن مقياس نقد الأعمال الروائية لا يتأتي من نقد ما تقول، وهو ما يجعل شأنها شأن أي خطاب آخر بلا تمييز، بقدر ما يتأتي من نقد كيفية القول، أي ما يميزها كخطاب فن أدبي عن سواها من خطابات سياسية ودينية وفلسفية. وهذا هو ما يفتح الطريق أمام الجواب على سؤال «هل رواجها بسبب تسليط الأضواء على جرأتها؟ وهل كانت ستلقى الرواج نفسه لو ظل الاحتكام قائماً إلى قيمتها الأدبية فقط؟»

إن للرواج أسبابه، ولكنها تختلف بل وتتناقض بين ثقافة وأخرى. وفي ضوء أن الروايات المقصودة تجد رواجاً في المجتمعات العربية، أي في مجتمعات متخلفة لا تقيم وزنا للأفكار بسبب ضعفها الفكري، أجد أن الرواج يتم لأسباب بعيدة كل البعد عن القيم الأدبية. في هكذا مجتمعات تعتمد بنيتها الفكرية على «ما يقال» لا على «ما تجربه» من السهل ترويج أية بضاعة وأي شخص.

ومن اللافت للنظر أن الاستثارة التي تؤدي إلى الترويج، بل وتستهدفه أحيانا، لا تنطلق من تقييم أدبي أو فني بل منطلقات دينية وسياسية واجتماعية، وتجد استثارة من هذا النوع نجاحا منقطع النظير في المجتمعات العربية، لأن هذه الأخيرة لا تمتلك فكرة واضحة عن ماهية الفنون والآداب خارج الدلالات الأخلاقية السائدة والثابتة، ولا تمتلك فكرة واضحة عن معنى الفعل الفني والأدبي، ولذا يمكن استثارتها للدفاع عن الثابت والسائد والتصفيق لمن يتسلى بصفع المجتمع بالدرجة نفسها. هي في وضعيتها الراهنة غير معنية بالتساؤل حول ثوابتها، وغير معنية بتعرية أعماق الانهيار الاجتماعي. وتخلق حالة الضعف الفكري هذه أناسا يجيدون استثمارها بالعزف على ما يستثير شهيتها لا فكرها، وما يستثير غضبها لا فعاليتها.

لهذا السبب هناك إقحام، بل وتعمد الإقحام، لدى بعض الروائيين، وهناك ما تعكسه مرايا ثقافات أخرى لديهم، وهناك إسفاف وسخف يصلان حد أن يطلق أحدهم شتائم تمس شخصيات دينية أو نصوصا دينية في كتاب ويرسل شكوى باسم مستعار مرفقة بصفحات من كتابه إلى جهة دينية أو رسمية. وكل هذا يترافق انتهازا مع سياق طبيعي لتطور الرواية العربية وهي تتقدم نحو استكشاف مناطق محظورة في النفس وفي الجماعة. وهو تقدم ملحوظ ومختلف تشوه معناه أشكال من الإقحام وما يسمى الجرأة ونزوات صغار النفوس والأحلام. وهنا أصل إلى سؤالكم الثاني. نعم، يتضمن فعل الإبداع الكشف، كشف المحظور والمسكوت عنه، ولكنني لا أميل إلى تعبير«كسر المحرمات»، إنه يوحي بأن هناك محرمات أمام الأعمال الإبداعية في الوقت الذي نجد فيه أن للمحرمات مفهوما يختلف من مرحلة تاريخية إلى أخرى حتى في المجتمع الواحد، ويختلف على صعيد الأمكنة. أعني أنه مفهوم اجتماعي ـ تاريخي، ولهذا هو نسبي تحدده طبيعة النظم الاجتماعية ـ الاقتصادية القائمة، ومن البلاهة رفعه كأمر مطلق أمام الإبداع. للإبداع صلة بغير الجاهز وغير المعروف، ولذا فانه قد يندرج في سياقات مرنة وحية قائمة، ولكنه قد يعيد تشكيل السياقات النفسية والاجتماعية والطبيعية في غالب الأحيان.

* كاتب فلسطيني مقيم في الكويت