حين ينتحر الإنسان لينتصر الجدار

سوسن الأبطح

TT

«هؤلاء يقدّمون الخبز على الحرية» عبارة استخدمتها مراسلة الـ«بي بي سي» في القدس باربارا بليت في أحد تقاريرها الإخبارية لتصف حال العمال الفلسطينيين الذين يبنون جدار الفصل العنصري مقابل لقمة عيش أطفالهم، ضاربين عرض الحائط بفتوى عكرمة صبري، مفتي القدس، الذي حرّم عمل الفلسطينيين في بناء هذا الجدار. وفي التقرير الفظيع نفسه الذي تصف فيه المراسلة الذلّ والجوع العربيين وقد ضربا أهل القدس، المدينة التي نتغنى بها وندّعي أننا نفديها بدمنا وروحنا ومع ذلك لا نفعل شيئاً، يتحدث المحلل الاقتصادي آري أرنون، وهو أحد الذين تبقّى في دمائهم بعض من حياء موضحاً كيف أن إسرائيل تستخدم كسرة الخبز سلاحاً لإرضاخ الناس وتركيعهم وتهشيم إرادتهم، وهكذا فهي حين تبحث عمن تشغّلهم باجر زهيد تجدهم في متناول حاجتها. ويتابع بعد ذلك المحلل الإسرائيلي أرنون معلقاً: «وهكذا لا يكون ثمة جديد، لكن الأمر أكثر قسوة هذه المّرة، فالفلسطينيون يبنون اليوم جدران سجنهم بأيديهم، جدران الحصار الجديد، ويا لها من مفارقة ساخرة».

المفارقة أو المفارقات المبكية الأخرى التي لم يتحدث عنها ارنون ولا صاحبة التقرير ندركها بفظاظة حين نقرأ الكتاب الجميل الذي وضعه الباحث بدر عبد الملك بعنوان «الإنسان والجدار». صحيح أن هذا المؤلَّف صدر عن «دار المدى» قبل البدء بتشييد جدار نحر قضية فلسطين بسنوات غير أن التعمق في فهم معنى كلمة «جدار»، ودراسة ما يعنيه الجدار للبشرية، منذ سكن الكهوف إلى اليوم، تجعلنا نتأكد أن العرب ملطخة أيديهم بالجريمة، وأن فلسطينيي القدس المشاركين في البناء من شدة الفاقة، كنا قد تآمرنا عليهم جماعة حين سبقناهم في رفع ما لا يحصى من الجدران على طول وعرض المساحة العربية الجغرافية والعقلية وحتى النفسية. وإذا كان الفلسطيني يبني سجنه ليأكل، فالعرب الباقون أقاموا سجونهم بالمجان، ودفعوا فوق ذلك من الأثمان ما تشيب له الولدان.

الكتاب يجعلنا نقرأ ببراعة أكبر أزمة الجدران أو أزمة الحيطان التي نعيش. ومن المفيد أن نقتعد زاوية ونتأمل غابات الحيطان المنثورة فوق خريطة ما نسميه عالمنا العربي، لنرى كيف أن الجدار الإسرائيلي اللعين لم يأت سوى في آخر اللائحة، لقد جاء بعدها ولم يتمكن من أن يسبقها. فما كان بمقدور إسرائيل أن تمارس وقاحتها لولا نذالة فاقعة مارسها العرب في حق أنفسهم سهّلت مهمتها. الأسوار الحجرية ولدت أصلاً لحماية الإنسان من أخيه الإنسان ـ كما يذكّرنا بدر عبد الملك في كتابه ـ وتحولت بفعل الزمن في مناطق كثيرة إلى مجرد آثار جميلة ودالةّ بعد أن سيطر الإنسان على الجو وصعد إلى الفضاء. ما قيمة الأسوار اليوم وقد سيطر الإنسي على السماء وغزا الفضاء، وبماذا كانت ستتذرع إسرائيل لتسرق الأرض وتغتصب خضرة الشجر لو تمكن العرب خلال نصف قرن خلا، من مغادرة عصرهم الحجري إلى العصر الراهن؟ هل كان لهذا السور من معنى؟ إسرائيل ترفع الجدار لتؤكد عزلتها واندماجها في روح المنطقة في آن واحد، ولتؤكد أيضاً مسؤوليتنا وهي تتجاوب مع الإغراءات التي قدّمت لها من جيرانها الذين سبقوها إلى رفع السدود في وجه إخوانهم. وإذا أردنا أن نكون واقعيين حتى العظم وصرحاء مع الذات حدّ المازوشية، لنعترف بأن الجدار الإسرائيلي لا يمتاز عن الجدران الكثيرة التي تفوق عدد دولنا، لأن في داخل كل دولة أسواراً تضاهي قلاع الحدود بمرّات. فلا ننسى الجدران العرقية والطائفية والمذهبية وحواجز الجهل والكراهية والكبت والنفاق. وإذا كنا لا نراها فلربما لأننا أخذنا في ارتكاب هذه الخطيئة بدهاء ومهارة معاوية، ونجحنا في بناء جدران غير مرئية، كي لا يلومنا أحد. هكذا لو جاء من يقرّعنا على بناء هذه الأسوار، عاد بخفي حنين، وصعب عليه أن يقبض بالجرم المشهود على الحيطان الكارثية الشاهقة المنصوبة بين الأصالة والمعاصرة الرجال والنساء، الحاكم والمحكوم، الشباب والحلم، الفرد والحرية، العقل والتفكير. من أين نبدأ التفكيك؟ حتى جاك دريدا يصعب عليه ان يفكك هذه التركيبة الهائلة من الأسوار والحواجز، وهو ملك التفكيكية.

مجرد التفكير في أن الزنازين باتت أقوى من الاحتمال هو أمر يدعو للأمل، مجرد أن يصدر كتاب يؤرخ للجدران ويعيد كتابة سيرتها ويفهم لغتها، ويطلق جماح الرغبة في وعي مسؤوليتنا في بناء الجدار الإسرائيلي المهين، من دون أن يذكره أو يتطرق إليه، هو خطوة نحو الأمام، قد تكون أهم من قرار محكمة العدل الدولية التاريخي الذي نبتهج به هذه الأيام. ألا يجدر بنا أن نعالج مشاكلنا «بالتفكير الجانبي» على طريقة إدوارد دو بونو بدل «التفكير الأرسطي»، أي ان نمارس «الزوربة» الفكرية الثقافية ونتفنن في اختيار الطرق الأنسب. وهي بالتأكيد ليست السبل المزدحمة بالحلول، والتي من فرط الازدحام أصيبت بالسكتة القلبية.

مساجين جدار القهر وهو يتحول إلى حائط مبكى جديد لا يبعد سوى كيلومترات قليلة عن ذاك الذي يحج إليه اليهود عويلاً ونواحاً، كانوا قد حوصروا من كل جهة باسم الأخوة ووحدة الدم والمصير، قبل أن تجهز عليهم إسرائيل بشباكها، وهم في مقامهم الأخير الذي وصلوا إليه هذا، لا ينفعهم الاعتذار، ولا يخرجهم من وراء الخرسانات الإسمنتية التي تلف أرواحهم وتخنق أنفاسهم، لا القرارات الدولية ولا المنظمات العالمية. وإن كان ثمة من يريد لهؤلاء المعذبين الخلاص فليبدأ برفع السواتر والحجب والأقمطة عن العقل أولاً، ولينظر بعينين مؤهلتين لرؤية الأفق مفتوحاً واسعاً ورحباً. ففاقد الشيء لا يعطية وشعوب الأقفاص لا يمكن أن تمنح الفلسطينيين طعم الحرية.

[email protected]